الصفحات

2015/04/03

الغراب والحليب... بقلم: أوباها حسين

الغراب والحليب...
 أوباها حسين
حسب غراب نفسه ذكيا بين غربان لم تغادر أعشاشها إلّا إن طارت للبحث عن قوتها ..وفي يوم ساخن اضطرّ الغراب ليترك عشيرته ويغامر ليكتشف ما غاب عنه عند أمثاله من الطيور في مناطق أخرى...وبعد طيران توقّف فاستقرّ على غصن شجرة عالية قريبة من سكّان ضاحية المدينة ...ومن علوّ شجرة  وعبر زجاج نافذة المطبخ رأى امرأة تحمل طفلها وهي تسخّن الحليب ..ملأت قارورة الرّضاعة ...وبدأ طفلها يمتصّ ...طار لبّ الغراب مستغربا حين شاهد بياض الطفل كبياض الحليب وبياض أمّه...المقارنة بين لون الرّضيع وريشه الأسود أذهلته فنقلته إلى التفكير السّاذج ..
الغراب في نفسه : لو شربت ذلك السائل الذي شربه الصّغير... هل يغيّر لوني ؟!
استبدّ به الغرور فآمن بأن يشرب الأبيض ليلوّن الريش ..لم يبرح مكانه معوّلا على انسحاب المرأة من المطبخ ...وما هي إلا دقائق معدودات غادرت المطبخ , فرك الغراب ريشه فرحا , رفرف نحو النافدة المفتوحة أصلا , اخترقها لتتمسّك المخالب بأعلى الآنية الدّافئة  التي لم يبق فيها إلا القليل من الحليب , رشفه بمنقاره ...فقد توازنه بعدما تململت الآنية ...سقط فوق مقلاة لازالت ساخنة نسبيا...تمرّغ في زيتها المخلوط بشحم الكفتة المتبقّي بعد القلي تخبّط فيه فابتلّ ريشه ومن سوء حظّه عصفت ريح خفيفة أغلقت النّافذة فلم يستطع الطّيران بعد السّقوط على الأرض ..اكتشفت المرأة أمره عندما دخلت المطبخ لتنظّفه  والغراب يصارع الزيت الثقيل  ...أسرعت مبهورة  وهي تنادي زوجها الذي هرول نحو المطبخ وبمجرّد ما رأى الغراب المطليّ بالزيت , انقضّ عليه وأحكم قبضته حول ريشه الرطب بالدهن..
المرأة : اسجنه في قفص ليشاهده الأولاد ...
الزوج : يا ساتر ...ما الذي سيعجبهم في هذا الأسود ؟؟!
المرأة : ليروه ثمّ نلقيه إلى حاله ..
الزوج : افتحي النّافدة لأرميه ونتخلص من شؤمه ..
المرأة : لقد صغر حجمه !
الزّوج : لأن ريشه التصق بعضه ببعض بسبب الزيت المثقل بالشحم ..
المرأة :... دعه هنا إلى الصباح ...
الزوج : تخافين عليه من اللّيل وهو ظلام خلقة وصورة ..
المرأة : هل سيموت ؟
الزوج : شلّ الزيت حركته فقط طير منحوس لا يموت إلّا بصعوبة....حتّى في القنص لا يغري الصيّادين...وجب التخلّص وأنت تخلّصي من المقلاة !
المرأة : لماذا ؟!
الزّوج : دنّسها حقير , منظر شؤم ..
ألقاه الزوج من النّافدة ...وكانت سقطته فوق كومة بقايا جير يستعمله الجار لتزيين جدار داره ...طلاه الجير وغباره.. ومكث فوقه إلى أن أعاد القدرة على الطّيران ...بعد الفجر...وفي الصباح طار إلى أن ظهر أمام جماعته ..هنّأته ..وافتخرت بلونه الجديد ....
الأقرب للغراب : سيّدي , غريب ما أنت عليه ! يا للمعجزة !
الغراب : أيّة معجزة ؟
الأقرب للغراب : سيّدي , تحوّل ريشك الأسود إلى اللّون الأبيض ..
الغراب : أصحيح ما تقول ؟!
الأقرب للغراب : نعم سيّدي , وما الفائدة من الكذب عليك ..
حكى مغامرته وصفها معجزة حوّلته إلى طير أبيض لمّا اعتكف فوق شجرة قديمة وهي الأكبر طولا وعرضا وقدما في الغابة المجاورة للمدينة  , أخفى سرّه وركّز على المعجزة التي وهبت له لونا ليميّزه عن الغربان دون أن يتطرّق للحليب كي لا تقلّده الغربان.....أمّرته الجماعة لقيادة سربها ....
الجماعة بصوت واحد : نحن رهن إشارتك ..
الغراب : أنا الآن في موقع يؤهلني لأتزعمها ...
الجماعة : تستحقّ لقب الزّعيم ...نطيعك وننصرك أوامرك على رؤوسنا وعيوننا وفي قلوبنا..
الغراب : قبلت تجديد نصرة الجماعة...
الأقرب للغراب : علينا الطّاعة ...  
الغراب : أريد الزواج من حمامة , ليخلد لوني هذا ونسلي..
الأقرب للغراب : مستحيل
الغراب : لماذا ؟ ألا يجوز لي التمتّع بالبياض ؟!
الأقرب للغراب : هناك فرق شاسع بين منقارك ومنقار الحمامة ولونهما يختلفان ..
الغراب : الزواج  يدلّل موانع الحبّ ...
الأقرب للغراب : سمعا وطاعة سيّدي , اختر الحمامة التي تتمنّاها ...
الغراب : سأبحث عنها بداية من الغد وسأرسل أتباعي لإيجاد حمامتي البيضاء ..
انفضّ الجمع وانتشرت الغربان عبر كلّ المناطق ..
الأقرب للغراب : سيّدي وجدنا أجمل حمامة عند الأسد وعليها حراسة مشدّدة لا تترك الوصول إليها ولو من خرم إبرة ..
الغراب : شوّقتني ...لكن...كيف الوصول إليها ؟
الأقرب للغراب : الأسد صديقك وقدّمت له خدمات وفيرة , أنسيت يوم بعثت له الغربان ليظلّلوه ويمنعوا عنه أشعّة الشمس الحارّة ؟؟.ليهرب من القنّاصين....
الغراب : فكّرتني الله لا ينسيك الشهادة... أنت مرآة أعمالي ...وأريد منك أن تتصرّف ..
الأقرب للغراب : من الأفضل أن تزور الأسد لتريه المعجزة التي ستبهره وترفع من قدرك بين مخالبه الفتّاكة ...
الغراب : فكرة رائعة ...
( اقترب الغراب من الأسد على مشارف عرينه بعدما استأذن الدخول ..)
الأسد : مرحبا أيّها الأبيض ...هذه مفاجأة ...غراب أبيض في حضرتي !
الغراب : نعم الضيّافة والصداقة...
الأسد : مقامك عزيز ...أهلا بك في أيّ وقت ....لكن قل لي , من أين اكتسبت البياض ؟!.
الغراب : إنّه معجزة هبطت عليّ ليلا في ضواحي المدينة ..
الأسد : كيف ؟
الغراب : سرّ من أسرار الدنيا ...أنا أيضا احترت في الأمر ..
الأسد : لا بأس ...مجيئك يوزن بالذّهب ...
الغراب : أعرف ما تكنّه نحوي ...أخي الكريم , لديّ طلب أخشى أن ترفضه ..
الأسد : صداقتك تزيل كلّ العقبات ...تفضّل , اطلب ما تتمنّاه منّي ..
الغراب : رغبتي الملحّة أن أتزوّج حمامتك النّفيسة ..
الأسد : كلّ الحمامات الموجودة تحت إمرتي ملك لك ..
الغراب : أعلم جودك لكن الحمامة المقصودة هي المحروسة  ..
الأسد : ماذا ؟ تطلب حمامتي الفريدة من نوعها !.
الغراب : نعم ...
الأسد : سأفكّر وأستشير مستشاري ...
الغراب : ومتى تخبرني ؟
الأسد : قريبا ...
( ودّعه الغراب وقضى أيّام الانتظار عند أحد الغربان الميسورين المساعدين للأسد.....وفي الموعد المحدّد لاستدعاء الأسود الملطّخ بالبياض ...
الأسد : سأجيبك ولكن لا تحزن ..
الغراب : لا أحد ينزعج من وفيّ ..
الأسد : احرسها معي ...لنقتسم صغارها لما يفقس بيضها الغزير ...فلا تحرمنا من خيراتها
الغراب : لا تخالف عشقي للحمامة ...ففيها سيذوب السّواد ...وتتطوّر الغربان من أصلي ..
الأسد : لا تغترّ ...سيبقى لونك الطبيعيّ إلى الأبد .. .
الأسد : أخاف أن تثير الحمام ضدّي ...عندما أزوّجك أغلاه وأرقاه ...
الغراب : لن أخالف رأيك ما دمنا على خطّ واحد هو الاستفادة من الحمامة .
( يرفع الغراب جناحه ليحكّه بمنقاره , هرش الجير  ) .
الأسد : أوه...ماذا أرى ؟ ...ريشك الباطنيّ لازال يحتفظ بسواده !
الغراب : سأحكي قصة اللّون الأبيض ...
( أنهى قصته ..).
الأسد : إذا تستعمل خداعا  يشبه أسلوبخداعي لتسيطر على الغربان ...
الغراب : من أسس السيطرة المكر وأنواعه ...
الأسد : دعّمني لكي لا تضيع حمامتي ...
الغراب : حيوات الغربان  في كلّ مكان فداء لخيراتنا ....سنبني ما يحمي حبيبتنا الحمامة ..
الأسد : انصرني ...بالمقابل سأستر مكيدتك ..
الغراب : حكم عليّ السواد ...
تناثر غبار الجير...وعاد السواد...انفضحت المعجزة ...وما هي إلّا لحظات قليلة ...ثار الحمام ...وانتشر الصراع... تحرّرت الحمامة السجينة ...   بكى الغراب قتلاه ...فرّ من نجا ... انكمش الأسد في عرينه.. ...إلى أن جاء النصر ....

القنيطرة
المغرب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق