الصفحات

2014/10/26

الفعل والأمل غير المستحيل وملامح البسط في (تراتيل وحكاوى قصيرة للغاية) للقاص د. أحمد الباسوسى



الفعل والأمل غير المستحيل وملامح البسط في (تراتيل وحكاوى قصيرة للغاية)
للقاص د. أحمد الباسوسى

خالد جوده أحمد


·        إن مطالعة عنوان المجموعة القصصية (تراتيل وحكاوي أخرى قصيرة للغاية)، للكاتب أستاذ علم النفس، د. أحمد الباسوسي (من أدباء مدينة أكتوبر)، يضعنا مباشرة علي عتبة قضية الحكاية والقصة بشكل عام، وقضية النوع الأدبي الجديد الذي يطرق الباب بقوة ويتشكل في منطقة تماس أدبية جديدة، ويتدارسه النقاد والدراسين ليتم تأطيره ووضع المفهوم الفني المتعلق بأدائه، إنها القصة القصيرة جداً، ودون ولوج كبير في أنحاء القضيتين اشير لمفهومي حولهما: من حيث أن الحكاية او بمصطلحها الشعبي "الحدوتة" هي المادة الخام والعمود الفقري للقصة القصيرة الفنية بصيغتها التقليدية، والتي بدات من قديم بقصة النصف قوس التي تعتمد علي تفريغ الذروة الدرامية في لحظة الإنتقاء القصصي، وتصل للحظة التنوير "الشهيرة"، ومن حينها أصبحت القصة القصيرة من أكثر ألوان الأدب قربا من المشكلات الحياتية، وأزماتها الاجتماعية، باعتبارها صيحة الطبقات المسحوقة، وفي المجموعة بين أيدينا نجد عنصر القصة الحديثة والتي تركن اكثر للتجريد، ورعاية حالة كاملة وليس شرطاً لحظة فنية واحدة.
·        والمجموعة لا تمنح نفسها بيسر لقارئها إذ أنها لا تقتني مبدأ الوضوح الأدبي إلا بصيغة حداثية، بحيث تثق في ذكاء القارئ وتستفزه للولوج في مدارات التأويل ليصبح مشتركاً مع القاص في إنتاج القصص، فعلي سبيل المثال القصة رقم 20 والمعنونه (عاد ومضى)، عن العجوز الذي يحكى ذكرياته مع الرجل صاحب القامة الطويلة، قصة مفتوحة تماماً للتأويل، فرمزيتها عريضة تفسرها نافذة القصة المضيئة (الكاشفة لقصديتها) في العبارة (إنه يحقق انتصارات خيالية) ص 107، فالقاص لا يترك قارئه في هذه القصة وغيرها دون ان يفتح له نوافذ مضيئة كاشفة لداخل نصه، لكنه يدع له لذة التأويل واستحلاب النص.
·        إذن مفردة "حكاوي" في عتبة المجموعة ترمى إلي إيمان القاص بوظيفة القصة في التفاعل مع هموم الناس، وانها يجب أن ُتحكى لهم ليقفوا فيها علي مواضعات الواقع المر، أما "تراتيل" فتشير للقصة المعنونة بهذا العنوان والتي تحتوي أجزاء مرقمة، وتشتمل فكره ساخرة، وتدرس طبيعة المجتمع حين يفقد كرامته حباً في الكسل، ويستسلم للأجلاف، ويهمش بائع الحواديت (صاحب التنوير في مجتمعه) حتى يقضي نحبه في خاتمة القصة.
·        أما قضية النص الأدبي القصير فأصبحت قضية في المتن لطبيعة العصر وتسارعه، وبزوغ الحاجة للتركيز والتكثيف والتلخيص، وهو ما يتفاعل مع الوسائط الحديثة أكثر من سواه من النصوص وفنون التشكيل، حيث أصبح قارئ الإنترنت يحتفي بالنص والتدوينة القصيرة (توتير نموذجاً)، والقاص يتعاطي مع الإنترنت، ويراه نافذة لبث الحكاوي، ودليلى إحصائية قمت بها بتاريخ (7/6/2013) إبحاري في شبكة الشبكات حول قصص القاص، وجدت عدد المشاهدات لعدد (33) قصة قصيرة منشورة بموقع القصة العربية، وبعضها منشور ورقياً في المجموعة، (38946) مشاهدة، وعدد التعقيبات (139) تعقيباً خلال خمس سنوات ُنشرت فيها هذه القصص، إنه يستهدف إيصال القصص للقراء والتفاعل معهم.
·        إهداء المجموعة عنصر مبدئي للرحلة في عالمها، وعتبة من عتباتها، تشكل موضعياً قيمة "المطالعة" بمعناها النفسي، والقاص مشغول بها، ويقدم تنويعات لها في الإهداء، ويبذر بها بذرة للأمل فالقصص ليست يائسه (وإلي ضحى وهي تطالع الأفق غير المستحيل)، وكاتب القصة القصيرة جداً يكون عاشقاً للتكثيف للدلالات، بميزان دقيق، فاستعمال مفردة "غير مستحيل" تحمل معني الأمل الذي يقتضي جهداً وعرقاً، ويتعامل مع الواقع الشرس بدون تهوين او تهويل، فالواقع الذي عبر عنه بالبقية، وفقدان البراءة، والحسرة علي الفائت، وعدم العوده يقول في قصة 3x 3 صفحة 49 (ما عادت الأشجار تثمر .. وما عاد الشتاء يجيء ... وما عادت سلوى تتابع ..)، والمساحات المغتصبة من العقل في قصة (إغتصاب) ص 41، ما زال يحمل الأمل غير المستحيل تحقيقه (الضوء الباهت يكافح جحافل الظلام).
·        ورغم التكثيف في القصص نجد التنوع بالبسط من خلال أدوات فنية، تبدأ من استعمال أدوات الترقيم (النقاط)، وهى كما قيل "ثروة القاص" يجب أن يقتصد في إنفاقها بسهولة، والنقاط ثمثل فجوات للنص يستطيع القارئ (الحاضر دائماً) ان يشتغل بها بالخيال والتأويل، كما نجد وسيلة أخري للبسط في القصص من خلال تقنية "التكرار"، وهي براعة تحسب للقاص ان يقوم بالتكرار في حيز ضئيل، بل جعلها مفتاحاً فنياً لقصة بكاملها، وهي قصة (نافذة مطلة علي البحر) ص 37، والمشكلة من 10.5 سطر، لعب فيها جغرافيا المكان كصورة بصرية دور البطولة، بتكرار (نافذة مطلة علي البحر) فوق وتحت وامام وخلف، وظاهرة التكرار ظاهرة فنية لا تخفي علي قارئ في طول القصص وعرضها، لذلك شواهدها لا تكاد تمر صفحة دون ان نطالعها سواء بالتكرار اللفظي أو تكرار المعني، أو حتي استعمال مفردات متماثلة (عقلها / نافوخها) في قصة اغتصاب ص 41، كما نجد الإهتمام بالتفاصيل في الحيز المحدود كذكر الأسماء والالوان وماركات السيارات والوصف ... إلي آخره.
·        يقدم القاص تشريحه الفني للواقع، ويهتم بقضية شيئية الإنسان، وعدم اهتمامه بالغوص في الأعماق او صقل الروح والتزود بالثقافة، ففي قصة (مؤتمر) يختار ببراعة ودقة مفردة كاشفة معبرة (حشد المتأنقين الملتمعين)، واللمعة تعطي معني السطحية والتكلف، وعليها مدار القصة، وفي مقابل الشيئية يقدم أنسنة الأشياء في بلاغة قصصية تعبر عن المفارقة الجسيمة، ففي قصة وفاة كنموذج يصف الواقع بالطقس العاصف البارد، وتنتقل البروده لكل شيء (في الغرفة المرتعشة ... طفق المرتعشون يضحكون ...) ص 33، كما يقدم أنسنة الأشياء أيضا في إطار وصف الواقع وقسوته (والشوارع التي تدهس) ص 49، او تعاطف الجماد مع الإنسان المقهور (المحطة الودودة) ص 111، رغم ان هذا القطار في المحطة يتقيأ ركابه علي الدوام.
·        يحتفي القاص في القصص بقيمة (العدالة الإجتماعية) تشغله القضية بقوة، ويعبر عنها بادوات واحدة، نعطي منها مثالاً بالمعادل الموضوعي باستخدام الشوارع / الطرق، ووسائل المواصلات بانواعها باعتبارها معبرة عن حظوظ الإنسان وتباين الطبقات، حيث نجد تعدد ماركات السيارات، وانواع المواصلات وأقدار وتفاعل الناس بها، وشواهدة كثيرة جدا في القصص، فالحارات تعبر عن الضيق والضياع، والسلام ليس سلاماً إنما استسلاماً لذلك كانت حارة السلام وليس شارع السلام، وممر الحارة الضيق تكرر ثلاث مرات في قصة (كلام) المشكلة في عدد 13 سطراً، والشارع ملئ بالحجارة والحفر في قصة (غضب) ص 21 ليس وصفاً للحالة المادية وفقط ولكنه رمزيه معبرة للحالة النفسية (الخمول وفقدان إرادة التغيير بالفعل).
·        وشخوص المجموعة القصصية تلتقي وتفترق في طرق الحياة، لتنتج تقاطعات بين رؤاهم وأوضاعهم، بما يخلق حيوية ودينامية للقصص، ففي قصة (أجازة) ص 57، والتي تحمل متن (العدالة الإجتماعية) بصورة واضحة تتفاعل شخوص القصة وتتقاطع ليشمل مشهدها الكلي تفاعل (صبية حفاة صغار / أسرة أنيقة مكونة من رجل وسيدة وطفل مرفه / الحمام باعتباره رمزاً للحرية وقيمتها اللصيقة العدالة الإجتماعية / السائس "الشبح الفقير" وتأمل مفردة الشبح وتوظيفها فنياً في إطار متن القصة، لتكون خاتمتها المعبرة (والحمام الذي ضرب الهواء بجناحيه واختفى في الضباب)، والضباب مفردة موحية ومعبرة، باعتبار ان افتقاد العدالة الاجتماعية ُيفقد السلام المجتمعي (ورمزه الحمام).
·        يحاول القاص تفسير ظواهر المجتمع المرضية ويقف علي أسبابها، ويدعو للقيمة الطاردة لتلك الأوبئة، فيعتني عنايه خاصة بالفعل باعتباره العنصر الناجز في المعادلة الحياتية، ففي قصة (كلام) يسرد مخاطباً المروي عليه (تمضى دون ان تقول لا) ص 17، ومصمصة الشفاة واللعب والكلام اللاذع والمقهى يدل علي سقوط الفعل وتدهور حالته، وفي قصة غضب صفحة 21 والمشكلة فقط من أربعة أسطر، حيث الخاتمة تشكل المفارقة (العلامة الدالة في القصة الناجحة) في التناقض بين الرجل الوسيم الغاضب (يفرد صحيفته) ويتلقي الأخبار ولا يكترث بمرور الراوي المتكرر ولا يغضب، لأن الفعل مصاب بالجزام.
·        ولا يكتفي في مدارسة قضية "الفعل" فقط من قبل الجمهور أو الشعب، لكن يشير إلي أثم الإعلام وأصحاب الفكر في تدهور حالة "الفعل"، في قصة (دعوة) ص 53، عن مشكلات الشباب والعنوسة والاغتراب من خلال شخصية الفتاة التي تريد ان تصل لفرحها ولكن العقبة كؤود (حيث اغترب الخطيب طلباً للرزق منهكاً ومتوتراً)، يقول مفتتح القصة (عند نهاية الشارع رصدت حجارة وكهارب وعيون وأشياء أخرى ... جنحت يميناً تزاحم حشود الناموس والأخبار وركام الأحداث العالي ..)، ويقف مقابلأ لتلك الشخصية المقهورة مهدورة الحلم والطموح، متآكلة الكعب (في تعبير القاص السائد بعض القصص كمعادل موضوعي لكفاح الفقراء والمهمشين)، شخصية الصحفي صاحب القلم الذي يموه علي الواقع ويكتب أعلي الصفحة في عموده اليومي (ما أجمل الآن)، وتذكرني القصة بقول الشاعر: (ولا يرون البندقية حتى يروا الشفاة مستديرة، ولا يرون المشنقة حتي يروا الضفيرة).
·        كما نجد ملامح السخرية مبطنة ببعض القصص، لكنها السخرية النابعة من مزاج الكوميديا السوداء (إنه ضحك كالبكاء)، ففي قصة وفاة (وقد غطوه لتوه بلحاف مهترئ محسوب عليه في قائمة الزواج) ص 33، ومثل إدمان عادة الضرب علي القفا في قصة (تراتيل)، او في قصة (المتخصص) في اقتحام الزحام بالأتوبيس رغم كافة العوائق، حيث يدور حواره الذاتي (لا أدرى لماذا يتركون أنفسهم يسمنون بهذه الطريقة ... اثنين مثله وينفجر الأتوبيس من الركاب) ص 101
·        وبعد ... فالقصص غنية بالفكر والعطاء الفني، ويظل لها نافذة مضيئة نطل بها لتفسير القاص، ونشرق بها علي نصوصه القصيرة، واجدها في عبارة ص 114 من قصة (عيون): (... كل شخص تلاشى عن الآخر ... وتلاشى المجموع ... لم يبق سوى ضوء باهت ما زال يكافح جحافل الظلام ...)، لكن الضوء الباهت أفضل جداً، يقول كاتب صينى: (عندما تجلس في غرفة مظلمة فغن ضوء الشمعة سيشكل فرقاً كبيراً)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق