الصفحات

2014/07/17

رضاعة موءودة فصل من رواية "هذا فراق بيني وبينك..!" بقلم: طه حسن

 رضاعة موءودة
فصل من رواية "هذا فراق بيني وبينك..!"
طه حسن
يضيف "عبد الخناس" و"غروش" » قيمة  «   أخرى إلى عملهما عن طواعية بتبليغ الشاف زنكاوي معلومات عن المستخدمين الإناث. يخبران زنكاوي بالمستخدمة التي وضعت حملها، وتستفيد من ساعة الرضاعة القانونية رغم أنها لا تستطيع  إرضاع مولودها لسبب من الأسباب... . ضبطت ربيعة ما ينقلانه من أخبار المستخدمات، أبلغت زميلاتها  بما يفعلان. قالت وصال:
    -  إني على علم بذلك منذ يوم ترسيمهما. إنك تنتظرين المستحيل من زنكاوي وعبدالخناس وغروش على مستوى الزمالة في العمل...
عقبت ربيعة:
   -  اللي فيه شي حاجة راه فيه.
   أضافت وصال:
   -  أتعتقدين أنهما يتلقيان  في دهاليز الشركة وأروقتها  دروسا في القيم الإنسانية  وآداب الزمالة؟ إنهما لم يستمسكا من بيرو- قراطوية  زنكاوي إلا بأسباب الخوض والتجسس  والجور... . لو استطاع  زنكاوي  إلغاء  ساعة  الإرضاع  القانونية  لفعل وهضم  حق المولود في الرضاعة الطبيعية  ونزع  منه الإحساس بالأمومة. سبق لزنكاوي  أن قال لي  ذات مرة  بالحرف: "... راه كاينة الرضاعة الصناعية. حنا كنقدمو يوميا لابروبوزيزيون في الغذا، وكنعطيو  لابريم  في آخر السنة...".
    تساءلت ربيعة عن كفاية الساعة في تنظيف الرضيع وإرضاعه وقضاء حوائجه:   
   -  أ كانت صباحية  أو مسائية، فهي غير كافية في جميع الأحوال. يتضرر رضعنا من الحرمان طيلة يوم من العمل. نظل خلال ساعات العمل في حيرة من أمرنا، لا يهدأ لنا بال. إذا أردنا أن نشفي غليل أمومتنا،  نخرج صورهم  من حقائبنا لنتذكرهم  ونستمتع بهم. نأتي إلى العمل ونتركهم نياما. نعود إلى بيوتنا ونجدهم نياما. كم هوعدد الرضاعات التي يحتاجها الرضيع في اليوم؟ كم تستغرق كل رضاعة من الوقت؟... نتبجح بجودة الرضاعة الطبيعية وننسى الرضع والمرضعات وأسباب تحقيق هذه الرضاعة...   
    ردت عليها  وصال:
    -  لو كان الرضيع يعلم بهذا الحرمان لأضرب عن هذه الساعة اليتيمة. فحاجته إلى الرضاعة الطبيعية ليست مقيدة بالساعة الصباحية ولا المسائية. ماذا  لو تم السماح  للحيوانات بأن ترضع صغارها فقط ساعة في الصباح أو ساعة في المساء طيلة اليوم؟
عقبت ربيعة متسائلة:
    -  ألم يكن للبشر عبرة في مبادىء الحيوانات وسلوكاتها الطيبة؟ ألم يلاحظ البيرو- قراطويون بأن الحيوانات ترضع صغارها رضاعة طبيعية ليلا ونهارا؟ ألم يبلغ إلى علمهم  بأن صغار بعض أنواع السمك يضربون عن الأكل كلما  تم  عزلها في أحواض التربية؟...
انفلتت من وصال ضحكات عفوية، فقالت موضحة:
-  لا، الحقيقة تكمن في أنهم أقنعونا بالإبقاء على بهائنا وأناقتنا، وأن الحيوانات هي  التي تأتي على أبدانها، حتى انتفت عنا روح الإشفاق على رضعنا  وأفسدناهم  إلى كائنات بيرو- قراطوية  بالرضاعة الصناعية. لكن، من يدافع عن حقوق الرضيع؟
سمع عبد الصبور وتوبان ومسعود  حديثهما. تدخل عبد الصبور ليدلي برأيه قائلا:
-           من يعجز عن الاحتجاج مثلي لا يستطيع الحصول على حقوقه. لقد تآمر البيرو- قراطويون على تغييب حقوق الرضيع  والزج بها في دوامة النسيان التام. فبموجب القانون، تحدد الشركة للرضيع ساعة واحدة من خلال العقد المبرم مع أمه. يصوم الرضيع عن هذه الرضاعة إلى حين شعوره مساء بدفء عودتها من العمل. أي حليب هذا  الذي ستقدمه الأم إلى رضيعها بعد يوم من جفاف العرق؟! فالمجتمع السليم لا يولد إلا من الرضاعة التامة.  فالرضيع شخص يطلب الدفء والحليب، والميت شخص يطلب إكرامه بالدفن، والحيوان شخص وذات للحقوق يتوق إلى الخانة السفلى من هرم "ماسلو"... . في كل الأحوال، إنهم يحولون دون استكمال الأم لحولين من الإرضاع بشكل من الأشكال...
لم يستطع مسعود صبرا مع حوارهم، قال متهكما:
-           يمارس البيرو- قراطويون إما الفطام أو الفصال القسري من خلال الأم إذا كان لها رضيع، وإما الطرد أو الفصل التعسفي إذا كان الإنسان أجيرا، ولو كان شأنه  شأن "معاوية"  في ولايته على الشام. في الماضي، كانت الرضاعة الطبيعية شأن الأبوين وحدهما، دون غيرهما. واليوم، أصبحت شأن طرف ثالث ورابع وخامس... . لم يفكر المشغل بعد في استئجار مرضعات وحاضنات لمواليد الأمهات بمقاولته...؛ لقد حرموا الرضع من أجسام الحليب المضادة التي تدره أثداء الأمهات... . إن الأمر لا يعدو أن يكون في آخر المطاف إعادة إنتاج البيرو- قراطوية...
أسر كل منهم أسفه في نفسه. أضاف توبان: 
   -  ألم يأتكم حديث الرضيع الذي يسلم بين أسوار السجن إلى أمه السجينة؟ لا تندهشوا...، سبق لي أن شاهدت على الشاشة الصغيرة بعد الفطور في رمضان برنامجا حول الرضيع الذي يصاحب أمه في السجن إلى حين فطامه، كأني بهذا الرضيع  يحرك شفتيه  ليصرخ من مهده: "عندما أنكمش على صدر أمي، يتأجج شوقي إلى ثديها، فيصعد إلي الحليب شرابا فوارا...، فهو أحب إلي من حرية يغتالها الفطام قبل الأوان".
تساءلت وصال:
-  كيف ذلك؟
أجاب توبان:
-  فعلا، اهتديت إلى أنه من الممكن أن يوقف الحق في الرضاعة إجراء تنقيذ العقاب في كل الأحوال عبرة بقصة المرأة الغامدية، إلى أن يتجاوز الرضيع حاجته بحولين... . لكن، لم أستطع متابعة البرنامج إلى نهايته. أردفت خلفي  باب المنزل. ما كدت أن أخطو خطوة واحدة حتى تقدم نحوي شاب في لباس أنيق تشتهيه بيرو- قراطوية زنكاوي. قال لي: "أرجو منك أن تعطيني بعض الملابس، إني غادرت السجن مساء الأمس، ألفيت أمي فارقت الحياة منذ شهر ولم يخبرني أحد بوفاتها". حدقت فيه النظر. قلت لنفسي: "إني لا أملك إلا الملابس العادية التي لا ترقى إلى أناقته، سيرفضها حتما"، فأجبته مكتفيا بدعاء "الله يخرج سربيسك وسربيسي على خير"... 
أضاف عبد الصبور قائلا:
    -  خلافا لما حدث لك، كنت أخيرا في طريقي إلى العمل، فاعترض سبيلي شخص منفك عن الواقع، يهذي بصوت مرتفع، سألني قائلا: "واش السما عندها السقف". حيرني سؤاله. راعه صمتي. أضاف منذرا:"إيلا ما عطتني درهمين، غادي تمشي الحبس". لبيت طلبه في خشية من أحوال المجاذيب. لكن عقبت عليه: " ماكفاكش الحبس اللي أنا فيه". رد علي: "هاداك هو الحبس اللي بغيت نقول ليك"، ثم انصرف.
عقب توبان ضاحكا:
    -  مافهمتش راسك، راه الشاطر يتعيش من غباء غيره، كما يقتات زنكاوي من سذاجة الثقة عند المرؤوسين، ويعيش البيرو- قراطوي على فناء الآخرين...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق