الصفحات

2015/01/26

صــعود كتـابة المـرأة المشهد والأسباب بقلم: فؤاد قنديل

أرجوكم .. دعوا الكرسي البابوي ...صــعود  كتـابة  المـرأة
المشهد والأسباب 
فؤاد قنديل
  
         منذ ما  يزيد على القرن وربع القرن بدأت المرأة على استحياء شديد تتحسس قلمها  وتحاول أن تبثه خلجاتها ، لكن الأمر ظل حبيس الأدراج  مخبئا لا يطالعه أحد لأنها كانت محاصرة من قبل قوى عديدة  وغير محدودة  ولا تجد ثمة أمل  في أن تفتح النوافذ وتخف القيود ، حتى أنها  استسلمت تماما للمنظومة الجهنمية التي تمحو وجودها من الذاكرة والحضور ، بل إنها بلغت في أحيان كثيرة حد استمراء تلك الحالة بوصفها طبيعة الكون وما عداها خلل واضطراب ، ورغم كل المستجدات التي تغلغلت في الحياة العربية خلال القرن التاسع عشر خاصة في مصر والشام  فقد مس هذا التغير كل مناحي الحياة إلا  المرأة التي ظلت داخل الحرملك  تتبادل العيش والحوار مع الحريم سجينة تحاصرها الجدران وقدسية الأسرار والعيب والحجاب والستائر الثقيلة المعتمة فالنوافذ قبل الحريم يجب أن تكون منقبة .
      لكن  ذلك المشهد المحكم بالظلم  والظلام والجهل  المستقر تماما إلى حد الرسوخ  في كل العائلات والقبائل  ، لم يكن بذات الدرجة القمعية في البيوتات الكبيرة وهي قليلة  فشرعت  بعض النسوة في  كتابة  الخواطر والأشعار والكشف عنها لخاصة الخاصة إلى أن جاهرت به شاعرة مثل عائشة التيمورية  لأنها كانت تنتسب إلى بيت عريق من بيوت أثرياء النصف الثاني من القرن التاسع عشر ، ولم تتجاسر غيرها على اقتفاء أثرها  إلا القليلات مثل لبيبة هاشم وإليس البستاني وزينب فواز ووردة اليازجي وغيرهن، وما إن أطل القرن العشرون حتى  تفتحت بعض البراعم ونشرت بعض الكتابات التي لفتت الأنظار  في مصر والشام ، ومع ذلك فقد  ظل الأمر مكبوحا على نحو من الأنحاء .

        لقد كان لظهور الصحافة وانتشارها  أثر واضح في بزوغ بعض الأقلام النسائية التي لم تتجاوز كونها في أغلب الحالات خروجا على التقاليد ، لكن الموقف برمته تغير بعد  الحرب العالمية الثانية وبخاصة بعد قيام ثورة 1952  التي لم يقتصر أثرها على مصر بل تعداها إلى كل الأوطان العربية تقريبا   . ومع انتشار التعليم  في كل ربوع الأمة العربية  وتعدد الأسباب المحرضة على الكتابة والتعبير  انطلقت المرأة تقتحم الأجناس الأدبية خاصة الشعر والقصة القصيرة والرواية  وأدب الطفل  حتى بلغت في ربع القرن الأخير حد الازدهار ، وأمكن لبعض الدارسين إعداد الببلوجرافيات التي تحصي قوائم الكاتبات والشاعرات في العالم العربي بما يتجاوز الألف كاتبة،  تألقت  في مصر  ولبنان وسوريا  والعراق والجزائر والإمارات والسعودية  والمغرب وتونس واليمن والسودان وغيرها من البلدان ، وكشفت الكتابات النسوية عن مواهب عارمة جديرة بمزيد من الاهتمام ، وقد أقبلت  المرأة في جسارة غير متوقعة تقتحم كل الأجناس الأدبية وتعالج شتي الموضوعات التي يعالجها الرجل في كتاباته ، مثل الرواية التاريخية ورواية الحرب ورواية الريف والمدينة والرواية السياسية  والرومانسية الجديدة ، ومن حيث الشكل أبدعت الكاتبة العربية الرواية الواقعية والرمزية والفانتازية وكذلك أبدعت شعرا رائعا وقصة قصيرة مميزة .،  الأمر الذي أرى معه أنه قد آن الأوان كي نتوقف عن الحديث عن أدب نسوى أو نسائي وكتابة المرأة والكتابة الأنثوية وغير ذلك من التسميات ، فقد كان من المنطقي أن نستعين بتلك التسميات في مرحلة البزوغ والنشأة  عندما  نتحدث عن  ذلك الأدب مستقلا عن الأدب الذي ظل  يهيمن عليه الرجل ، أما وقد اقتحمت المرأة كل الأجناس وتقدمت المشهد بنفس الدرجة التي يتقدمها الرجل تقريبا  فقد غدا من غير المقبول الحديث عن الأدب النسوي لأنه من غير المستساغ في المقابل  الحديث عن أدب ذكوري .
      أيا ما كان الأمر فقد استهدفت هذه الورقة الإشارة إلى الأسباب التي أدت إلى ازدهار كتابات المرأة  حتى بلغت هذا المستوي المشهود والجدير بالتحية والتقدير كما أنه جدير بالدرس والتحليل ، ومن جانبي أتصور أن أسباب هذا التألق عديدة ، أذكر منها ما يلي :

1 -  انتشار التعليم
       كانت المجتمعات العربية بشكل عام محرومة من التعليم بشتى مجالاته حتى الرجال أيضا ، ولم يكن متوفرا إلا التعليم الديني عبر الكتاتيب والأزهر وبض المدارس الدينية ، ومن ثم أضيفت للرجال سمات تفضيلية وتضاءل إلى حد كبير حضور المرأة  ، إلى أن  تحمس رواد النهضة الحديثة  وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوى وعلى مبارك وخير الدين التونسى وغيرهم   فرفعوا على رؤوسهم الدعوة لتعليم البنات بوصفها محركا مهما نحو التقدم والحرية ، وكان على مبارك هو أول من حول الدعوة من الورق والخطب إلى واقع عملي .

2  – ظهور الصحافة
      مثلت الصحافة نافذة مهمة للتعبير ، وفتحت الآفاق أمام الرجال والنساء للتعرف على  الأحوال  أولا بأول ومن ثم محاولة بحث ردود الأفعال ، كما أتاحت الفرصة لتبادل الآراء حول مختلف القضايا والتعبير الحيي في البداية عن بعض المشاعر والخلجات وكذلك الأفكار والأماني . .

3 -   توفر  هامش  كبير من الحرية يتباين من بلد إلى آخر
        كانت مشكلة المرأة وعجزها عن الإمساك بآليات تعبيرها عن ذاتها في الأساس مشكلة حرية ، ومنذ تدهور الحضارة العربية  ولعدة قرون من الحكم المتخلف والاستبدادي المحلي والأجنبي وسوء الأحوال الاقتصادية والاجتماعية ظلت المرأة في قاع المنظومة الاجتماعية محاصرة بالعجز والمرارة والشقاء غير المحدود. وقد كان مجرد الحديث عن حرية  الوطن على ألسنة  الرجال في اللقاءات القليلة بالبيوت أو على المقاهي ليبلغ آذان النساء من خصاص النوافذ كافيا لكي يمرر بعض نسمات الأمل في قرب رفع الغطاء الثقيل الذي يجثم على صدورهن وحيواتهن ومشاعرهن ، ويمنعهن من  التنفس بأي صورة ، ومع تصاعد المد التحرري منذ بداية الثلث الأخير من القرن التاسع عشر  على يد الأفغاني ومحمد عبده وأحمد عرابي وعبد الله النديم وغيرهم أمكن للمرأة أن تعاصر الأحداث على استحياء وأن ترصد بعض ما يجرى إلى أن امتلكت القدرة على المشاركة بعد أن اتسع الأفق الثوري مع مصطفي كامل وسعد زغلول وقاسم أمين وكثرة من الكتاب والثوار في العالم العربي خاصة في بلاد الشام .

4 – الانفتاح الاجتماعي
      مع التعليم والثورات المتعددة وتعالي أصوات المطالبة بالحرية واتساع آفاق الوعي العام ، وظهور الصحافة تسلل إلى العائلات قدر من الانفتاح الاجتماعي الذي يسمح ولو قليلا بالتعامل مع الآخر ومحاولة فهمه وقراءة فكره دون وجل أو شك ، كما أن التعرف على المستجدات الحياتية  والرغبة في  استخدامها شوقا إلى التغيير وتذوق ألوان مختلفة من الطعوم فتح الباب لمجالات جديدة من المعرفة المادية والإنسانية .

5 – محاولة المرأة  زلزلة الهيمنة الذكورية وإثبات ذاتها
      كان طبيعيا أن تفكر المرأة مع أول بدايات الوعي بالعالم وما يمور به أن تحاول كسر الجدار السميك الذي يفصلها عن الرجل وعالمه ، لأن إزالة ذلك الجدار يعني إنهاء عصر العزلة التاريخية الكابحة بل القاتلة لكل طاقاتها .ولكي تفعل ذلك عليها أن تثبت أنها كائن يستحق الحياة ، وأن لديها من الملكات ما يمكن أن يكون مماثلا لما لدي الرجل  ، وأنها ليست دائما تلك الدمية التي لا تستطيع تحريك أصبعها أو رأسها دون عون أو أمر من الرجل الذي يقبض على كل شيء .

6 – تمتع المرأة بالخيال
      قد لا تمتلك المرأة في تلك العهود الثقافة ولا الخبرة لكنها بالتأكيد تمتلك الخيال والتحدي ، بل والحدس الذي يساوى الكثير وتستطيع به  إدراك ما لا يتصور الرجل أن المرأة  قادرة على إدراكه ، ومن هنا فقد انطلقت المرأة بعد امتلاك الإرادة في تحفيز خيالها بوصفه الملهم والمعين والعنصر الوجودي القادر على تقصير المسافة بينها وبين الرجل ، لأنه عنصر الابتكار والخلق بل القفز نحو الأحلام التي يمكن لكثير منها  مع عطاء المرأة الجبار والفطري أن يتحول إلى واقع وفعل .





7-  محاولة المرأة تفريغ المكبوت
      على مدي حقب طويلة ،  عانت المرأة  العربية كما  سبقت الإشارة من حياة متدنية على كافة الأصعدة ، وتكدست جبال  الهموم والضغوط وتراكمت الأحلام الموءودة وامتلأت آبار الكبت ، وما إن انفتحت في الجدار ثغرة صغيرة حتى انطلقت المرأة المكبلة للتعبير عن المكنون والمكبوت وتوسيع هامش الحرية  لتتوازن الروح الأسيرة وتنظر للحياة نظرة جديدة خالية على الأقل من العقد والحرمان .

8 -   نزول المرأة إلى ميادين العمل
      أدي التحاق المرأة بالعمل في  المزارع المصانع  والشركات وسواها من المجالات إلى إتاحة الفرصة لها كي تحقق وجودها وتؤكد ذاتها  وأن تنافس الرجل في كثير من  المواقع القيادية ، وهذه مسألة على درجة كبيرة من الأهمية لأنها مكنت المرأة من  الاحتكاك المباشر بالآخر الذي  يختلف كثيرا عن الأب والزوج والأخ وحتى الأم . إنه الآخر غير المقدس . الآخر الذي تستطيع الاختلاف معه والحوار  بحرية وليس بدونية .. الآخر الذي يمكنها أن تنافسه وأن تحاول التفوق عليه إذا تطلب الأمر ذلك ، ولابد أن العمل ميدان لبيان طاقاتها وطرح رؤاها الحرة  والتعبير عن ذاتها في سياق عملي ومهني ، ومجال أيضا لاستعراض ما لديها من خبرات  وأفكار .

9 – توفر أشكال ووسائل التشجيع
       ساعد على تطوير مسيرة المرأة الكاتبة بالذات  اقتحامها لمجالات التعبير المختلفة عبر أنساق عديدة  ، ومن ثم أتيحت لها الفرصة كي تجد من الدولة ومن القيادات الرسمية والأهلية شتى صور التشجيع والدعم ، وقد حفزها هذا للمزيد من التجويد والجسارة ، بل واقتحام الصعب من الموضوعات والقضايا ، ومحاولة التجريب في تشكيل بنى أعمالها الروائية والشعرية والقصصية .

10 -  امتلاك المرأة لمادة معرفية وشعورية خاصة
       مثلت المعارف النوعية الخاصة  بالمرأة - جسدا وروحا -  مع زخم مشاعرها وأمانيها   ضغطا على فكرها وحماسها مما دفعها إلى ضرورة التعبير عما يخامرها من رؤى وأحلام ، وما كان للرجل مهما بلغت درجة ثقافته ورصده لتجارب الأنثى كأم وكفتاة سواء كمراهقة أو عاشقة أو عانس أو امرأة متزوجة أو مطلقة أن يعبر نيابة عنها  مثلما حاول إحسان عبد القدوس وغيره ،  لأن للمرأة ذلك العالم الخاص جدا من الناحيتين الفسيولوجية والنفسية حيث تعمق السراديب وتختلط المشاعر إلى حد التناقض أحيانا ، لذلك فعندما امتلكت  المرأة  قدرا كافيا من الحرية وحصلت قدرا كبيرا من التعليم وأقبلت على النهل من ينابيع الثقافة لم تستطع احتمال الصمت أو الاستكانة لعالم ميت ، لأنها في الأصل بركان  يتأهب دائما للانفجار والفعل ، ولما كانت المعطيات الحديثة تواصل الضغط عليها ، فليس من المتوقع أن تتوقف عن التعبير مهما أجبرت على التقوقع أو حاصرتها الظروف .

11 – تمتع المرأة بالجسارة
        تتسم المرأة بجسارة خاصة ربما تتجاوز ما يتسم به الرجل ، ولديها قدرة على الاقتحام والمواجهة ، كما أن لديها قدرة على النضال والمقاومة ومن ذلك دورها في الإقدام على عمليات  عسكرية وانتحارية في فلسطين ولبنان وغيرها  ، وقد ساعدتها هذه السمة على البوح وإطلاق مجالات التعبير في القصة والشعر والرواية بشكل لافت ، وترتبط  رغبتها العميقة في التطوير بحسها الجسور إذ لن يستطيع أن يغير  من يتسم بالجبن أو الخنوع ، ولو تمتعت المرأة بالثقافة السياسية بدرجة كافية لكانت هي الأقدر على القيام بالثورات وقيادة الجماهير نحو التحرر.

12 -  سهولة النشر إلى حد كبير
         تشهد الحياة العربية الآن من وجهة النظر الثقافية أفقا أفضل من الحرية وانفتاحا سياسيا واجتماعيا  وإن كان لا يزال منقوصا وأقل كثيرا من طموحات المواطن العربي ، إلا أنه يكفي مؤقتا لمساعدة المبدعين على تقديم صورة دقيقة للمشهد الإنساني العربي عبر الإبداعات المختلفة ، وبالنسبة للنشر بالذات تحطمت الكثير من القيود وتوفرت العشرات من دور النشر الحكومية والأهلية وتراجعت بشكل ملموس مقصلة التابوهات والمحظورات التي تربصت طويلا بالمبدعين بفضل المقاومة المستمرة والإلحاح على أن مصداقية الكاتب تصب في صالح الأوطان ، ولا أمل في تغيير الظروف المتخلفة  في مساحات شاسعة من العالم العربي إلا عبر فكر وإبداع الكتاب ، وقد أتيح للمرأة أن تسهم بقوة الكتابة وعنفوان الشعور في فتح المزيد من الآفاق التي ما كان لها أن تنفتح لولا  سهولة النشر واتساع مجالاته خاصة  مع انتشار وسائل الإعلام   والدور الأسطوري للشبكة العنكبوتية وملحقاتها .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق