الصفحات

2015/02/03

الحكمة تقتضي تحريرهم بقلم: فؤاد قنديل

الحكمة تقتضي تحريرهم
فؤاد قنديل
     ليس ثمة شك أن سماء مصر الجديدة ملبدة الآن بالغيوم ، وأكبر الغيمات تتعلق بالشباب الغاضب ، وأسوأ ما تواجهه أية دولة هو توتر الشباب  الذي يشعر بالتهميش أو بالحصار أو تكبيل حريته في التعبير ، عندئذ يزداد الانفعال ويتراكم  داخل القمقم الذي من السهل مع أول شرارة أن ينفجر ويهدد النظام في الصميم مهما كان محكما على درجات متفاوتة من الإزعاج الشديد والإرباك دون أن يستخدم القوة  أو يلوح بعصا .
    ليس ما ذكرته في المقدمة إشارة من قريب أو بعيد لخطورة ما يمثله المتوقع للبلاد في مقبل الأيام ولكنه تمهيد بسيط ومتواضع لرؤية حكيمة تتطلب تأمل الأحوال القائمة من منظور علمي ورصد واقعي لتطور الأحداث منذ يناير 2011 حيث لم يتم التعامل معها بقدر كاف من الذكاء السياسي لأن الرئيس السيسى أخذته الحماسة للعمل بهمة ونشاط منذ الساعات الأولى في محاولة وطنية ملتهبة لدفع عجلات الإنتاج وفتح الآفاق للمشروعات الجديدة الكبيرة منها والصغيرة وبذل جهد خرافي لتوفير فرص العمل وتقديم العون للشرائح الفقيرة ، وغابت مسألة القراءة التحليلية للقوي السياسية وفي قلبها الشباب ، ولا ننكر أن الرئيس أعلن في مرات عديدة رغبته في تمكين الشباب في الوظائف حتى درجة نائب وزير والتقي بعشرات منهم لتحميسهم وجذبهم للمشاركة في انتعاش الحياة السياسية والاقتصادية والعلمية في كل أركان الدولة ، لكن شيئا مهما غاب عن هذه الحماسة وهي أن الكهرباء الأساسية المشغلة لشباب اليوم هي الحرية ، ولهذا يتحتم علينا النظر في بعض المشاهد التي شكلت صورة سلبية للوضع الحالي في الدولة التي لم يحكمها نظام بعد وكلها في يد الرئيس ، وهذا في حد ذاته جزء من المنظومة السلبية مع تأكيدنا لوطنية الرجل وإخلاصه .
1 -  الشباب وحدهم هم من قاموا بانتفاضة يناير وليس هناك أدني جدال في هذا ، ولما التفتت فئات الشعب جميعا لجدية التجربة اندفعوا بالمشاركة ولحقوا بالجموع المحتشدة فأصبحت الانتفاضة ثورة أطاحت بالفاسد المستبد ورجاله ، وعلينا أن نقر بأن تلك الفترة
 ( 18 يوما ) ربما تكون أفضل أيام مصر في الماضي والحاضر حتى أنها أدهشت العالم أجمع.
2 -  تولى المجلس العسكري إدارة البلاد وقد فوجئ بأن عليه أن ينهض بالمهمة ولا خبرة لديه بالشئون السياسية ومن ثم كان من السهل أن يقتحم المشهد جماعة " الإخوان " وأعضاؤها المتربصون و المتابعون بجنون للموقف بوصفهم الطامعين في الحكم والسلطة منذ عشرات السنين ، واستطاعوا مع غياب الوعي السياسي لدي السلطة العسكرية أن يختطفوا الثورة .
3 -  انتظر الشباب  تبلور المشهد الذي يتصورون أنهم سيشاركون فيه بقوة  من منطلق أنهم أصحاب الفضل الأول في اندلاع الثورة  وعليهم أن يكونوا شركاء في  تحقيق أهداف الوطن الذي أرقتهم أحواله ، لكنهم وجدوا أنفسهم خارج الصورة تماما بل وفي موضع الأعداء الذين يتعين التخلص منهم لتتاح كل الفرص  لجماعة الإخوان التي عزمت على التهام " التورتة " بالكامل دون أن تترك حتى الفتات لغيرهم.
4 – تنبه الشباب للمستنقع الذي انفتح وتعمق ليبتلع كل المعارضين ثم فكروا في الثورة الثانية التي يجب أن تهب رياحها وعواصفها من جديد لإصلاح ما فسد ، فتشكلت تحالفات وجماعات شبابية تباينت فيما بينها خطط العمل ولعل جماعة " تمرد " كانت متفردة بحشدها وأساليبها ودعوتها وتماسك أعضائها وطرحها لفكرة بسيطة وهي حتمية رفض السلطة المنحرفة عن تطلعات الوطن والتمرد على استبدادها وفسادها ، ومحاولة استعادة الوطن وكان الشعب جاهزا للمؤازرة والدعم  ، واقتنع الجيش بالتوجه فقرر التعاون بأقصى ما يملك من إرادة وقوة سياسية وعسكرية ووعي وطني ، حتى هبت الثورة مجددا في  يونيو 2013  وطلب ثلاثين مليون مواطن على الأقل من قواته المسلحة بقيادة السيسي أن يخلصوا مصر من الجماعة المارقة ورجالها الفاسدين ، وكان السيسي عند حسن الظن فأنهي حكم الإخوان وتسلم قيادة البلاد وأعلن عن خريطة المستقبل التي حازت رضا الجميع ومنهم الشباب .
5 -  كان أغلب الشباب يقفون مثل اللاعبين داخل الملعب وقبل المباراة يتقافزون ويثيرون حماستهم ويتأهبون للعمل والمشاركة في الحياة الجديدة التي لابد أن قيادتها استفادت من التجربة القاسية واثقين أنها ستشكل منظومة من التعاون الشامل الذي يضم كل الشرائح في بوتقة واحدة  ليساهم كل منها حسب قدرته ومواهبه ، لكنهم لاحظوا بعد أشهر قليلة أنهم مجددا خارج المشهد بل وتجمع منهم الداخلية كل يوم العشرات وتلقي بهم في السجون فأسقط في أيديهم وشرعوا ينظرون بسلبية للقيادة الجديدة وتتراجع حماستهم فيلزمون أركانهم تهيمن عليهم حالة من الأسى .
6 -  لاذ بعضهم بوسائل التواصل الاجتماعي فعبروا من خلالها عن صدمتهم في النظام
 ( السيسي) ، ولقيت الكتابة الفيسبوكية ترحيبا كبيرا تصاعد مع الأيام وبلغ حدا مزعجا حقا هو التفكير في ثورة ثالثة .
7 -  تناهت إلى أسماع السلطة تلك الحالة فأسرع الرئيس يعلن عن رغبة الدولة في تمكين الشباب والحوار معهم واختيار الشباب الواعد لتولي المسئوليات ودعم الشباب بالمال للمشروعات المتوسطة والصغيرة ، وكان يعلن ذلك بينما أعداد من الشباب يتم القبض عليها وملء السجون بها لأنها تكدر الأمن العام ، وهنا يتبدي بوضوح غباء الداخلية .
8 -  أمر مثير ومستفز حقا  أن يتعامل رجال الداخلية مع الشباب الذي يخرج في مظاهرات سلمية مثل ما يتعامل مع الإرهابيين المخربين ، بل إنهم يتعاملون معهم بصورة أسوأ إذ يقدمون على التعاطي مع  الشباب الغاضب بالعنف ولا يستخدمون العنف ذاته مع الخونة أعداء الوطن الذين يلحقون به أشد الأذى كل يوم في مواطنيه وممتلكاته ومشروعاته وخدماته.
9 –  الكثير من الشباب ممن قبض عليهم سواء بأسباب أو بدونها تعرض مستقبلهم العلمي والوظيفي للضرر البالغ خاصة مع طول فترة الاعتقال .
10 -  تتصور السلطة أن اعتقال شاب يعنى فقط أن تحزن أسرته ، وهذا الأمر يكشف غياب الوعي والإحساس بأبعاد الفعل ، فمجرد القبض على شاب يعني القبض على مليون لأن الشباب يتعاطف مع كل من ينتمي لهم في السن أو التجربة والتعليم وغيرها من العناصر المشكلة للتكافل بصرف النظر عن القرابة أو الجيرة أو الصداقة أو الزمالة.
11 – يعاني الشعب المصري جميعه من سلطات هائلة وكلها تتحكم فيه من أول الخفير في القرية مرورا بالعمدة ورجل الدين والضابط في المركز أو القسم ثم الرئيس في العمل والأب والأخ الكبير  والأم في البيت وأيضا العم والخال والجيران ومدير المصلحة حتى رئيس الحزب ورجل المرور وقيادات شتى في الدولة .
12– كانت الميزة الأولى في ظني على الأقل أن ثورة يناير هدمت كل الحواجز والسدود التي تقمع حرية التعبير ، ويكفيها فخرا أنها أطلقت المصريين من قمقم تم تصنيعه على مدي آلاف السنين بحيث يتعذر الخروج من قبضته المحكمة حتى لو لم تكن هناك سلطة ، فاكتشف الشباب قبل غيرهم أن السلطة الحالية أسوأ ولا مجال مطلقا للتعبير حتى في الأحزاب ،والشارع كما هو  وحق التظاهر الذي كان متاحا في عهد مبارك حوصر بالقانون ذي الأنياب .
 13 -  فماذا يفعل الشباب ؟ .. البطالة تحاصره والفقر والشرطة وكافة أشكال السلطة .. علينا إذن أن نتقبل كرهه للوطن ، ولا ندهش إذا أقبل على المخدرات والانضمام للجماعات المشبوهة وهو غير مقتنع لكن بركان كبته لابد أن يبحث عن ثقب . ولا يبقى غير محاولة الاستيعاب بالحكمة والاحتضان بالحب والحرية التي تمثل له أول الحقوق ، ولا ننسي أن الشاب  خلقه الله طائرا يعشق التحليق ، وإذا لم تتحقق له الحرية فلا يعنيه الخبز ، ولذلك فالحكمة تقتضي تحريرهم . تقتضي تحريرهم .


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق