وكيل
نيابة وصحفية يطرحان أسئلة اليوم العالمى للطفل 20 نوفمبر
توتة
توتة .. ماذا فعلت فيك الحدوتة ؟
حوار : جيهان الغرباوى
هو رجل يقترب من عامه الخامس والثمانين ، لكنه منتصب القامة
، أنيق ، يتحرك بنشاط ولا يفقد حماسه أبدًا ..
ممارسة الرياضة ليست هى السبب الرئيسى فى الشباب الذى يطل
من وجهه ويلمع فى عينيه ، ولا هى السبب فى ابتسامته ومنتهى الاهتمام الذى يتكلم به
، عن عمله ، وعن المستقبل ..
حين تقابله تتأكد أنك وجدت أخيرًا ، رجلاً يعرف لحياته
معنى وهدفًا ، وقد قرر بكل ما أوتى من قوة ، أن يعيش هذا المعنى ويحقق الهدف ويوصل
الرسالة ..
فى يوم من الأيام ، وقبل 20 عامًا ، التقى الرجل ، بفتاة
صغيرة فى إحدى مدارس الأقاليم ، وسلم عليها بحماس وشجعها بكلمات أغلى من الماس ،
لأنها كتبت قصة جميلة ، وفازت فى مسابقة الصحافة المدرسية ، على مستوى الجمهورية .
لم يكن الرجل يوزع هدايا ولا جوائز مالية ، كل ما كان
يملكه يومها اهتمامه واحترامه للتلاميذ الموهوبين ، فى المدارس الحكومية ، وقد
اعطى بعضهم شهادات تقدير ، ووقف بينهم لالتقاط الصور التذكارية .
فرحت الفتاة ذات السن الصغيرة بشهادة التقدير ، وباعتزاز
شديد احتفظت لسنوات بصورتها مع الأستاذ الكبير الشهير ، ولم تنس فى حياتها هذا
اليوم أبدًا .
ومثلما تروى الحواديت ، مرت الأيام والسنوات ،كبرت الفتاة
، وتركت مدينتها الصغيرة ، وسافرت للعاصمة الواسعة ، وهناك احترفت الصحافة فى الجرائد
والمجلات.
.. ومرة من ذات المرات ، طلب التليفزيون أن يستضيفها ،
لتتكلم عن أحدث كتبها ، واستجابت الفتاة وذهبت ، لكن حادثة كبيرة ليلتها وقعت ،
وقرر التليفزيون تأجيل البرنامج لحين إذاعة بيان مهم ، وجمع الضيوف معًا فى صالون
، فجلسوا ينتظرون ... وهناك وجدت الفتاة أستاذها أمامها ، فأسرعت إليه فى غاية
السعادة ، تذكره بنفسها .
فرح الرجل بها ، وأعطاها كل قصصه الجديدة ، التى جاء إلى نفس
البرنامج ليتحدث بشأنها !
هذا الرجل الكريم ، كان الأستاذ يعقوب الشارونى ، والفتاة
كانت أنا ..
*** يعقوب الشارونى أحد
أشهر كُتـَّـاب أدب الأطفال فى مصر والعالم . له مئات القصص ، عدد كبير منها ترجم
إلى مختلف اللغات ، ونال أعلى الجوائز فى أنحاء الدنيا ، لكن هذا ليس كل إنجازه ، إنه
يستطيع أن يُـغَـيِّر مجرى حياتك ، إن أنت صدقت معانى الحب والشجاعة وقوة الإنسان
وانتصار الخير فى حواديته ، وتلك هى المعجزة والفكرة .
كان حوارنا ممتعًا ، لأسباب كثيرة ، أولها أنه أعطانى
عددًا مهولاً من قطع الشيكولاتة وقصص الأطفال الملونة ، بينما اتأمل أنا مكتبته وأسأله
عن السَّفر والتعليم والدستور والفلوس والإرهاب ، أما حين سألته عن الرئيس السيسى
فاجأنى هو وحدثنى عن الرئيس الأمريكى ، قال :
أتذكرين وقت تفجير برجى التجارة العالميين ؟ أتعلمين حين
أرادوا أن يبلغوا الرئيس الأمريكى بالخبر أين وجدوه ؟ كان يقرأ إحدى قصص الأطفال
للتلاميذ فى مدرسة ابتدائية ( ! )
العالم كله شاهد صورة جورج بوش يومها ، وهناك صور منشورة
مثلها لبيل كلينتون وهو يقرأ قصة من أكثر قصص الأطفال مبيعًا ، للتلاميذ الصغار فى
مدرسة . إنه تقليد معتاد فى أمريكا ، لكن لماذا يقوم به رئيس الجمهورية ؟ لأن هناك
إرادة سياسية قوية ، فى نشر الثقافة وعادة القراءة بين الأطفال ، وكى يكون هناك
قدوة ، لا تقل فى أهميتها وتأثيرها عن رئيس الولايات المتحدة بنفسه .
وقد تدهشين لو قلت لك إن عبد الناصر كان يفعل نفس الشىء .
** عبد الناصر كان يفعل
نفس الشىء فى مصر !! كيف ؟
* عبد الناصر كان شديد الاحتفاء بالثقافة والفنون ، مثلاً
فى عام 1960 طلب عبد الناصر إقامة مسابقة لكتابة المسرحيات والروايات التى تروى
للجيل الجديد عن بطولات الشعب المصرى ، وأقام المسابقة المجلس الأعلى لرعاية
الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ، وتقدم لها حوالى مائتين من كتاب المسرح
والطفل ، وسنتها فازت بالمركز الأول المسرحية التى كتبتها عن انتصار المنصورة على
الفرنسيين وأسر لويس التاسع فى دار ابن لقمان بالمنصورة ، فقرر عبد الناصر بمنتهى
الاهتمام أن يقام حفل توزيع الجوائز فى مدينة المنصورة موقع الأحداث . وكان مقررًا
أن يُقام الحفل فى المكتبة المركزية للمحافظة ، لكن عبد الناصر وجد نصف مليون
مواطن فى انتظاره بالمنصورة ، احتفالاً بزيارته لهم ، فأمر بنقل الميكروفونات
ومراسم الاحتفال لأكبر ميادين المنصورة . وقبل أن يقترب من الميكروفون ويحيى
الجماهير ، قال نحن هنا من أجل الطفل والمسرحيات الفائزة ، لذا يجب أن تكون الكلمة
الأولى ليعقوب الشارونى صاحب الجائزة الأولى ( كان عمرى وقتها 29 عامًا ) وقدمنى
عليه ، تقديرًا لدور الثقافة . كانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لى ، غيرت مجرى حياتى ،
لدرجة أنى بعد أن ألقيت كلمتى ، قررت أن أستقيل من عملى وقتها كنائب بهيئة قضايا
الدولة ، واعتزل السلك القضائى نهائيًّا ، واتفرغ لكتابة الأدب وقصص الأطفال !!
** ألم يكن صعبًا عليك
التخلى عن مستقبلك الوظيفى المرموق فى السلك القضائى ، كى تكون كاتبًا لحواديت
الأطفال ؟
* صحيح عملت فى هيئة قضايا الدولة ، وترافعت فى قضايا مهمة
، وكان يمكن أن أكون محاميًا كبيرًا فيما بعد ، لكنى شعرت أن فى مصر مئات القضاة
والمحامين ووكلاء النيابة البارعين ، ولن يكون هناك ضرر لو ينقصون واحدًا ، لكن
كُتـَّـاب الأطفال فى مصر قليلون ، ومصر تحتاجهم بشدة .
** هل تغير الأطفال
كثيرًا فى مصر ؟
* كثيرًا جدًّا .. وتستطيعين أن تـُقَسِّمى ثقافة الطفل
المصرى إلى قسمين ، ما قبل 25 يناير وما بعد 25 يناير .
بعد الثورة الكلام كله عن السياسة ، والطفل لا يشاهد
تقريبًا غير العنف والضرب والحرق فى نشرات الأخبار ، ومقدموا برامج التوك شو صاروا
هم نجوم المجتمع والمثل الأعلى أمامه !
عدد كبير من مكتبات الأسرة التى كانت تسمى مكتبات سوزان
مبارك تم حرقها وتم اتلاف محتوياتها أثناء الثورة ، وحتى اليوم مغلقة .. المكتبات
العامة وقصور الثقافة التى يمكن أن يتردد عليها أطفال الأقاليم ، فارغة .. وحتى
الجمعيات الأهلية والمدارس الابتدائية لا تمارس أى نشاط ثقافى مفيد للطفل بسبب
ارتباك الظروف السياسية .
بماذا ينشغل الطفل إذن ، وأين يُخْرِج طاقته ، وهو لا
يغادر بيته أو مكانه أمام التليفزيون ، وكل ما حوله عنف وإعلانات بلا قيم أو أفلام
مبتذلة ؟
نحن كما لو كنا نربى أطفالاً ( مدمنين ) للإرهاب والعنف ،
وليس للعلم والفن والفكر المستنير .. كيف سيكون مستقبل مصر ، إذا كنا نربى أولادنا
هكذا ؟
** وماذا يستطيع أن
يفعل السيسى لينقذ الموقف ، فى رأيك ؟
* فى أول خطاب للرئيس عبد الفتاح
السيسى ، بعد حفل التنصيب ( 9 يونيو
2014 ) ، تعهد بتطوير التعليم وكافة عناصره ( معمل ومكتبات ومسارح وملاعب رياضية )
، وفى برنامجه الانتخابى ، كتب تحت عنوان " رؤية مستقبلية " : إنه ملتزم
بالإبقاء على مشروع مكتبة الأسرة ودعمه ، وتمكينه من مواصلة رسالته ، وملزم بالعمل
على إنشاء " مكتبة لكل قرية " ، وفى نفس البرنامج الانتخابى ، فى باب
الثقافة والإعلام والإبداع ، تعهد بالنهوض بمكانة مصر الثقافية والاقتصادية معًا ،
لتعزيز صورة مصر عالميًّا ، وأكد أن بناء الإنسان المصرى لا يبدأ إلا ببناء الطفل
.
والآن على السيد الرئيس أن يجد الوسائل
لتنفيذ ما تعهد به للشعب .
** هل تقصد مثلاً أن
يزور إحدى المدارس الابتدائية الحكومية ، ويشجع التلاميذ على القراءة كما يفعل
الرؤساء فى أمريكا ؟
* ليس شرطًا أن يقوم بزيارة
المدرسة بنفسه ، إذا لم تسمح الظروف السياسية أو مقتضيات الحرب الدائرة على
الإرهاب ، لكن على الأقل يفتح المجال للشخصيات السياسية والفنانين والكُتـَّـاب
الكبار والمحافظين والشخصيات العامة والقيادات الأمنية بأن يقوموا بهذا الدور ،
ويناقشون الأطفال فى الفصول عن المرور مثلاً أو مستقبل مصر أو مكافحة الإرهاب ، أو حول أفضل كتب ومسرحيات
الأطفال لهذا العام .. المهم أن يشعر الجميع أن القيادة السياسية لديها إرادة
حقيقية فى دعم هذا الاتجاه .
الأفكار الجديدة الجميلة لا تكلف
شيئـًـا ، وعلينا أن نجربها ونعتمد عليها وننشرها ، قبل أن نشكو ونعانى من نقص
الإمكانيات المادية .
** تعنى أن الفقر لا
يمنع الأفكار الجميلة ؟
* زمان ، الفقر لم يمنع سعادة الأطفال وهم يلعبون الكرة
الشراب ، ونقص الإمكانات لا يمنع مثلاً نشاط الإذاعة المدرسية ، ولا يمنع أن نضع فى
بعض الشوارع الواسعة ، على أعمدة النور ، شبكات لكرة السلة ، كى نشجع النشاط
الرياضى .. لماذا لا نفعل مثل روسيا ونقيم مسابقات قومية للشطرنج ؟ الشعب المصرى
محتاج يلعب شطرنج ، كى يتعلم أن يحسب حسابًا لكل خطوة ، ويفكر فى العواقب ، وفى شكل
المستقبل والمكاسب والخسائر التى تتحدد حسب اختياراته .
الدعم المالى ليس كل شىء فى التربية والتعليم .. اكتشاف
المواهب والدعم المعنوى أخطر وأهم بكثير .. فى طفولتى ، كان عندى أستاذ للغة
العربية اسمه الأستاذ عبد الحق رحمة الله عليه ، شاهدنى مرة وهو يشرح الدرس
منشغلاً عنه ، وكنت فى ثالثة ابتدائى ، اقترب من مكان جلوسى وأوقفنى ، ونهرنى وهو
يسألنى : " حضرتك سايب الدرس ومشغول فى إيه ؟ " استجمعت شجاعتى وقلت له
: " بكتب رواية .. " اندهش جدًّا من ردى ، فقال ساخرًا : " طب يا
سيدى تعالى اطلع هنا قدام زمايلك .. واقرأ ما كتبت ، وسمعنا الرواية بتاعتك "
.وفعلاً أمسكت كراسى وبدأت فى قراءة ما كتبت ..
بعدها فوجئت بالأستاذ الغاضب المخيف ، يقترب ، ويطبطب على كتفى فى حنان ،
ثم يقول : " اقعد يا بنى .. واكمل ما كتبت ، ربنا يفتح عليك ! " كان هذا
الاعتراف المبكر من أستاذ المدرسة أكبر وسام ، وأغلى جائزة حصلت عليها فى حياتى .
** تأملت بعض أركان
بيته المريح ومكتبته العظيمة المبهجة ، مع البساطة المفرطة فى كل شىء ، ثم سألته :
" هل من صفات كُـتَّاب الأطفال إعطاء أولوية للقيم والمعانى والمُثل العُليا
، على حساب الماديات والشُهرة والفلوس مثلاً " ؟
* ابتسم وهو يرد : والله فكرت فى الموضوع كثيرًا .. ووجدت
أنها مسألة منهج فى التفكير ، بعض الناس وبعض الدول مثل أمريكا ، تقيس النجاح
بمقياس ( أنا كسبت كام النهاردة ؟ ) وهناك ناس ودول أخرى مثل اليابان ، تقيس
النجاح بمقياس ( أنا أنتجت إيه النهاردة ؟ ) أنا تفكيرى يابانى ، أقيس نجاحى بحجم
ما أنتجته وكتبته للأطفال وللمستقبل ، وبحجم الأفكار التى قدمتها كى تصبح الحياة
أفضل فى مصر ، وأشعر أن هذه رسالتى الحقيقية على الأرض .
من أجلها أعمل وأسافر وأطور نفسى وأدواتى كل يوم .
وبسببها انتشرت أعمالى وترجمت فى العالم ، حتى أنهم دعونى
مؤخرًا لمدرسة فى نابولى بإيطاليا ، ووجدت الأطفال هناك قد حولوا إحدى قصصى لرسوم
وموسيقى وعمل تمثيلى واستوحوا من أفكارها موسيقى ورقصًا تعبيريًّا ونموذجًا
هندسيًّا من الكرتون .
.. هكذا يتعاملون مع قصص الأطفال ، كى يشجعوا النشء على
الإبداع والتعبير عن نفسه ، بقوة الخيال والفن .
** بعد نصف قرن من
الكتابة للأطفال ، ومازلت فى قمة حماسك للحياة وللعطاء ، كيف تصف طريق النجاح لمن
يسير على الدرب بعدك ؟
* احترموا الطفل ولو كان جنينـًـا فى بطن أمه ، لا
تستهينوا بعقله أو مشاعره أبدًا
، وقدموا له المتعة قبل الفكرة ، فهو لن يستجيب لأى نصيحة ولن يفهم أى حكمة ، إلا
إذا قدمتها له فى شكل جذاب ومسل ، وهذا هو دور الفن والحدوتة .
كاتب الطفل يجب أن يقرأ الموسوعات ، ويختلط بالناس ،
ويهتم بكل مجال ، لأنه يختار من كل 5000 معلومة 50 معلومة أو أقل ويوظفها فى قصته
كى تكون مقنعة ، ومفيدة ، لمن يقرأها .
عشرات المرات شعرت بسعادة غامرة ، لأن شخصًا قال لى ، إنه
قرأ ولو بالصدفة حدوتة قصيرة كتبتها فى جريدة ، فشعر أنها رسالة من السماء له ،
ولأنها مست وترًا فى حياته .. فهم العبرة ، وتغير سلوكه ، أو تفكيره من يومها !
*** ويكمل يعقوب
الشارونى فى حماس : أريد أن أحكى لكم الآن حدوتة قصيرة ، لكنها واقعية ، حدثت
بالفعل فى لندن عام 2012 مع إحدى قريباتى .. كانت أمًّا حديثة الولادة ، وبعد أن
وضعت طفلها بأسبوع ، وجدت أمينة المكتبة العامة التى تقع فى حَيِّها تزورها بالبيت
، وتقدم لها كارنيه اشتراك بمكتبة لندن ، قالت لها الأم : " أشكرك ، لكنى أنا
وزوجى مشتركان بالمكتبة ، منذ سنوات ، لأننا نـُـحَضِّـر للدراسات العُليا "
. ردت أمينة المكتبة : " لكنه ليس اشتراكًا لك أو لزوجك يا سيدتى ، إنه
اشتراك الطفل الجديد " .
قالت لها الأم فى دهشة : " ابنى لا يزيد عمره على أسبوع ! " قالت أمينة المكتبة
: " أعرف ذلك ، فقد علمت بوجوده من دفتر مواليد المدينة ، ونحن نقدم كارنيه
مكتبة لكل مولود ، كى تذهب الأم وتحضر له ، من القسم الخاص بحديثى الولادة ، كل
الوسائل السمعية والبصرية ، التى تلائم مراحل نموه ، وإدراكه ، كى يتطور فى
أسابيعه وشهوره الأولى ، بقدر المستطاع ، ويُحْسِن التعامل مع عالمه الخارجى ،
بمساعدة القصص والوسائل التعليمية باللمس والرائحة والألوان والصوت ، وحين يكبر
سيكون قد تعود على وجود كتاب بالقرب منه ( ! )
*** انتهى الوقت وغادرت
بيت الأستاذ يعقوب ، لكن بصعوبة بالغة .. ليس سهلاً أن تفارق بيتـًـا مبهجًا
مبهرًا ، يمتلئ بالدهشة والحواديت والشيكولاتة !!
thank you
ردحذفاخبار السيارات