الصفحات

2015/02/13

تعبت مرافئي قصة بقلم: عبد القادر صيد

  تعبت مرافئي
بقلم: عبد القادر صيد
  ابتعدي يا نجمة المساء ،و لا تحاولي الظهور من جديد ، فقد أصبح وجودك كحقيبة مهجورة في زاوية من زاويا المطار فيها كل شيء إلا جواز السفر ، تتشبث أحلامي أيتها النجمة  في غرفتي بمصباح يتدلى من فوق ، تتداخل أنفاس صدري بنبضات نوره ،ويبقى مداد قلمي ينزف مادمت أشرب أشعته، فإذا ارتويت ، خنس القلم ،وهجرتني وسوسة المداد .
   لو قُدر للغروب أيتها النجمة أن يلتقي بالشروق، لكان قدم له اعتذارا عن ظلمه له بهذا اللقاء ، مع أنه لم ينفك يلهج باسمه حتى مطلع الفجر، فهو يمقت الرغبات الدنيئة المترسبة تحت أظافر الاحترام، استرجع بمرارة  يوم كان صنديد المشاعر،حجري العواطف ، قبل أن تنبري له  تلك الهمسات الفدائية  التي تسللت ملثمة و انفجرت داخله فتطاير قلبه أشلاء مازال يبحث عنها إلى اليوم  ،ارتشف حسرته بنكهة بطولية كأن السقوط أحيانا يكون مقدسا ..خطؤه أنه لم ينتبه للتمتع بندى الأزهار حين بدأ عنفوانها في قلبه ، و إنما انتظر حتى نضج  فوجدها قد ذبلت .. فهو الآن يسقيها بمداد حرقته لعلها تزهر من جديد . ما زال مطلوب منه   ـ و هو في هذا السن ـ أن يحذر من هذه المساءات المُعدية الأنين ،  تتآكل  فيها قرحة القلب شوقا فظيعا إلى حد الفجيعة الفاضحة معيرة أنياب هستيريا باهتة و لكنها وقحة و لا تعترف بالمستحيل.. لا يمكنه أن يترك المشاعر تتسلى بإطفاء سيجارتها على صفحة قلبه ، لتفوح رائحة شياط اللهفة من فوق صفحات الكتاب ..لا يمكنه أن يحتفظ بهذا البخار،فليذهب إلى الجحيم إن شاء،وليمطر في أي مكان أبرد من قلبه إن وجد، فما أصبح ينخدع به بعدما عصر فاكهته بيده ، و ليترك الجرح ينزف حنينا ، فستتلبس سكّين الفراق قداسة مفترسة و حائرة ،  و لكنها تنحني أمام أولئك القساة الذين ينكأون الجراح نيابة عنها .
   ها هو ذا وقت بكاء الحروف ،و بدون سبب وجيه تنوح في أذني و تنشد تراتيل الاستسقاء فتمتقع صفحة الكون خوفا من سلخها و إلصاقها على كتابي ، ثم تجهش بالبكاء فأكتفي فقط بالكتابة بدموعها خوفا على نفسي من صدمة الدماء ..
   آه كم تعبت مرافئي من انتظاري حتى يئست من وصولي إليها إلى أن ظننتها تناستني ، لكنني لما وصلتها ملثّما بين آلاف الظمأى احتضنتني و ذرفت دموعا صنعت بها بحرا آخر ، فرجعت أبحث عن مرافئ جديدة.. لكن عينيك اللتين تحترفان القرصنة علنا و بتكبر، تمنعان عني رؤية المنارة بنورهما ،و روحك  التي تحترف الغطرسة سرا و بتواضع تذود عنى الشاطئ، و أعلم أنك بين هذه و تلك تتسلّين بمنظري و أنا مسلسل في الأصفاد لا فدية لي سوى زفراتي و نحافة جسمي .. يا الله كم كنا غاوين ! فعندما بدأنا هواة في كلية المعاناة تلذذنا بها ، و عندما احترفناها أدركنا أن آهات الاحتراق أثمن من شهادة التخرج..
    مشتاق إليها في هذا الليلة ، لكن نفسي لا تطاوعني كي أوقظ طيفها ليؤانسني شفقة عليه من الإزعاج ، أفضّل أن أسهر بمفردي و أواجه أشباح الوحشة، و أترك طيفها معها يراجع نغمات البراءة التي سيؤديها غدا أمامي بكل أمانة ..إلى متى و هي تمارس هذه الأرجوحة الأبدية ؟ و إلى متى ستظل رموش عينيها مروحتين تعاتبان كسلي عن الإحجام  و سوطين يعاقبان تعجلي عن الإقدام ؟ ألا تعلم هذه المتكبرة أنه حينما تتجمد المشاعر يصبح كل تصرف عفوي جارحا كما في الشتاء أي اصطدام بالأشياء يؤذي الجلد ؟ و في الأخيرلا يذيب الجليد إلا دمعات شمعتها الحارة  التي تتقاطر من أشفارها لتتبخر أشباح الأوهام..
  قبل أن أعرفها ، كنت أكتفي بتعليق الطوابع البريدية لرسائل العيون على جدار قلبي ، و بعد أن عرفتها علقت رموش رسائلها ، و لم أستفق إلا وقلبي يتوضأ بدموع تلك الرموش ..  فعلى قبة عينيها المنحية سجدت أطماعي ثم انزلقت لتستحيل أطياف نور تتبخر في جو مفعم بالنوايا اللاشرعية ، و على نافذة عينيها الزجاجية اترطمت رصاصتاي الطائشتان ،فتيممتا على سطحهما ،ثم ما لبثتا أن تابتا و رجعتا إلى غمدهما ناسكتين .
  كل  مرة كنت أقسم  فيها أن  أخاصم أوتار العنكبوت، و لكن دون جدوى ،فكلما هبت نسمات المساء ، تحركت هذه الأوتار المفخخة في عينيك بسمفونية شهقة الظل المترقب ،فبدت هاتان العينان مذعورتين ، كأنما شهدتا مجزرة عاطفية ، إلى درجة يعدى ذعرهما أوراق فكري فتتطاير في عاصفة حمراء ينخلع لها قلبي مع كل نبضة ..أنت الحياة.. فقد انبجس نبع الحياة بقوة هذا المساء ، ولم يجد منفذا سوى عينيك ، فتدفقت منه أعمدة النور التي أبهرت عيني .. ترى من أعطاك  هذه الوكالة لتنوبي من بين كل بنات جنسك عن الحياة؟ ضمّنت أصداء نظراتي الفضولية أكواما من زفرات الحسرة التي ناءت بها أشعة المساء لتكتشف سر  تكسر الرغبات الرعناء المحرومة الخالية  من أي بطاقة هوية على جبهتك الصامدة ..
   أعلم أنك لا تريدين أن تتواضعي حتى لا تنتهي أسطورتك، امنحيني إذن شرف صعود السلم ليسعني حيز عينيك ، و امنحيني ـ إن ردت ـ  الاعتراف بأنني موجود ، فابتسامتك في وجهي وردة في صحراء قلبي الحارقة، يتعهدها بالسقي ظل ابتسامتك الخارقة ،ستبقى أشواقي المتسولة على عتبة عينيك ناصبة خيمتها مترصدة رمشة الرضا لتقدم طلب التأشيرة إلى العالم اللازوردي المجنون ،فقلبي يرفض أن يضع ختمه على أي ابتهاج من دونك لأنه لا يعترف به ، يعتبره مثل جواز السفر بدون صورة ..
   على عتبة عينيك نُصبت مقصلة للخواطر الشريدة ، لتُعدم دون محاكمة و دون الاعتراف بأنها شهيدة .. تمنع أن تسمح بمرورها  بجواز سفر مزور،خير لهذه الخواطر أن تعلن إصابتها بسكتة عاطفية من أن تبقى تقسم أنها تموت في حبها ألف مرة .. فمذ كف بيانو شفتيها عن عزف سمفونيا التجني ضدك، علمت أن قلبها قد  بدأ بتحميل ملفك إلى سلة المهملات..
   و على الرغم من ذلك تبقى شهرزاد تتربع على أشفارك ، تروي لي في كل طرفة عين ألف قصة و قصة  ، و لا أكف عن النظر المحظور حتى أكفّر عنه بإطلاق سراح ألف خاطرة و خاطرة عذراء من صدري مسجونة منقبة و غافلة في بحيرة عينيك التي يستحم  فيهما انتمائي  و يتطهر من تعصبه لصنم الأشكال ،  و أغطس فيها لأستخرج  العلبة السوداء التي لو فتحت لحلت شفرات النظرات المحجبة و انكشفت على حقيقـتها متبرجة تتلوى وقاحة قبل أن يعرفكم هذا القلب المسكين الذي كان يكتفي بتعليق الطوابع البريدية لرسائل العيون على جداره ، و بعد أن عرفكم علق رموش رسائلكم ، و لم يستفق إلا وقلبه يتوضأ بدموع تلك الرموش ، و لكن و يا للأسف كما يحدث في عالم المواليد  فإن بعض العواطف تولد مشوهة أو بعاهة مهما بلغت من التألق فإنها لا تتجاوز مستوى طبيعتها ، لذلك يبقى أصحابها يعانون طوال حياتهم من بعض النقص و من أشكال عدم التفاهم ،كما يظلون بمرارة يبتلعون جرعات العذاب  و الشجار..كثيرا ما تولد هذه المشاعر و توؤد من قبل أصحاب عواطف الجاهلية الأولى ،وكان الأولى أن يُرفق بها و تُسعف حتى يحكم الله بين القلبين ، لهذا سنبقى نعاني إلى أن تبهت الصور و تذبل الذكريات ،ماعدا صورة أول لقاء  فإنها تزداد ألقا ..لأنها تنغمس كل صباح في فنجان القهوة فتمتزج بالسكر، ثم تخرج ساخنة تتقاطر انتشاء ،و تتبخر منها أحلامنا المجترة ..يا حسرتا كلما ابتعدت بقلبي عن الرياح الهائجة ، لئلا تنمحي بصمتكم التي تشي بالجريمة في أحلى صورها على شفتي الإباء تفضّل كلماتي الخرساء الانتحار لتفلت من الترجمة الفورية ..
  عندما يواليك أسطولي و ينقلب عليّ ، فمن الظلم أن ألوم أحد مراكبك تأخر ليشهد سقوط آخر بارجة لي من شلال عينيك.. ابتعدي أيتها النجمة ،فحرام عليك ألا ينجو منك أحد .. و حرام عليك أن يكون كل  من تقاطعت عيناه بعينيك مشروع أسير جديد

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق