الصفحات

2014/07/06

بيرواقرطية بآليات الغاب بقلم: طه حسن

بيرواقرطية بآليات الغاب
 فصل من رواية" هذا فراق بيني وبينك.. !"
طه حسن
صنعت الأبواب الداخلية للشركة من حديد: أبواب ثقيلة، باردة صيفا وشتاء.  يستعمل الشاف "زنكاوي" يديه معا لفتحها، بل عليه أن يهوي بكفيه مسنودتين بثقل الجسد،  وخصوصا بالكتفين مثل القطة الخارقة، كأنما خلف كل باب  مستخدم  مقهور يتسول أو منبوذ يتسلل. يشبه لونها سحنة الرجل الذي توعد المستخدم "توبان" بالهزيمة في <<لاكاب>> الكوميسارية منذ زمن بعيد. إنها بمثابة ستائر لشهب الجحيم غير المرئية أو التي لا يراها إلا المستخدمون  حتى لا تنبعث رائحة دخانها إلى خارج الشركة...، ينضاف إليها رذاذ ثرثرات البيرو- قراطويين لتحجب واجهاتها محنتهم بداخلها... . نصبت أيضا تلك الأبواب سالبة للكرامة، للحرية،  للألسن، للإنسانية. عندما يدخل المستخدم من الباب الرئيسية،  ويتجاوزه ببعض الأمتار، يتنازل عن حقه في القيم الإنسانية التي تظل معلقة بين ذلك الباب وعتبات الأبواب الحديدية،  إلى حين أن ينتهي من أداء طقوس العبودية ويشفي أقصى ما يمكن غليل زنكاوي طيلة ساعات العمل اليومية، بما فيها الساعات الإضافية...؛ يتساءل المستخدم "مسعود": "ألم يكن زنكاوي منطقيا مع  نفسه عندما قال للتهامي <<لقد تركت  بالمرة  شهادتك الجامعية بعتبة  باب الشركة الرئيسي منذ يوم تشغيلك>>؟"...
ترى فئة من الشافات في الشركة  شيئا من <<صندوق باندورا>>، إذ أسر "شلمان" إلى زميله زنكاوي قائلا: "إني أعتقد أن روحا من أرواح  باندورا تتماهى معنا في الشركة". ترى فئة من المرؤوسين  أنها غابة بكاملها، لكن ليست ككل الغابات، غابة الحيوان العاقل التي لم يصنع مثلها في الإبان، غابة استنبتت في مستنقع آسن على مفترق الطرق: عين الذياب، عين السبع، عين دكاك، عين زنكاوي، عين عبد الخناس، عين البيرو- قراطوية، سوق العفاريت، والصخور السوداء...؛ يظل العمل بها سجين الواجهات الزجاجية ذات السحر الأسود الذي لا يقوى عليه إنسان. واجهاتها مدخنة في مدينة ظاهرها أبيض وباطنها حالك. مدينة في وطن يغترب فيه المستضعفون ولا يستغرب البيرو- قراطويون...، غابة تقيم بها فئتان من الكائنات: غالبون ومغلوبون أو آكلون ومأكولون...؛ تتشكل فيها العلاقات والأوضاع على صورة ما هو سائد في المدينة الغابة حيث استنبتت: مركز وهامش، أغنياء وفقراء، أقوياء وضعفاء، تراتبات طبقية ومصالح فئوية...؛ قد يتزود الإنسان بالسلاح الصناعي ليتجول أو يشتغل في غابة الحيوان غير العاقل، فيستطيع في كل لحظة الدفاع عن نفسه مهما كانت قوة هذا الحيوان وشراسته. لكن، في الغابة  التي يستأسد فيها الحيوان البيرو- قراطوي كل يوم بتطويع الإنسان المرؤوس وإذلاله وقهره، يعجز المستخدم بصيغة المفرد أو الجمع عن مقاومة الجور والظلم والاستبداد لسنوات مهما كانت قدراته ووسائله...إلى أن يهزم أو يسحق أو يصعق.
تزين أروقة الشركة لوحات حية لفنانين تشكيليين، لوحات تتحول وفق تلون سحنات المستخدمين، تتبدل أشكالها بحسب تفاوت همومهم. كل يوم هي في حال... . عندما ينظر مسعود إلى اللوحات، يقول لزميله "عبد الصبور": "أغبط حقا هؤلاء الرسامين الذي رأوا الألوان بعيون النحل وتنبأوا بظروف العمل تحت رحمة زنكاوي، فبثتها ريشاتهم  إبداعا في لوحات رائعة". يعقب عبد الصبور: "حبذا لو فطن الشافات لهذه القراءة، لكنهم لا يقرأون...". يرى المغلوبون بدون استثناء  في هذه اللوحات آثار الظلمات والإفلاس . كلما مر المستخدم عبد الحي مع زملائه أمام اللوحات، يلتفت إليهم قائلا: "شوفو هاد اللوحات، راه حنا كيفاش  دايرين، هذه هي حالتنا". يتذكر توبان دعاء المتسولة، يرى ذاته مندبغة بمقاومة الإذلال في إحدى لوحات الإدانة: لوحة غلاف رواية "هذا فراق بيني وبينك"...
يعزف عبد الصبور عن مشاهدة الأشرطة الوثائقية للحيوانات في الغابات والمحميات. كلما أراد الاستمتاع بها، تحضره  المقارنة: علاقات الحيوانات فيما بينها وعلاقات الشافات بالمرؤوسين في الشركة، حيث يحظى الاستئذاب فيها بحصة الأسد، فيتساءل: "من يحسن الرقص مع الذئاب بحسب معايير الجودة؟ ما الفرق بين الإنسان والحيوان؟". يرى أن العلاقات الثانية لا تقل مكرا وبطشا عن العلاقات الأولى، إن لم تكن أشد ضراوة، مادام العقل يشتغل على تصريف العنف في الحيوان والإنسان على حد سواء. يستمر عبد الصبور في العزوف عن مشاهدتها بدعوى أن الإنسان البيرو- قراطوي يصنع القتل ويأتي الفتنة في نفس الوقت بينما الحيوان يكتفي بالقتل وحده...
 خلافا لعبد الصبور، ينطلق توبان من مبدإ أن الإنسان خلق عاريا من كل شيء إلا من عورته، عاريا من المخالب والحوافر والقرون، أي من السلاح الطبيعي. يصر على مشاهدة نفس الأفلام ليستيقن الشبه  بين هذه العلاقات، ويستفهم طبيعة العلاقات بين الشافات والمرؤوسين، فيرى أن قوانين الإنسان مكتوبة وغير محترمة وقوانين الحيوان غير مكتوبة ولكنها محترمة، وأن العلاقات في الشركة شبيهة بالتي تقوم بين العائلة الوقواقية وأفراخها السفاحة والضحايا من الطيور المغبونة...، وانتهى إلى أن البيرو- قراطية المفلسة جعلت  المقاولة والمؤسسة أكثر وحشية، حيث يسود قانون الغاب كنواة أولى لمدينة الغاب ودولة الغاب وعالم الغاب: المدينة غابة الإنسان والغابة مدينة الحيوان...، منذ أن أضحى الإنسان بيرو- قراطويا واستكان الحيوان للحديقة، أخذت الإنسانية تتوارى، والبشرية تنزع تارة نحو الحظيرة وتارة أخرى نحو الغابة...، لكن  يبقى قلب الإنسان يسطع بأن يعبر به المسؤولون المقسطون والفلاسفة الإنسانيون والمبدعون المتنورون إلى حيث لا أثر للبيرو- قراطية المتلوثة...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق