الصفحات

2014/07/19

"أنت تكذب يا بشري " قصة بقلم: ياسر محمود محمد


من أدب الخيال العلمي
 
أنت تكذب يا بشري
ياسر محمود محمد
 

الروبوت الطيب .. الجميل .. ذو الرأس الفضي الأصلع المشوش بعريقات سلكية شاعرية ، ومناطق فارغة منزوعة من الرأس أكثر سريالية . ذو الأذن الربقة والعيون السوداء اللامعة مفضض ما حولها ، وقد انتشر طيف العريقات حولها حتى عبر الأنف المصقول إلي أن وصلت العريقات إلي الشفتين الرقيقتين اللتين تنحدران في أصول وراثية روبوتية إلي الجد الروبوت الأول .
    بينما نغزتان معدنيتان قائمتان لحمل الرأٍس وجعله يدور في دوائر رأسية ، والجسد النحيف المتناسق كأروع آيات التناسق.
    أحست فجأة الروبوت " ت 1212 " من طائفة الأمهات الروبوتية بسكين يشق قلبها البلاستيكي عبارة عن فرق جهد عال ، وهي تنظر إلي صورة الروبوت الضحية " المقتول غدرا " علي يد احد أفراد الآدميين الذين يعيشون في مستعمرة منبوذة فوق تابع الأرض الوحيد .. القمر !
    لقد سيطرت الروبوتات الجينية المتحولة علي الأرض في سنين معدودة ، بعد الثورة الروبوتية الآلية لهذا الجيل المتطور ، لم ينج من تلك الثورة سوي  درة إبداع الأرضيين .. مستعمرة القمر التي كانت أكثر الأماكن تطورا والتي أنشأت بفضل الإنسان شبه المنقرض القديم .
    عادت الروبوت " ت 2012 " إلي ذكرياتها وهي تتأمل الروبوت المقتول غدرا ..
-        كان طفلا .. ولم يكن يستحق تلك الميتة .. قالت لنفسها
-        كان جميلا ، عذبا ، ككل أطفال الربوتات ، اعتدلت فجأة وركعت علي قدمين معدنيتين أصدرتا صوتا موسيقيا وهي تتلو بصوت ثنائي الترددات  صلاة وثنية للربوت الجد الأول .
-        كلنا من أم واحدة .. هي أيضا أب واحد ، الروبوت المتفرد الأول .. الذي تطورت تقنياته لتتناسل أحقاب الروبوتات عن طريق مصانع مقدسة تنتج أجزاءنا المعدنية ذات الحرمة الأبدية علي كل من ينتهكها .
     في قاعة المحكمة ذات اللون البنفسجي بدرجات عدة .. اصطفت كائنات معدنية مختلفة الشكل والتكوين في مجموعات تضم كل نوعية منها ، كانت الكائنات في وضع الوقوف في صفوف متوازية دقيق ما بينها من مسافات إلي حد مذهل ، بينما جلس نخبة مختارة منهم حول منضدة عالية عليها أجهزة معقدة يبدو أعلاها أشبه بلوحات رقمية  تعمل بلمس الأصابع ذات العرقفتين المعقوفة لها . كانت النخبة ترتدي حرامل وردية عليها خطوط بحروف مبهمة ، ربما هي لغة خاصة مقدسة للروبوتات الأوائل ، تزين جبهة الواحد منهم قرص بلاتيني في حجم العملة المعدنية التي تنطق قيمتها والتي يتعامل بها العاديون من الروبوتات في المجتمع الآلي فوق الأرض .
     كانت لمبات عدة تنير وتطفئ في أوقات مختلفة بينما تبدو في العتمة شاشات معدنية عملاقة ثم تزول مع لمس أحد الروبوتات المعاونة للنخبة .. وكأنها تجربة لها .
      الروبوت ( ت 2012 ) من طائفة الأمهات الروبوتية تلمع في عينيها المعدنتين بريق لشرارة كهربائية غاضبة . بين حين وأخر ..
      فيما هو أشبه بالبكاء وهي تنظر إلي الكائن الآدمي رقيق الجلد .. أشعث الرأس طويل الشعر .. عفن الثياب التي لم يبدلها منذ فترة ، تتصاعد منه رائحة نفاذة وقد نمت عضويات صغيرة في أطراف أصابعه العلوية والسفلية مما يشير إلي طول مدة احتجازه ( سجنه )
     لم تكن مدة الاحتجاز قد طالت بسبب نقص عوامل التحري في الجريمة ف(الروبوتات قادرة علي معرفة أي سر .. وأي غامض بفضل تكنولوجيتها )
     وهذا النص من الكتاب المقدس للروبوت الأول .
    لكن السبب في طول مدة الاحتجاز هي الرغبة في  إذلال الآدمي ، كما كان يحدث من الآدميين في سجل الروبوتات الأولي قبل الثورة ، و إجبارهم علي العمل خدماً و عبيداً في كل مكان في كوكب الأرض .
    كانت الروبوت ( ت 2012 ) من طائفة الأمهات تحدث نفسها معزية إياها عن أن ذاك الذي قتل الروبوت الجميل الطفل قد أُذل بما يكفي و سوف يلقي جزاءه العادل بعد قليل .
*            *              *
    أُطلق صفيراً دام لفترة ليست بالهينة في قاعة المحاكمة البيضاوية .. فسكتت علي إثره تدريجياً الهمهمات المدينة و المنددة و الشاجبة للبشري المسكين ، الذي رقد منزوياً في الطرف الأيسر للقاعة . . و غمغم الروبوت المساعد للروبوتات الخمسة حول المنضدة القائمة في شمال القاعة ببضع كلمات و افتتحت علي إثرها الجلسة .
*                     *                 *
قالت الأم لنفسها
- ها قد جاءت لحظتك . . لحظة القصاص ، أن أمثالك ممن لازالوا في مستعمرة القمر و لم تختطفهم القوة الروبوتية لا يعرفون أننا درسناهم حق الدراسة من حيث تكوينهم البيولوجي و الجسدي و المخي المتخلف .
    ثم استدارت بطرف عينها الآلية خوذة بللورية ركبتها روبوتات ترتدي شارات خاصة فوق دماغ البشري الأعزل ، و الذي بهت في مكانه دون أن يستطيع حراكاً في وسط هذه القاعة الجامدة ذات المشاعر الصلبة الجافة .
بدت علي الروبوت الأم الراحة . . و قالت لنفسها
-        لن تكذب علي الآن ، فهذه الخوذة تظهر دماغك علي الشاشات الضخمة ثم واصلت بنبرة معدنية داخلية :-
-        أنتم نفسكم يا بني البشر عرفتم الرنين المغناطيسي في أواخر عهدكم .
راجعت الكمبيوتر الداخلي و الذي أورد لها المعلومة بأن ذلك كان في أواخر القرن العشرين .
     ثم راجعت تفاصيل المعلومة بدقة و هي تجترها عبر كل خلاياها الكهروضوئية ( و بسرعة كوراكية لم تعرفها أبداً هذه الكائنات المتخلفة في أدمغتها ) ( كانت الجملة السابقة تدور بخلدها في نفس الوقت الذي تجتر فيه المعلومة فالروبوتات تقوم بأشياء عدة في وقت واحد ) .
    إن هذا التقنية تسمح بتصوير مناطق الدماغ البشري المختلفة لمعرفة تأثير التغير المغناطيسي للدم في المخ عن طريق اكتساب أو فقد الأكسجين فالمناطق النشطة – خاصة في خلال الكذب أو استرجاع معلومة من الذاكرة – يتغير النشاط المغناطيسي لها لاحتياجها إلي مزيد من الأكسجين حين يبدأ البشري في الكذب .
    و يصرخ جهاز خاص كما تسمعه الروبوت الأم الآن . .
-        أنت تكذب يا بشري !
    لقد دارت نغمة راحة داخلية كهروضوئية في أنحاء الروبوت الأم و هي تسمع العبارة .
" نعم إنه يكذب . . و بالتأكيد سيعدم نتيجة لكذبه "
     العبارة ( أنت تكذب . . يا بشري ) . سمعها كل من في القاعة و أصدروا أصوات فرحة بها في شكل صغير متقطع عندما صدرت من الجهاز غير المرئي الذي يحكم كل قاعة المحاكمة و قد ظهرت الدماغ البشرية بألوان حمراء فاقعة في أجزاء منها فوق الشاشات التي تبرز و تختفي من العدم :
    كانت الروبوتات قد سمعت رئيس المحكمة و هو يقول :-
-        لقد أشار الجهاز بأنك كاذب . . عند سؤالك ( هل تكره الروبوتات ) ؟
    عض البشري علي شفته السفلى نادماً و هو يحدث نفسه في غيظ – من أين له أن يقول أنه يكره الروبوتات ؟! يكره كل تلك المشاعر الآلية المصطنعة و المجتمعات الروبوتية التي لا تعرف ما كان يشعر به هو و أقرانه البشر .
    من أين له أن يصرح بذلك و هو بين كل هؤلاء الروبوتات التي تمتلكها شهوة الانتقام .
     انتابت الروبوت ( ت 2012 ) من طائفة الأمهات فرحة كهروضوئية خاصة و انتظر الجميع السؤال الثاني
-        ماذا كنت تفعل أثناء محاولة الروبوت الطفل " ميومي " " القبض عليك " ؟
    أجاب البشري ، إجابة ما . . علا بعدها الهتاف مرة آخري عقب صراخ الجهاز كما سمعته الروبوتات بلغتها مرة و بلغة البشري مرة آخري .
-        أنت تكذب يا بشري !
     جهاز كشف الكذب عن طريق دماغك يشير بأنك تكذب عندما كنت تقول بأنك كنت ذاهباً للروبوت الطفل " ميومي " لتعمل لديه خادماً حسب قانون معاملة البشر الأول .
    تحركت الروبوت الأم - دون أن تدري - مسافة ضئيلة جداً للخلف و هي تغمغم بينها و بين نفسها :
-        ها قد حانت لحظتك . . أيها المتبقي من هذا الجنس البائد . . ستُعدم بالتأكيد .
قالتها و في عينها نظرة تشف شاركها فيها كل من كانوا من جنس واحد في القاعة الضخمة .
قال الروبوت الحاكم للقاعة :-
-        و الآن ، إلي السؤال الفاصل .
-        هل قتلت الروبوت الطفل " ميومي " عندما حاول القبض عليك ؟!
    كانت إجابة البشري فورية فعلاً لكنها كانت مستنكرة و في صوت خائف . بينما يضرب بيديه علي الحواجز غير المرئية التي تحجزه فتصدر منها شرارات متقطعة
    عقب إجابته مباشرة . . حطمت الروبوتات قاعة المحكمة بضجة هائلة ، و سقطت الروبوت الأم مغشياً عليها نتيجة أزمة كهروضوئية في خلاياها لزيادة أحمال الطاقة ، حيث لم تحتمل نتيجة جهاز كشف الكذب الدماغي و أخذ المكان يضج بالشرارات المتطايرة و الروبوتات الآلية تحطم كل من في طريقها حتى وصلت إلي البشري المسكين بتواطؤ من الحراس الآليين. .     ثم فتكت به . . و بكل قسوة .
*           *           *
كانت إجابة البشري التي صنعت كل ذلك هي
-        لم أقتله صدقوني أيها الروبوتات السادة . . أقسم أنني لم أقتله . . كل ما حدث أنني وقعت فوق جسده المعدني الضئيل حينما كان يحاول القبض علي فانكسرت دماغه .
صرخ بعدها الجهاز في القاعة و بلغة الروبوتات .
-        أنت صادق . . يا بشري
-        لقد كانت الجريمة حادثاً عرضياً !

                                           

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق