"الصرخة
المكتومة – قراءة في رواية حمود بن حمد الشكيلي «صرخة واحدة لا تكفي»
يتماهى
الروائي حمود الشكيلي مع فرضية رولان بارت بأن العنوان عتبة النص، فبمجرد الولوج
من العنوان الكلاسيكي «صرخة واحدة لا تكفي» يخبرك حدسك، أن ثمة بطل يؤرقه عالمه الممتلئ
بالأسى، إنها الواقعية إذًا، واقعية خاصة يُصَدرها الكاتب على أنها خلقت في أماكن
متخيلة، حرفية تبعد فكرة الأدلجة عن النص وكذلك تحفظه من استبداد المسائلة،
المجتمع الفاضل لم ولن يخلق، ومن وظائف الكاتب الواقعي أن يتتبع ذلك الخلل ويضيء
عليه بغية تصحيحه. روح الكاتب تنفذ إلى حيوات كثيرة تأخذ من هنا
بطل ومن هنا مكان. فالرواية الجيدة هي قطعة من الحياة وأي تلخيص لها أو وضعها في
خانة يفقرها بل يمكن أن يقتلها، لذا أزعم أن معظم الروايات حدثت على أرض الواقع، حتى أكثرها خيالاً. لقد استطاع الكاتب
أن يمنح نفسه بذلك المفتتح فرصة للبوح، استثمره لكي يخبرنا عن واقعٍ عُماني جديرًا
بالإخبار، أحمد بطل الرواية، هو رمز لشريحة من الأشخاص الآخرين، شريحة قليلة لكن
لا يمكن اغفال العين عنها، وهي موجودة في كل مجتمع، يهدي الكاتب الرواية لبطله،
معلمًا إيانا أن ذلك الشخص موجود في أماكن كثيرة على أرض عُمان.
«إطارات
السيارات تقبل أزقة الأحياء السكنية…» يركلنا السطر الأول من السرد إلى عالم
الرواية دون مراوغة، ويدفعنا الكاتب إلى التبصر في التقنية أيضًا عندما يخبرنا بأن
الراوي قد عجز عن معرفة المتصل، رغم ذلك يصف سرور السائق «أحمد» بالمكالمة التي
تنتهي في ثوانٍ معدودة، فتتجسد صورة بطلنا المسحوق الذي يحتاجه الآخرون لكنه لا
يمثل لهم سوى رقم محفوظٍ في ذاكرة هواتفهم.
في
هذا النص الروائي، أحيانًا ما يكون الراوي متلصصًا وأحيانًا ما يكون محايدًا،
وأحيانًا ما يكون مشاركًا بالنقد، أو بالتبرير لفعل البطل، وأحيانًا ما يطل الراوي
ساخرًا من مرارة واقع بطله بائع أسطوانات الغاز في مسقط، يؤدي كل راوٍ من هؤلاء
وظيفة في النص، فمثلاً ها هو يفضح من خلاله واقع يمور بالبؤس والاحتجاج الخفي
فيقول في صــ78»
قد
يرى أحدكم أن بصاق أحمد في هذا المكان ما هو إلا تعبير عن رفض الواقع الجاثم على
هذه الأرض، بينما أرى أنا أن القدر صادف ضرورة أن يبصق السائق، ليخفف بعض تعب
الحنجرة التي تفطر بالتبع والمنبهات، حتى أحمد لم ينتبه وهو يبصق في هذا المكان
أنه يؤكد صحة التعليق الذي سمعه من أفواه الرجال، تحت شجرة البيذام ثاني أيام عيد
الأضحى الماضي. إنسان بصق أمام مكان سمع عنه كلامًا شائنًا ليس من الواجب علينا أن
تؤول فعله سلبًا لجعله في عداد الأشخاص الذين أحرجوا الوطن»
قبل
إكمالك للنص، قد تنتظر أن يطل عليك الكاتب كاشفًا عن سر ذلك الراوي المتعدد
الأوجه، وتظن أنه ربما يدهشك بأنه أحد المخفيين الذين ينفرج عنهم الستار كالساحر
الذي يفرج عما خبأه في اللحظة الأخيرة من انتهاء نمرته كي يصفق له الجمهور، لكن
بعد إكمالك لقراءة النص توقن أن ذلك الراوي المتعدد الأوجه، كان لتمرير رسائل لم
تكن ستمر بسهولة بيد الراوي العليم فقط، لقد صمم الكاتب أن يورط القارئ بالاتفاق
معه في أشياء وبالاختلاف في أشياء أخرى، وهو نجاح للرواية في قدرتها على أحداث ذلك
التفاعل البناء، فمثلاً قد يتساءل القارئ هل الواقع بائس بهذا الشكل؟ هل ثمة حياة
متقشفة في هذه البلاد بهذا الشكل؟! أم هي نظرة سوداوية مغرقة في التشاؤم نظرًا
لفارق حياة الرغد في عُمان عن البلدان المجاورة لها.
في
أجمل ما يكون البوح تسمع البطل يناجي نفسه متغزلاً في الشغالة الأندونيسية ساراتي
فتسمعه يقول «ساراتي اسم جميل، لا أحد في عمان اسمه سارتي، حتى أسماء الأندونيسيات
جميلة، كثيرون جاؤوا إلى هنا وتجنسوا، بلدنا لا يرد أحدًا، من طلب جنسية أعطاه،
يعني أنا أروح الإمارات يجنسوني إماراتي مثلاً. يا الله فكرة جميلة وحلوة، كلها
سنة وأسوق لاندكروزر، أو لكزس دفع رباعي….»
أحيانًا
لم يكون الراوي محايدًا، فتطل وجه نظره التي يفرضها على بطله، ويتجلى ذلك في
ص 149
«ويفتح
عينيه على اتساعهما، ويرى مياه الوادي وهي تزمجر غضبًا على الصمت الذي قابل به
الناس أوكار الفساد …» لكن الكاتب لا يدع بطله في عزلة اغترابه وحيدًا، فكثيرًا ما
يطلق له العنان لمناجاة نفسه، أو يتداخل معه في إبداء النصيحة، وهي لحظات سردية
ممتلئة بالشاعرية التي لا تتعدي أطر السرد صوب الشعر، وهذا يبين قدرة الكاتب
التامة على امتلاك أدواته، ففي ص 117 يقول:
«لا
يا أحمد لا تقطع الشارع، لا تعد إلى ملابسك التي رميتها خلف كرسي سيارة الغاز، حتى
إن تذكرت شيئًا نسيته فلا تعد إليه، أستحلفك بخالق الغاز في جوف الأرض أن لا تعود
إلى الحياة، إنك قلت أشياء لست راضيًا عنها، إني أوافقك عندما شبهت حياتك بحياة
الكلاب…»
على
طول النص ليست هناك علاقة مكتملة، وكأن خللاً قد ضرب أركان حياة البطل وبدد كل ما
يشجع فيها على الدوام، فالبطل مقطوع بفعل السعي للرزق من حياته في مدينته الريفية
التي لم يضئ الكاتب عليها فمرت مرور الكرام، وكأنه يؤكد لنا أن بطلنا قطع من جذوره
وإلقي على أرصفة مسقط غير الحانية، لا شيء مكتملٌ في حياة البطل فعلاقته بساراتي
عابرة، وعلاقته التي تورط فيها مع ذلك الرجل الأنثوي عابرة أيضًا، بل تكاد تشعر
بتوحد البطل في عالم صاخب بالحركة. لا شيء ضارب بجذوره لدى البطل غير علاقات
مقتضبة برفقائه من العاملين بتغيير أسطوانات الغاز، وكذلك تلك الرقابة التي تصنعها
الشرطة عليه، لوقوفه ذات مرة وسط مظاهرة بفعل الفضول. تلك الحياة البائسة تجعل
البطل يقرر الهروب من بؤسه في مسقط راجعًا إلى بلدته وإلى أمه التي اشتاق لها.
ولأن
البطل كما الريشة في يد القدر، فإنه يستسلم عائدًا مرة أخرى من بلدته التي حَصَل
فيها عملاً يشبه في بؤسه نفس عمله في مسقط، وكأنه حمل على كتفه نفس أحزانه التي
أراد الهروب منها، ليتبادر إلى ذهن القارئ أن الأسى لن يفارق البطل.
«منذ
أن سلّم على الشباب في محطة المياه، صار منهم، بسرعة عجيبة اندمج معهم، شعر أنه
واحد منهم، كما لو أنهم الشباب أنفسهم الذين باع معهم الغاز في الخوير، وكان بعضهم
يعرفه من قبل».
عندما
رأى أحمد بعد مضي أيام من خلال شاشة هاتف تناقلته أصابع الجالسين، المياه وهي تقتحم
شوارع وبيوت مسقط، ورأى هلع الناس وخوفهم، والأطفال فوق القوارب تعبر سككًا وأزقة
بين بعض البيوت المتهدمة، خشع قلبه من هول ما رأى، وقد شعر بأنه خان أعز أمكنة في
حياته، فغاب بفكره بين أصدقاءه، وأخذ يصنع الفرق بين بلدته ومسقط التي انقطعت شبكة
الاتصال عنها في هاتفه والتي تعذر بها معرفة مصير صديقه العزيز سعود، فكان لابد من
السفر بعد وداع أمه!
لقد
أحكم القدر قبضته ودفع أحمد كي يرى مصيره المنتظر، في ليلة قادمة لم تجئ بعد، يضرب
فيها الإعصار مسقط ثانية، ويختار من بين الناس، بائعو الغاز، ربما ليزيح عنهم
أثقال حياة مريرة لا يقدر إنسان على تحملها.
جميل جدا الوصف
ردحذف