الصفحات

2015/01/12

(عجباوى) قصة بقلم: سالم محمود سالم


(عجباوى)
سالم محمود سالم
 1
يسبحُ " عجباوى" فى بحرٍ من الدهون... حياته أشبه بكابوسٍ مزعجٍ. يَسمَع أنينًا صادراً من أعماقِ نفسهِ وصرخات مكبوتة تعصف بثنايا الجسد المُستكين...
لم يَفطن أن شفاءَ الروحِ يجب أن يأتى قبل شفاء الجسد...
يتخلل الأطفال وهم يلعبون بالكرة فى عُرض الحارة التى تفوح منها رائحة التوابل ودخان النرجيلة..
يصيح أحدُ الأطفال:
- الحقوا يا ولاد..... "عجباوى"‍!
يتركون الكرة... يتحرشون به... يزفُّونه ثم يقذفونهُ بالحجارةِ...
يُهرولُ مذعوراً... تتراقص الدهون على جسده الثقيل تحت الجلباب الواسع....
يتمنى أن تُشق الأرض وتبتلعه...
يلعنهم..
يلعنونه..
يلتقطُ حجراً... يرْفع يدهُ ليقذفهم...
يتجمد مكانه وذراعه منتصبة لأعلي والحجر بين أصابعه الغلاظ..
يلقى الحجر في أسى ويمشى.
يلْعنُ هذه السِمنةُ.
يُبرطِم:
- لماذا أسْمتْني أمي " عجباوى  
فلطالما تمنَّت أمه أن يكون لها ولد يسندها ويحميها وتتعاجب به.
لا يعلم بأنها تجهل أن غدده ستخونه وتفعل معه هذه الفعلة الشنعاء…
يمزقه الألم عندما يرى غيره يمشى في الحارة برشاقة.
طالما استهوته رؤية الفاتنات الممشوقات يتبخترن وهن يرتدين "الاسترتشات" التي تشرح تفاصيل الأجسام الملهبة لخياله البائس..
تذهب خواطره وأمانيه العميقة إلي أماكن محظورة. رغبة منه في تلبية مطالب جسمه.
يتلظى شوقاً إلي عبور المناطق التي تحرك أوتاره الحساسة.
تضطرم النيران في أوردته.
يرفض عقله مطالب هذا الجسد البائس.
دلائل ملحة جعلته يرغب بشدة في أن يكون "عجباوى" بحق, وينفلت من براثن الظلام والحرمان والرغبة المكبوتة.
قرر إبرام معاهدة صلح مع نفسه.

2
بدأ يُروض رغبته الجامحة.
يُسْكن الروح ويطهرها.
تطلع إلي الالتزام في أرض العصاه.
قرر معالجة الجسد المترنخ.
 وأدرك أن طهارة الجسد والروح لا تأتي سوى بالإلتزام.
قبل أن ينحشر داخل إطار باب " العيادة ".
أسرع "التومرجي " وفتحه علي مصراعيه.
قال:
- أين الطبيب؟
وارتمي علي أقرب مقعد في بهو الانتظار.. فتهشم المقعد.
صاح " التومرجي ":
-           حرام عليك!
شعر " عجباوى " بالحرج الشديد ، ونهض مثقلاً بألم النفس.
سأله الطبيب:
-           ما اسمك؟
-           عجباوى...
-           قف فوق الميزان.
-           يا للهول ............. تفضل!
رفض " عجباوى " أن يجلس علي المقعد المواجه للطبيب حتى لا يتهشم أيضاً.
فـطـن الطبيب لما دار بخلـد "عجبــــاوى"، واستـمــر في كتـابــة " الروشتة ".
 يتشبث عجباوى في أوتار الأمل المنتحر، وهو يحدق بذهول إلي الورقة السحرية التي ستجعله "عجباوى" بحق.. عجباوى الرشيق الذي سيلهب خيال الحسناوات...
هذه الورقة التي ستجعله يُحلق كفراشة، تشعل الأفئدة وتفجر آماله المدفونة في صدره الملتهب.
يخلع الجلباب الواسع الذي يوارى طيات اللحم الرجراج, ويرتدي البنطلون.
ولن يُفزَع منه الأطفال ثانياً.

3
التقط "عجباوى" الورقة المليئة بالمداد الأسود وانطلق كالفيل المذعور مستغلاً عضلاته القوية المدفونة في كتل الدهون.
هبط الحارة مفعماً بحيوية صنعها خياله وامتزجت بها روحه...
تخلَّص من خموله..
شعر بسحر الرجولة يسري في عروقه...
أُصيبت الصِبية بذهول من هذا الوحش، الذي انفلت من العصر الحجري وبيده فخذ بعير ينهشه.
كانت المفاجأة لأهل الحارة من هذا الكائن الخامل، الذي أضحى قريباً من التوحش.
 يفتعل حركات تثير الضحك أحياناً، وتوحى بشراسة هذا الكائن أحياناً.
كان هذا بمثابة رسالة تحذير أطلقها "عجباوى".

4
بدأ يتتبع ذرات الحبر الأسود في الورقة السحرية التي اعتبرها شهادة ميلاده.
خرجت أمه العجوز من الغرفة مذهولة.
حدق فيها بنظرة متمردة وقال:
-           اذهبي  يا أم "عجباوى"... اخطبى لي "سومة"!
وبعد أن انّْتهى من تنفيذ الأوامر السحرية الممزوجة بذرات المداد...
انتظر النتيجة التي لم تأت عليه بخير...
فوزنه بدأ يزداد رويداً رويداً...
تملكه الشطط... تميز حنقاً وغضباً علي الحبر الأسود، وعلي أمه، وعلي أهل الحارة جميعاً...
لم يرحمه أحد...

5
سمع كلام لا تسّر الأذن سماعه...
ضاق ذرعًا بالحياة...
أحدث فى الحارة ضجّة لا تخمد...
 بات كالوحش...
استمد قوته من إيلام الآخرين...
نطقت ذاته المكدوده فى أرض المخلوقات العجيبة...
 تجلَّت فى عينيه نظرات شرسة.
التفَّت حوله الصِبية مُهللين...
يزفون هذا الوحش الأسطورى!
وقف فى عُرض الحارة التى ضاقت عليه...
التقط أحد الأطفال.. ألقى به على الأرض...
صرخ الولد مستغيثاً..
جاء أبوه الأستاذ "فراج" فزعاً. صفع عجباوى.
فدفعه عجباوى فى صدره دون وعى فزحف على بازلت الحارة...
شعر بامتهان لكرامته.
تجمعت عائلته لضرب "عجباوى".
تجمع أهل الحارة. لمشاهدة الخلاف الذى شجر بين عائلة الأستاذ "فراج" و "عجباوى" الذى التهبت أعصابه فى هذا اليوم القائظ، وتملكه هذيان محموم. لأنه شعر بامتهان لكرامته أيضاً.
أضحى كائنًا متوحشاً انقرضت فصيلته ولم يبق غيره.

6
    أطلق العنان لغضبه الجارف. الذى أطاح بجميع أفراد عائلة "فراج" فى كل اتجاه..
 فرش بازلت الحارة الأسود. بأقفاص الخضر والفاكهة.
دعت عليه ستوتة بائعة الخضر:
- منك لله يا "عجباوى"!
نُصبت معركة فى الحارة قوامها البطيخ والطماطم وأكواب العصير، وزجاج دكان "جنة الفواكه" وكراسى مقهى "أبو دحَّه" التى تطايرت فوق الرءوس...
تجلَّت الأحقاد وتاهت الأطراف في الوطيس.
هُرعت أمه بجرمها النحيل. تتحسسَ مكانها وسط الزحام. بحثا عن ولدها "عجباوى". 
صرخت:
- يا ناس... "عجباوى" فين يا ناس...؟
تاه "عجباوى" وسط الزحام.
الطبيب يتوسط نافذة العيادة في الطابق الثانى..
يرى عن كثب ما يحدث ويُحمِّل نفسه ذنب ما حدث لعجباوى.

7
صرخ "عجباوى" صرخة مدوية عندما غُرس كعب زجاجة فى قدمه فسال الدم بغزارة...
 جلس متكئًا بظهره على حائط دكان "منجد الأفراح". بكى بحرارة...
شاهده الولد – ابن الأستاذ "فراج" - فدلف مسرعاً داخل دكان "المنجد"، وأحضر بعضاً من قطع القماش الممزق. جلس عند قدم "عجباوى" الممدودة وطفق يضمد له الجُرح ويلف قدمه بالقماش..
تحسس الوحش الجريح شعْرُ الولد فى حنوٍ، وترقرت عيناه بالدموع..
تنبه بعض من أهل الحارة لما حدث لعجباوى. فهرعوا نحوه. تزاحموا حوله... هموا بحمله إلى عيادة الطبيب.

8
أتى أحدهم بعربة "كارو" منكفئة على وجهها بجوار الطوار ورفعوا "عجباوى" "متكاتفين على ظهرها...
مسك آخر مقدمة العربة ودفعها الباقون من الخلف ، وفى إثرهم كُل أهل الحارة مطأطئي الرءوس كمن يمشون فى جنازة عجباوى الذي يترجـرج جسمـه وهــو متسلــق عـلى ظـهـره فـوق العربـة ـ والقماش الملفوف على قدمه غارق بالدم .
أطلقت أمه صراخها:
- يا ضنايا يا بنى.. عجباوى مات يا ولاد!.
وعندما وصل المشهد أمام "العيادة" لم يتمكنوا من حمل "عجباوى" إلى الطابق الثانى..
9
هبط الطبيب وخلفه التومرجى يحمل الحقيبة السوداء...
أفسحوا الطريق إلى عجباوى...
قام الطبيب بفك القماش الغارق بالدم.... ضمد قدم "عجباوى"...
وقف نزيف الوطيس... سكنت الحارة...
 تسللوا من حول العربة واحداً تلو الآخر...
 منهم من يضرب كفاً بكف ومنهم من...
وفى لحظة سكون مع النفس......
عصفت موجة هستيرية بلُب "الطبيب" وألح عليه هاجس قادم من حضوره الذكى.
همس فى أذن عجباوى:
- آسف يا عجباوى ستنتهى حياتك بعد أربعين يومًا.

10
لم يفطن عجباوى – من شدة الألم -لما قال الطبيب..
سمع كلامه كطنين قادم من كابوس مزعج.
 ضربت أمه صدرها المنخفض..
صرخت:
- يا خسارة شبابك يا ولدى!
والباقون أداروا العربة وتوجهوا إلى منزل عجباوى الذى تراءى له – بعد أن افترش الأرض داخل منزله – صور الأموات الذين كان يعهدهم.. بعدما أدرك أن عمره على ظهر الأرض لن يتجاوز الأربعين يومًا.
11
- استبد به خوف لم يعرف كنهه.....
 أطلق العنان لخياله وهو يصر أذنيه لكلام أمه التى تنوح:
- يا ولدي! 
لازال فى شروده:
-         والآن يا عجباوى؟
-         ماذا قدمت لآخرتك...؟
كُلُ هذه الدهون ستكون غذاءً لدود الأرض وكل شيء سيعود لأصله فى النهاية..
لم يبك برغم أن عينيهِ حُبليان بالدموع.
ألحّت عليه الهواجس إلحاحًا وعصفَت بالوحش الأسطورى.
شعر بأن الطريق إلى "سومه" قد تلاشى.
شعرت أمه بالهم الدفين بين ضلوعه المحترقة.
تذوق طعم الألم فى الفُتات اليابس والماء.
يزوره الطبيب يومياً ومعه الميزان.
تعَجَّب عجباوى من هذا الاهتمام ، وشك أن فى الأمر شيئاً بيد أن الدهون بدأت فى التلاشى من على جسده بعد أن أكلتها الهموم.
تحققت أمنية أمهِ التى أسمتهُ "عجباوى"...... وعادَ "عجباوى".

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق