الصفحات

2014/07/05

تيمة "الاستبداد الشرقي" عند الحاكم بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب بقلم: ناصر العزبي

تيمة "الاستبداد الشرقي" عند الحاكم
بين ثقافة الشرق وثقافة الغرب
ناصر العزبي
عاد الكثير من الكتاب المسرحيين إلى مناطق كثيرة في تاريخ الشرق الإسلامي، وكذا إلى شخصيات حكمت أو تولت الخلافة على بلاد العرب والشام والفرس وغيرهم ممن حكموا بلاد الشرق، كشخصية الحاكم بأمر الله أو عمر بن الخطاب أو عمر بن العزيز أو ابن المعتز أو محمد علي .. أو غيرهم، وحاولوا أن يوظفوا ذلك مسرحيا ، وقد خلفوا أعمالاً كثيرة ربما يصعب حصرها، واختلفت المعالجات الفنية في تلك النصوص بين معالجة تحاكي التاريخ وبين معالجات تحمل وجهة نظر كاتبها، ومن بين تلك النصوص تبرز صورة الحاكم في منطقتنا بما تحمله من ثقافة تختلف عن ثقافة الغرب، وتؤكد معظم النصوص على تيمة "الاستبداد الشرقي"، وعلى مساحة كبيرة من الدموية تحيط بأحداث الخلافة أو تولي الحكم،  بينما أثرت بعض النصوص اختيار ما ندر منها ممن نشد العدل وطبقه في حكمه وإن لم يسلم ممن تعارضت مصالحهم مع ذلك، وتتمثل ثيمة الاستبداد الشرقي بين استبداد الحاكم وانفراده بالحكم وتأليه ذاته، وبين الحاكم الإسلامي المتخاذل الذي يحرص على استمراره في الحكم حتى وإن أتى ذلك على حساب الدولة أو المحكومين .
ونذكر هنا بعض النصوص المسرحية لبعض كتابنا، ومنها ؛ "علي بك الكبير" أحمد شوقي، "شجرة الدر، وغروب الأندلس" عزيز أباظة، "شجرة الدر" توفيق الحكيم ، "القضية" لطفي الخولي ، "سر الحاكم بأمر الله" علي أحمد باكثير، "مأساة الحلاج " صلاح عبد الصبور، "ست الملك" د. سمير سرحان ، "حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله" السيد حافظ، "الظاهر بيبرس" د. عبد العزيز حمودة ، "عنترة" يسري الجندي، "الكوكبي" محمد الشربيني ، "طلوع النهار أول الليل" عبد الحافظ ناصف، ... وغيرها  
ولمحمد أبو لسلاموني نص ـ لا يحضرني الآن ـ بعنوان "ديوان البقر" صدر ضمن سلسلة "مختارات فصول" ويتناول فيه سياسة الجماعات الاسلامية ولغة العنف والإرهاب، وهدف السيطرة على الحكم، وهو نفس المناخ الذي يعرضه نص "اللعنة من فوق المنبر" للكاتب عبد الغني داود الذي يستلهم فيه أحداث مسرحيته من التراث والتي يوضح منها أنها في صيرورة دائمة من استمرار للتناحر والصراعات على السلطة داخل المنطقة العربية وكأنها لعنة حلت  عليهم من فوق المنبر.
وبمحاكات المسرحيات للقديم وكذلك للحديث، تتجلى ثقافة الشرق لتتأكد منها ثيمة الاستبداد الشرقي، والتي تختلف عنها ثقافة الغرب التي تؤصل للجماعية والديموقراطية لا للديكتاتورية والفردية، فالغرب يتمسك بقيمه المستقاه من ثقافته، فالقيصر الذي يحقق الانتصارات يغتر بنفسه ويُصبح مؤلهاً بما يعطي لنفسه الحلم بأن يحكم مدى الحياة، إلا أن هذا يتعارض مع الديموقراطية والدستور الحاكم للبلاد، ولا يقبل رجال الدولة التحايل في ذلك أو المداهنة، ويجتمع أعضاء مجلس الشيوخ على رفض تحقيق هذا الحلم، لينتهي باغتياله، وهذا يعني أن الدموية أيضاً تحيط بصراعات السلطة إلا أنها هنا من أجل الحفاظ على المبدأ، ولنا أن نعتبر أن الشطط في فكر القيصر هو الذي قاده لحتفه .
****
في "ذئاب بني مروان" التي كتبها محمد خليل في أواخر السبعينيات ـ نشرت عام 2002م ـ نجد الكاتب يلجأ إلي التاريخ حباً لتراثه الإسلامي، إذ عمد إلي فترة مشرقة من التاريخ الإسلامي مستدعياً إحدى شخصياته العظيمة "عمر بن عبد العزيز" نموذجاً للحاكم الإسلامي العادل ليلقي عليه الضوء ليعمق فينا أثراً أرد الوصول إليه، وقد التزم "خليل" التاريخ، فاستعرض السيرة الذاتية في قالبها المحدد معتمداً على معلومات تاريخية ثابتة عن "ابن عبد العزيز" ثامن الخلفاء الأمويين، وخامس الخلفاء الراشدين، وقد استدعاه عمه الخليفة عبد الملك بن مروان إلى دمشق عاصمة الدولة الأموية وزوَّجه ابنته فاطمة، وعينه أميراً على إمارة صغيرة بالقرب من حلب، واتسعت إمارته لتشمل الحجاز، ثم تولى الخلافة بوصية عمه بعد وفاته، وسمي الخليفة العادل لمكانته وعدله في الحكم حيث عمل في الناس بالحق والعدل، وانتشر في عهده الرخاء في أرجاء البلاد حتى أن الفقراء انعدم وجودهم في عهده، وقد كان يختار ولاته بعد تدقيق ومعرفة كاملة بأخلاقهم وقدراتهم، وقيل أنه قتل مسموما على أيدي بعض أمراء بني أمية بعد أن أوقف عطاياهم وصادر ممتلكاتهم وأعادها إلى بيت مال المسلمين، ولم يمكث في خلافته إلا عامين وخمسة أشهر، وعند وفاته لم يكن بسجنه سجيناً واحداً .
وقد عرض الكاتب تسلسل الأحداث وفق ترتيبها، !ذ بدأ باستعراض موقف الخليفة  "سليمان بن عبد الملك " ليكشف عن جبروته وظلمه ليكشف خلال عرضه عن نموذج الحاكم المستبد وكذا عن نموذجين أخريين مستبديين ـ هشام ، يزيد ـ حاربا عمر من أجل السلطة أو إقصائه عنها، ورغم من كل المكائد تستقر الخلافة في يد عمر ليتولى الحكم ويُظهر زهده وتقشفه، ويُعيد الأراضي والأموال التي وُهبت له ولزوجته ولأولاده إلى بيت مال المسلمين، ثم يطلب من بني أمية إرجاع ما أخذوه بدون وجه حق من هبات وهدايا، ثم يعزل الولاة الظالمين ويعيِّن بدلا منهم ولاة عُرفوا بالتقوى وحسن السيرة، ويُسقط الجزية عمن أسلم من أهل بلدان الفتوحات ، وليفتح بذلك طاقة من النار على نفسه حيث تتوالى المشاهد ويزداد الصراع بينه وبين آل سليمان والأمراء الرافضين لنزع ملكياتهم، ويستمر "عمر" على عزمه دون تراجع، في ذات الوقت الذي تزداد أحقاد الأمراء ضده، وتظهر شخصيات أخرى في الإتجاه المضاد له بزعامة "هشام " الذي يقوم بالتخطيط ـ مع ابن الوليد ـ لزعزعة استقرار "عمر" وليتطور ذلك إلى التفكير في التخلص منه، ولتكون النهاية بنجاح ما خططوا إليه بقتله بالسم .
هكذا تسير الأحداث في تتابع وتصاعد درامي تتزايد معه حبكة العمل واشتداد الصراع، لم يتردد عمر في عزيمته، وبالرغم من عدالته وهدفه النبيل إلا أن تحقيق الهدف ربما كان يحتاج إلى تأن ومشاركته لمن من حوله في القرار، لقد كان يستشيرهم ولكنه في ذات الوقت مستقر على القرار، وربما كان ذلك استبداداً في ثوب جميل إلا أنه واحد من صور الاستبداد بالرأي، فمجتمع الفساد لا يتم بتره وفنائه وانما يتم تسيسه وترويضه خاصة وأن بعض مطالبه قد نختلف عليها أو تختلف عليها بعض الفتاوي، حيث كانت كل قناعته مطلقة لا مساحة فيها للنسبية، ولو أنه انفتح على مجلس يستمع إليه وأخذ برأيه بشكل فعلي فلربما خرج به من فرديته التي اعتبرها سقطة درامية أتت على حياته.
****
في مسرحية "سيف الله" يقدم الكاتب محمد أبو العلا السلاموني نموذجاً أخراً للحاكم الإسلامي العادل، "عمر بن عبد الخطاب"، ومعه كانت شخصية البطل المظفر المنتصر دائماً "خالد بن الوليد"، والمسرحية بشكل عام تعالج فكرة العدالة النسبية بين منظور كل من القائدين، وكلاهما موثوق في رأيه، وعزمه، وإخلاصه للإسلام، إلا أن كلا الرأيين يختلف عن الأخر، ومن هنا تبرز نسبية العدل، وخالد نفسه يؤمن بعدالة عمر إلا أن إيمانه بنفسه كان أقوى، وكذا اعتزازه بذاته منعه التسليم له والاعتراف بها.
لم ينتبه بن الوليد إلى أن قوته وذاته استمدهما من الجموع من حوله بما جعله يؤله ذاته باعتباره الأفضل في الجماعة لا الأفضل بها، وتلك الرؤية الذاتية التي جعلته يجد في نفسه القائد المثالي هي السقطة الدرامية التي أدت إلى سقوطه، واضطرت ابن الخطاب لعزله من منصبه كقائد للجيش بمجرد أن تولى الخلافة بعد وفات أبي بكر، ..
لقد تطورت شخصية خالد بن الوليد من قائد وإنسان ـ قولاً وفعلاً ـ يسعى إلى تحقيق الصالح العام بتوحيد الصفوف منعاً للانشقاق أو الردة، إلى رجل مفتون بنفسه وقوته لتوالي انتصاراته التي لم تعد تشبعه، وتلك الفتنة هي ذاتها التى كانت سبباً في عزل عمر له حيث خشى أن يفتن الناس به فيؤلهوهه .
لقد أوقعته الثقة المفرطة أو الفتنة بالذات في أخطاء ليست من العدالة بشيء، فجعلته يبيح لنفسه قتل مالك وأتباعه لأسبابا منها ما يرتبط بذاته التي كانت تميل لـ "ليلى" حبيبته سابقاً والتي صارت زوجة مالك ..، لقد سيطرت عليه مثاليته التي منعته التمييز بين العدالة المطلقة والعدالة من منظور ذاتي، وهنا تبرز نسبية العدالة، ويتضح قصدنا من تلك النسبية في حوار بين الإمام وخالد حيث ورد ؛
الإمام : كانت لديك الرغبة في قتلهم .
خالد : لا شأن لك برغبتي .
الإمام : لماذا تزوجتها إذن ..؟
خالد : هذا شأني .
الإمام : لا تقل شأني وشأنك .. أنك تتصرف بما يمس العدالة والقانون .
خالد : وما الذي تريده مني ، أن أعترف بأنني قتلت مالك ..؟ ليكن ؛ ألم يكن مرتداً وخارجاً على النظام والقانون ..؟
الإمام : ليقتل إذن باسم العادلة والقانون لا لمجرد أنك ترى ذلك يا ابن الوليد . أتسمع .
هكذا ، وليصر خالد في على عدم سمع رؤية أخرى غير رؤيته الذاتية، وبالتالي لا يرى أخطاءه ومن ثم لا يعترف بها، وبواصلته للانتصاراه افتتنت الجموع به أكثر للدرجة التي جعلت الناس ينادون به خليفة، فما كان منه إلا أن اعتبر نفسه الأحق بالخلافة بعد موت أبي بكر، ويعبر عن ذلك في حواره .. حيث يقول :
خالد : هل تسمعون ؟ حينما يموت الخليفة الجديد .. ستكون الخلافة لي بالتأكيد .. لأن الجيش لن يظل على هذا العدد .. فسينضم له كثيرون من جميع الأقطار .. " ويستمر في حواره ووهمه إلى أن تمنعه زوجته " ليلى" من الاسترسال قائلة :
ليلى : خالد .. الخليفة الجديد هو عمر بن الخطاب .
ثم تخبره بقرار عمر الصادم بعزله من قيادة الجيش وتنصيبه أبي عبيدة بدلاً منه، ومصادرة نصف ما يملكه عقاباً على أخطائه، ولكن خالد أمام كل ذلك لم يعترف بخطأه وظل يتهم عمر بالظلم له، إلا أن الإمام يقول له ؛
الإمام : .. لم يفعل ذلك إلا للتاريخ
خالد : وماذا كان ذنبي ..؟
الإمام : وحتى لا يأتي بعدك من يفعل مثلك مدعياً إنما يفعل باسم الحق والدين .
****
وفي مسرحية "طلوع النهار أول الليل" الصادرة عام 1999م، يسرد محمد عبد الحافظ ناصف أحداث نصف يوم فقط، وبالتحديد مساء اليوم التاسع من ربيع الأول من العام السادس والتسعون بعد المائتين، منذ بداية الليل وقبل طلوع النهار، وما جرى في تلك الليلة من جملة أحداث تكشف عن بداية انهيار الدولة العباسية، فالمسرحية ترصد لحظة تولي ابن المعتز ـ الشاعر العربي المعروف ـ للخلافة،  وتكشف فساد السلطة في تلك الفترة حيث تسيَّر الأهواء شئون الدولة، وتنتهي فترة خلافته بطلوع النهار حيث تستغرق مدة خلافته ساعات معدودة .
يقول بن المعتز مخاطباً الطبري : " بحدة "
             لا .. سيوفهم كانت أقرب من الحروف،
             على طرفي لساني ياطبري .
             تركتهم يأخذون " المثنى " حيث قتل
             قتل بسببي ، بسبب الحق
             ذبحوه مثل الخراف
             قلتها وبايعت الصبي
            وحكمت الدولة النساء والجواري
            وظللت صامتاً
والمسرحية تبدأ بتساؤل لظالوم جارية المقتدر ومربيته عن سبب جريان الخيانة في أوردة العباسين حيث نقض ابن حمدان العهد وقام بعزل المقتدر، ونعرف من الحوار أنه سبق وأن انتزع الخلافة من المعتز، وفي مشهد تالي نجد رئيس الجند يستدعي القاضي ليشهد تولية عبدالله ابن المعتز ثانية، ..
وفي مشهد ثالث نجد ابن حمدان يأمر القاضي اتمام تنصيب ابن المعتز ونجد ابن المعتز لا حول له ولا قوة، ونشهد بعد ذلك فاصل من المؤامرات والمكائد والتدبير لقتل ابن حمدان، وتنتهي تلك الليلة بعودة المقتدر وتنصيبه الخلافة ثانية، حيث تم توريط ابن المعتز وتلفيق تهمة الزنا له مع جاريته، ولتنتهي المكيدة بتجريس ابن المعتز  في موكب بالشارع راكباً بالعكس على حمار مقطوع الزيل وخلفه جاريت خزامى عارية الصدر، مع قيام أبي الشوارب برجمه بالحجارة حتى تنتهي حياته .
في تلك الفترة يكشف لنا النص عن ثقافة الفوضى ـ من فساد وبطش ورشوة وغياب للأمن ـ التي تتسبب في تأرجح الخلافة في فترة قصيرة لمرات حيث كانت السيادة فيها للخيانة والمؤامرات، والناس بين مؤيد ومعارض ، وبين أتراك وعباسيين، لتقدم المسرحية وثيقة مبسطة لفساد الحكام واستبداد الدولة المستشرى في تلك الفترة .
****
و" رجل في القلعة " المسرحية التي كتبها محمد أبو العلا السلاموني في بداية الثمانينات وحصل عنها على جائزة الدولة، يحكي فيها عن أحداث جرت في أوائل القرن التاسع عشر، بين محمد علي باشا والمناضل عمر مكرم، وكيف كان خلع خورشيد باشا، حيث استعاد الكاتب من ذاكرة الأمة واحدة من الثورات الشعبية العظيمة التي انبثقت عن إرادة الشعب لتؤكد وعيه الديموقراطي في اختياره لمن يحكمه، فخلع خورشيد ونصَّب محمد علي واليا عليه، والأحداث تبدأ عقب ذلك بفترة حيث انفرد محمد علي بالحكم وحده متخلصاً من مشاركة الإرادة الشعبية وكذا خيانته للوثيقة التي كان قد حملها إليه مكرم مفوضاً عن الأمة، إذ قرأها عليه ؛ " اليوم نغلق بك يا محمد علي باشا صفحات كانت أحلك ما مر بمصر .. كي تبدأ بك صفحات نجو النور ونحو الحريات ..، المصريون يريدون الوالي العادل فهل ترى في نفسك هذا الإنسان ؟ .. أصعب من اختيار الوالي أن نلزمه بالعدل فهل تختار ؟ " ..
ولأن محمد علي هو صانع حضارة مصر الحديث فقد كانت له إنجازاته، وقد كان يتسم بالرومانسية تلك التي استفاد منها السلاموني فجعلها تكأة إذ جعله يعاني اكتئاباً ناتجيً عن إحساس بالذنب جراء ما اقترفه برفيق الكفاح مكرم، ذلك الذي أرادت زوجته علاجه بالزار، ولكن دبوان قرر مواجهته بعمر مكرم، مستغلا الشبه الكبير بين عمر وبين ابنه صالح، وليبدأوا لعبة المسرح داخل المسرح بطريقة الفلاش باك .
لقد حركت الوالي طموحات وتطلعات قديمة، حيث أن حلم القلعة كان يراوده، وما أن دخلها بدأت تيمة الاستبداد الشرقي تسيطر عليه، ونفهم ذلك من خاطب له مع زوجته إذ قال :"ستكون القلعة ملكك يا حرم الباشا .. وسيجري النيل الخالد بين يديك .. وستصبح مصر المحروسة رهنا بإشارة زوجك "، والزوجة أيضاً كانت تحلم بالعرش، وقد لعبت دورها في منحه ثقة تجعله يبتعد عن مكرم وجموع الشعب التي كان يستمد منها قوته، وبمرور الوقت نجحت ـ أو نجح دون أن يشعر باعتبارها رغبة داخليةـ أن يصبح حاكماً فرداً، يستأثر بالرأي وبالقرار، وهنا تتبدل قيم العدل بتيمة الاستبداد الشرقي والتطلعات الفردية، اذا بدت على السطح رؤيتان طموحتان لكل من الوالي ونقيب الأشراف، كل له رؤيته .
****
مسرحية "حلاوة زمان أو عاشق القاهرة الحاكم بأمر الله" لـ السيد حافظ، وفيها حاول المؤلف أن ينصف الحاكم بأمر الله الخليفة الفاطمي الذي تضاربت الأقوال والروايات حول شخصيته وتصرفاته الغريبة حتى أُشيع أنه مجنون، ويراه حافظ ـ ومن قبله علي أحمد باكثير في مسرحيته "سر الحاكم بأمر الله" ـ أنه غير ذلك وأنه رجل أمعن في الزهد حتى تماست نفسه البشرية مع مرتبة الكمال الإلهي الذي ينشد العدل، وقد استطاع حافظ في هذه المسرحية التاريخية طرح كثير من الأطروحات الاجتماعية والسياسية والدينية، وقد جاء النص حافل بالصراعات ـ عاطفي و نفسي ـ على أكثر من مستوى بين الحاكم بأمر الله وأخته ست الملك، وبينه وبين الراقصة عزيزة ، وبينه وبين أخت عزيزة ، وبين ست الملك وبين داوس، ..
لقد اختار حافظ شخصية تاريخية اختلفت حولها الروايات بين تناقض وغموض، وقدم مسرحيته بتفاصيل هائلة وشخصيات كثيرة، فسرد وقائع، وأورد أحداثاً استتبعها بقرارات كشفت عن اضطراب تلك الشخصية، ولا أناقش هنا موقفي منها منصفاً أو رافضاً، وإنما فترة حكمه تعد من الفترات التي تتجلى فيها بوضوح ثقافة الشرق وصورة الحاكم الإسلامي الذي يختلف فيها عن حكام الغرب، فبدا إنساناً يتأثر فيصدر قرارات عاطفية أو انفعالية لا عقلانية، ووجدناه يرى في نفسه مثالاً للعدل فتسيطر عليه الفردية ولا يتردد في إصدار قرارات غير مسبوقة في التاريخ، منها ماقد يكون مثيراً للضحك بأن أصدر مرسوما أمر فيه سكان القاهرة النوم نهارا وفتح الدكاكين والمتاجر ليلا، وكذا منع أكل الملوخية، كما أصدر مرسوماً بمنع استخدام الرجلين في العجين، وقراراً يمنع التبول التبول في الشارع ويعاقب من يقوم بذلك بالخصي أوالجلد، ..وغيرها ، ومنها أيضاً ما قد يعد مأساة إذ أنها دموية غير مقبولة كأن يأمر بقتل عزيزة مع عشرين ألف امرأة، أو أن يصدر قراراً بفصل حمامات النساء عن الرجال بعد أن يأمر بقتل الموجودين داخل الحمام المختلط ..!
كما أن كواليس الحكم مليئة بالمؤامرات والدموية، والصراعات تحيط برجال الدولة وتحكم علاقاتهم، فالمسرحية تبدأ بحكي عن كل من جوهر الصقلي والمعز لدين الله الفاطمي وعن خلفاء الفاطميين الثلاثة المعز والعزيز والحاكم، والظروف التي تولى فيها الحاكم السلطة لتكشف عن اختلافات بين رجال الدولة حول الوصاية على عرش الحاكم، حتى ساءت الأمور فيما بينهم وصارت الكلمة للسيف لا للسان، فنسمع من ست الملك عن محاولة قتل ابن عمار للحاكم من أجل السلطة وتنصحه بمغادرة القصر حرصاً على حياته، أثناء ذلك يموت قاضي القضاة ويعين غيره، ويأمر الحاكم بأمر الله بإعدام برجوان باعتباره خائن، ويتبع ذلك بسلسلة أعمال دموية، فينتقم من قاضي القضاة ويأمر بقتله وإحراق جثته لأنه أمر بجلد رجل لم يرض أن يزوج ابنته لخادم القاضي ألف جلدة حتى مات، ثم تظهر عزيزة لتنفذ مؤامرة شهبندر التجار وابن داوس بأن توقع بالحاكم في حبها حتى تقتله بالسم، .. ثم تكشف لنا الأحداث عن كبار التجار وقادة الجيش بدأوا التخطيط ضد الحاكم بما ينتج عنه اختفاء القمح من الأسواق، وبعلم الحاكم فيتوعد التجار إن لم يُوجدوا القمح في الدكاكين، ونعلم أنه قتل عديداً من رجالات قبائل كتامة، ويفرض على ست الملك نوعاً من الإقامة الجبرية، ثم يعود ابن الدواس من المغرب راغبا في التخلص من الحاكم فيناقش ست الملك في تجاوزات الحاكم ونقمة الناس عليه وخاصة التجار فترد ست الملك بعنف وتتهمه بأنه يريد العرش حتى وإن عبر لها عن حبه، فينكر أنه يريد العرش بل يريد تخليص المسلمين من كابوس الحكم، ويسمع الحاكم ذلك فيمد سيفه إلى ابن دواس ويطلب منه أن يقتله إذا كان في ذلك خير المسلمين ليدخل معه في حوار حاد يناقشه فيها الحماقات والمجازر التي ارتكبها، فيعلق الحاكم بكل مرارة : بأن التاريخ سيشوهه لأن من يكتب التاريخ أعداء عدل الحاكم …
ونصل إلى اللقطة الأخيرة من المسرحية ـ أسوقها لأهميتها من اللحظة الراهنة ـ حيث ينضم شهبندر التجار إلى ابن داوس وست الملك فيخبرهما بأن البلاد والعباد ضجوا من الحاكم وبالتالي وجب قتله فتصعق ست الملك لهذا القرار القاسي تخرج صارخة، ثم يبدأ مشهد تجنيد من سيغتال الحاكم بين ابن دواس وشهبندر التجار وشاب متعصب للإسلام فيوغرون صدره من ناحيته : هذا الحاكم بأمر الله قد كفر وادعى أنه الله وأنه يحيي ويميت وأن لا إله غيره " وعندما يمتلئ الشاب حماساً بعد شحنه من قبلهما قال " سأقتله غيرة لله وللإسلام "

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق