الصفحات

2015/07/19

المثقف التابع والتنميط الأجوف للقضايا الكبرى قراءة في رواية (رقّة القتل) لأحمد طوسون. بقلم: د.محمد مصطفى سليم



المثقف التابع والتنميط الأجوف للقضايا الكبرى
قراءة في رواية (رقّة القتل) لأحمد طوسون.
د.محمد مصطفى سليم
قسم اللغة العربية- كلية الآداب - جامعة بني سويف
-----------------------------------------------------------------------------------------
قد تبدو مبالغةً، بل إنها من قبيل التّرف، إذا ربط الدرس الثقافي البحثَ في دور المثقف العربي والمصري بكونه إفرازًا من إفرازات مابعد الكولونيالية، أو ما بدا واضحًا في الأفق الكوني من تبدّل حادٍّ في الخرائط الجغراسياسية العالمية؛ فالأمر، وفي طرح ظاهر لا يستحق ولوغًا عابرًا للثقافات عند مكاشفة البنى العميقة والسطحية لممارسات المثقفين، يظل في المُعطى المكاني العربي بأقطاره المتعددة ذا قطبٍ واحد، مثلما كان خلاص مجتمعاته ممثلاً في البطل الفرد. وأي ربط من هذا النوع- حسب ما أرى- يحيل المشهد، برمّته، إلى نوعٍ من الترف الذي لا يحمل أية ظلال حقيقية في مواقف المثقفين وتمظهراتها، فلا وجود مكثف للمثقف العضوي، ولا المثقف المستقل، ولا إلى غيرها من المسميات الاستهلاكية، التي تتهاوى سريعًا إذا ما رمنا البحث في أوساط مثقفينا عن من يعيد تشكيل التقاليد العتيقة لمجتمعاتنا في حدّها الأدنى؛ ليصوغ تاريخًا أكثر انفتاحًا لمجتمعه وواقعه، وهذا البحث، بهذه الكيفية، ضرب من العبث.
ولعلنا نقتربُ من حدّ الصواب إذا تعاملنا مع هذا المستهلّ على أنه الثيمة الكبرى لرواية أحمد طوسون "رقة القتل" التي لم يشد انتباهي فيها كونها مدونة سردية قادمة من رحم المعاناة الراسخة في وعي الشعب المصري، بما يؤكد وأْدَ وطنٍ يحاول الوعي؛ لأنها وإن سلّطت الضوء على مرحلة مبارك وتعفّن تُرّهاتها، فإنها قدّمت لي شخصيًّا- وهذا ما جذب انتباهي- تشريحًا من الداخل لبنية الثقافة المصرية، إنسانيًّا ومعرفيًّا، على مستوى التفاصيل الصغيرة ومستوى الخطط الكبرى ورسم سياساتها، وهو النسيج الذي عايشتُه وعايشه مثلي أحمد طوسون وغيره، ولمستُ قيامها؛ أي الرواية، على العطاءات المقيتة لأهل الثقة من المثقفين السلبيين التابعين لنظامٍ قائمٍ على تقديس الفرد عبر هراواتٍ أمنية؛ فبدت تجليات المشهد الثقافي في الرواية،وكأنها أدوات مكشوفة للسيطرة على المثقفين والأدباء، وبدا المثقفُ- على هذا النحو- أداة تزييف للوعي، وتسويغ كل حركات النظام الشمولي؛ لذا كنتُ مشدوهًا إلى ما أعاينه في فضاء الرواية من تفاصيل صغيرة تصدر عن شخصية روائية تتجول في ترهات العمل الثقافي بمصر، وكنتُ مشدوهًا أكثر مع ورود مسميات حقيقية لأمكنة زرتُها وفقهتُ تبدلات الحراك الثقافي فيها قوةً وهشاشةً (قصر ثقافة الفيوم ... وغيرها)، وكذلك أسماء وزراء حقيقيين، وخاصة في فترة وزير الداخلية حبيب العادلي، ووزير الثقافة فاروق حسني، مع الإشارة إلى رموز ثقافية حقيقية، وكأنني بالروية، وبينهم، أتجول لأشهد على ما أقرأ مرةً، وأوافق مرة ثانية، ثم أرفض بعض التخييلات الواقعية روائيًّا من أحمد طوسون مرة ثالثةً ... وهكذا، استدعتني الرواية- من دون قصد- لأكون حاضرًا وبقوة ضمن تفاصيلها، ومجتهدًا ما أمكن في التّسلّح بضرورة استبعاد أية روابط بين شخصيات الرواية وشخصيات واقعية أعرفها؛ حتى لا أقحم خارج الرواية في تذوقي لها، ولربما كانت المحصلة أن طوسون جعلني- بهذا الاستدعاء-يائسًا من مآلات الواقع الوطني الذي صورته روايته، وهو الواقعُالموبوء بالشريحة التعيسة من طفيلي الثقافة.
وإذا كانت الرؤية في الرواية متمثلة في النفاذ إلى نقد وضعٍ مشرف على الانفجار، فإن طوسون لم يجد من حيلة أخرى للتعامل مع فئة المثقفين في الروايةإلا أن يبلورها منشغلة بمعارك أولية بدائية ساذجة، محددة لها لتكون خارج إطار القضايا الكبرى والمصيرية، كاسرًا بذلك المهمة الثانية التي حددها إدوارد سعيد للمثقف، وهي "بناء حقول من التعايش بدلا من حقول المعارك"لكنها أطاحت بالتعايش الأمثل للإنسان، مفضلة الدخول في معارك وصراعات استهلاكية مؤقتة ولا تنتهي في آن واحد، كتلك التي تتمحور في الصراع حول حبيبة، أو البحث عن منفذ لنشر عمل أدبي، أو مناقشة نقدية لإصدار أدبيٍّ أَنَّ طويلاً حتى رأى النور، فضلاً على التمترس الحقيقي لغالبيتهم في إهاب المسؤول الأمني وكتابة التقارير التي يمكن أن تحقق حظوة بمنصب، أو وظيفة ختامية تحقق قدرًا من الراحة المادية، لرجال الدولة.
إن سردية أحمد طوسون(رقة القتل) تُشعرني بأن الوجه الآخر للدّاء المستفحل في بدن الثقافة المصرية هو "الشقيقة" أو القتل الرحيم التي تفتك بالإنسان مثقفًا كان أم من زمرة العوام يكون، وقتلالبدن هو قتل الوطن على مستوى رمزي واحد، يتوازى فيه فعل الداء وتأثيرهبينهما،فحيث إن مكمن الداء وموطنه يكون "الرأس" حين يستحكمها الصداع النّصفي على مستوى البدن، فإن مكمنه يكون "الرأس" النخبوية أيضًا حين يحتلّها السّوس والعفن في جسد الوطن مصر، بما تتوافق فيه الإشارة الدلالية من "الرأس" إلى المثقف المفكر الأديب الفنان.
وعلى الرغم من أن الرواية مبنية على أكثر من ضفيرة سردية متعددة، فإنها تصبّ في واقع أحادي القطب؛ هو واقع التفتت، أو التمزق، وعدم الانسجام، فأنور وسلمي، وحاتم وشاهندة، ثم سيف ناصر ... إلخ، هم الشتات الساعي نحو الانسجام عبر شخصيات تقتسم عالمًا متوترًا، تتراوح فيه البنية السردية بين أحداث وأحداث حسب كل رافد منها، وتتوزع على فصول تُعنون بجملة أو جملتين، أو فقرة كاملة هي مما ترد في مونولوج لشخصية، أو في سرد الراوي، ثم يتناوب الرواي وصوته السارد التنقل بين هذه الأطراف وصولاً إلى نهاية الرواية.
هي بنية ضفيرية تتأسس فيها الأحداث على التراكم، الذي ينكسر تدفقه أحيانًا مع وجود فجوات زمنية بالعودة إلى الوراء، ثم القفز إلى الأمام استباقًا دالاً، بما يتحقق فيه القرب من، أو البعد عن، الشخصيات الروائية التي تعكسُ أدوارًا اجتماعيًا، أو أنماطًا اجتماعية ضاربة في التوغل داخل نسيج المجتمع المصري القار في توصيفاته؛ فهذا مثقف انتهازي، وذلك صحفي وصوليّ، ووذاك ضابط ضالع في الظلم، وهكذا أبواق عتيقة الأركان، تُشكل نسيجًا اجتماعيًا معبرًا عن مرحلة معاصرة عاشها المثقف العربي والأديب المصري، بل عاشها عن قرب أحمد طوسون، وهو ما جعل مدونته السرديةتستوعبها عبر ركيزتين، هما:
-          تقديم بناء ضفيري متداخل لأحداث تبدو غير مترابطة.
-          تنميط المكان وتبئيره بنوعٍ من الإسقاطات الثقافية التي ترسّخت في ممارسات المثقفين وإن تغايرت الأمكنة بؤسًا وضعفًا من قصر ثقافة الفيوم إلى قصر ثقافة بني سويف إلى ... ...إلخ.
إن تعميق الانفلات التام للمثقف ودوره في مجتمع منكوب بنخبته البائسة، بالإضافة إلى ما أشرتُ إليه من تنميط المكان وتبئيره بنوع من الإسقاطات الثقافية أدخل إيقاع اللغة السردية في ما يُشبه القليل من شَرَكِ الترهل السردي جرّاء بعض الترادفات التي أراها غير مجدية أحيانًا، ثم إقحام الثقافة الأنثروبولوجية الشعبية في سياقات وكأنها من باب الشيء ولزوم الشيء، وخاصة مع محاولات إظهار الجذور الريفية التي تنتمي إليها شخصيات تعيش في دهاليز القاهرة وأمكنتها الثقافية.
ولكن هذا لا يقلل من تتبعي لحصد المتعة السردية في لغتها التي تبدو طيّعة في مجملها، سواء أكان ذلك مع تجسيد واقع المثقفين والأدباء وإن مالت في قليل منها إلى ما يقترب من لغة التحقيقي الصحفي، أم كان ذلك مع تجسيد تصارع النوازع الداخلية الدفينة لدى سلوى وشاهندة؛ إذ ترتفع اللغة السردية في أداء شجني رقيق تصطادُ فيه رهافةَ الحس برقّة الصورة، وتلتقطُ عمقَ الوجع بدقة التّوصيف ودفئه.
د.محمد مصطفى سليم

mmsaleem7@yahoo.com


 http://elbashayeronline.com/news-528636.html

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق