أخذوا
من العصاة لمينعوه من الهبوط من الطائرة كالطفل الصغير الذي لا يفهم أم
الطائرة مازالت في الهواء وتساءلوا هل الانسان عندما يصل لتلك السن العاتية
يصبح طفلاً من جديد؟
هكذا قال الله لكي لا يعلم من بعد علم شيئاً
هذا
الرجل كان شغل الركاب الشاغل علي تلك الطائرة لقد كان غريب الأطوار، امتعض
من طيلة الجلوس في الطائرة بدون رفيق، غرباء هم جميع من حوله، لا يعرف سوي
شيء واحد أنه ذاهب إلي ابنه الدكتور في الجامعة والذي يحفظ اسمه عن ظهر
قلب، ويحفظ كلمات آخري كالله أكبر ، وصلي الله عليه وسلم وكلمات دينية
كثيرة، كان الشيب الأبيض يعتلي حواجبه ورموشه، كان يرتدي بذلة فخمة ونظارة
عتيقة ويبدو عليه أنه رجل ذو مكانة عالية، لكن الزمان قد أملي عليه شروطه
في كبر السن فكتب علي جبهته تجاعيد زمنية بشفرة لا يستطيع فكها أحد، ونقاط
سوداء منتشرة بين أوردة يديه التي نفضت وظهرت من تقدم السن، كان هادئاً
طيلة الرحلة وهادئاً قبل الصعود فقد كان هو الرجل الوحيد في الرحلة الذي
يجلس علي كرسي متحرك ويراه كل المسافرين ويساعدوه، وكتب العمر علي جسده
علامات الكهولة، فبات منحني الظهر يسير بركبتين ضعيفتين وفي يده عصاه يتحرك
بها وبدونها لا يستطيع الحركة جيداً.
ألهذه
الدرجة تفعل الأيام بنا؟ أعتقد أنه قد قالها في نفسه، ألهذه الدرجة بعدما
كنت أجوب الشوارع بقدماي دون مشقة وأجري وأسوق السيارة وأركب الطائرة حتي
آخر بلاد العالم، الآن أخاف ، الآن لا استطيع المكوث لبضع السويعات بها؟
هذا
ما ظننته يتردد في داخله، لقد كنت علي نفس الطائرة المسافر عليها هذا
الرجل، وكم أشفقت عليه ونعيت موقفه فهو يريد النزول من الطائرة وهي في
الهواء، معتقداً أنها قد هبططت وأن الجميع يستهزئون به، لقد أخذ منه مجموعة
من الشباب عصاته خوفاً من أن يستسلم لأوامر عقله الذي بلغ من العمر أرذله
وصار يفكر كالأطفال وأن يحاول الهبوط من الطائرة بأي طريقة منطقية أو غير
منطقية، ومن خوفهم عليه ظلوا يقولون له: خمس دقائق يا عمو وتهبط الطائرة
وتصل إلي ولدك..
دقيقتان يا عمو وتهبط الطائرة..
دقيقة يا عمو وتهبط الطائرة..
وهو
بين كل دقيقة والأخري يقول لهم : أنتم تستهزئون بي يا صغار، ولا تريدون أن
تعطوني العصاة، أعطني العصاة يا ولد. وينهرهم ولا مجيب ، إنهم خائفون عليه
من نفسه، خائفون من كهولة العمر التي قد تصيب الإنسان فيتصرف كما الأطفال،
أعتقد أن ذلك الرجل في التسعين من عمره، يالقلب ابنه الذي تركه يسافر
بمفرده، قلت هذا تعليقاً علي ما يحدث فرد عليّ إحدي الراكبات وقالت: التمسي
لابنه العذر لربما لا يوجد لديه رصيد أجازات كي يهبط إلي بلده ويجلب والده
إلي البلاد الأخري المتوجهة إليها الطائرة.
وكررت
من جديد لومي لإبنه بظهر الغيب: يالقلبك يا فتي، أتترك أبيك الذي رباك
وجعلك دكتور كما يقول عنك ويمدح فيك، أتتركه لتلك الويلات والمخاوف والسفر
بمفرده دون رفيق يهون عليه من طول المسافة، يالقلبك يا فتي أتترك من غطاك
في صغرك من برودة الجو وأطعمك في فمك ما لذ وطاب ورافقك في صغرك في كل مكان
ليحميك ويحفظك بعد حفظ الله لك، يالقلبك يا فتي أتترك من عمل ليل نهار
ليجلب لك الأموال لتتعلم أفضل تعليم وتصبح دكتور وتلبس أفضل الثياب وتضع
أفخم العطور!!
وصببت
جام غضبي علي ابنه دون أن أراه، وها قد هبططت الطائرة، وفي انتظار السلم
كي نهبط من الطائرة والرجل كبير السن في غاية التعرق والخوف قائلاً للشباب
بعدما استسلموا له وأعطوه العصاة: مازلتم تستهزئون بي وتقولون دقيقة
ودقيقتان ومازال الباب لم يُفتح، وكان في تلك اللحظات واقف عند الباب
والمضيفات والمضيفين يمنعونه بهدوء من محاولة الخروج من الطائرة ناعين كبر
سنه وصغر عقله وكأنهما متلازمتان يعرفهما جميع البشر أن الكهولة وكبر السن
تعني الطفولة وصغر العقل.
صورة متميزة عن حياتنا الفانية. وابداع جميل.
ردحذف