الصفحات

2015/08/26

لم يعطها البحر.. قصة قصيرة بقلم: حسين منصور



لم يعطها البحر
حسين منصور
-1-
       دهبية
      لا تعرف من أين ياتى البحر , أو إلى أين يذهب بعد دار عمتها ، لا يربطها بالبحر غير ذلك الهاتف يناديها فتترك الحجلة ، وعرائس القطن ، وعجينَ الأم ، وتروحُ ، تبقى جالسة وإذا سألتها أمها ( كنت عند البحر ) الأم تخاف اَلبحر (البحر غدار ) والبنت لا تخاف إذا سمعت ( الجنّية) تذهب مع أمها وتعود ، الجرّة على رأس الأم والبنت فى يدها ، قدماها فى اتجاه الدار وعيناها تلقيان نظرة إلى البحر.

-2-
        لما منعتها الأم ، حفرت شقاً طويلاً فى الباحة أمام الدار ، وضعت فيه الماء ، صنعت بحراً وغرست على شاطئية نخلاً من قش وحطب وما لبثت أن ردمته ، جلست تسند رأسها بكفيها , لم يأتها ما كانت تراه لما تجلس عند البحر الكبير ، فأهالت فيه التراب وانصرفت .
-3-
         البحر نائم ، وجهه كالسماء ، تمايلت الجرّة مع عود البنت ، هى تعرف أنها جميلة ، غسلتْ وجهها ، وشربتْ، قامت جنّيات البحر فزعات ، ولا أحد هناك غيرها ، هى العذراء الجريئة ، وقفن يسألن ( ماذا سيفعل بها البحر ؟ هل تعرف أنها أفذعته من النوم ؟ هى الأن مِلك البحر ) أنهت الجنيات حد يثهن وهى لم تسمع ، حملتْ الجرّة ، ملأتها ، وجلست أمام البحر ، البنات بقدومهن ، والثرثرة يحرمنها لذة الخلوة ، قامت ، وبيد واحدة رفعت الجرّة إلى رأسها ، ومرت خفيفة كأنها تطير البنات شهقن، ضربن صدورهن وهمسن ( من أين جاءتها القوة وهى الصغيرة التى تحتاج إلى إلى من يرفع معها ؟!! ) فى الدار وضعت الجرة كما حملتها – مثل فنجان – أفرغتها فى الزير والأم تنظر غير مصدقة ما ترى .
       لم يمض يوم حتى عرف الغائب والحاضر خبر البنت التى مسها البحر وصارت كالرجال ( دهبية فلجت البحر ، وصارت عفريتة  )
-4-
        باتت الأم حزينة على بنتها التى ستصبح غولة ، تتحطم الأشياء بين يديها ، أما الأب فدار فى رأسه مالم يخطر على باله ( من سيرضى بالزواج منها ؟ من سيرضى أن تتحطم عظامه بين أحضاتها ؟) تبكى الأم ويسأل الأب ، والأيام تمر عاما فى عام .
هى لا تجد فى نفسها شيئاً غريباً، أمام المرآة ، كشفت نفسها تحسست صدرها ، شعرها ، ردفيها ، هى التى لم تكشف نفسها حتى أمام البحر ، أنثى مازالت هى : نهدان ، ردفان ، شعر ، فتشت فى نفسها فلم تجد شيئا، فلماذا لا يقبل الخُطّاب ؟! ولماذا قالت عمتها عنها ( ابنى لن يتزوج عفريته) والذنب ذنب البحر ، فقعدت فى ركن تبكى . ( ليتنى لم أر البحر ، ليتنى لم أخرج من دار أبى ، وحيدة بلا إخوة ولدتُ ، ووحيدة بلا رجل أعيش )
-5-
          العود يزداد فتنة ، أثمر رماناً، وصب فى وجنتى البنت عناباً، وفى العينين ترك زرقته ، ولا خُطّاب ، قضت أيام صباها وحيدة ، هجرتها الصديقات ، وأغلقت الدور أبوابَها فى وجهها ، لا سلام باليد ، ولا كلام ، الأمهات يخشين على أطفالهن منها ولم تعد تلقى سوى تمتمات الشفقة ، ومصمصات الشفاه. ولا قبلة على فم رضيع !! ما ذنبها إذا مسها بعض من قوى البحر ( ترى لو أن واحدة منهن مكانى ، ماذا كانت تفعل؟ وماذا تستطيع وهى مغصوبة؟) سألت نفسها ثم عادت للبكاء .
-6-
       (آه يا بلد السو !) الأب فى جلسته على مصطبة الدار ، ينفخ دخان سيجارته، ويرد السلام بذهن شارد، هو يمر عليه بعد كل عصر ، ويمضى ، من هو ؟ لا يعرف، غريب ، سأل عنه، قالوا، ( يبنى المسجد) لم يكن مظهره يوحى بذلك ، أشقر، نظيف ، ( ما اسم الكريم ؟)( محمد) (من أى البلاد ؟) (بلدى حيث رزقى ) دعاه إلى عشاء ؛ فلبى ، دعاه الى مبيت  ؛ فلم يرفض ، ذات عِشاء قال له(ينقصك بيت وزوجة ) قال (نعم) قال الأب (عندى) ستر الأب سروره، من سيسأل عن هذا الغريب إذا مات ، أو إذا أكلته؟ بات البنّاء ليلته ، وقام إلى عمله لما عاد قال الأب ( الجمعة نعقد) وافق البنّاء الذى لن يدفع مهراً أو كسوة ، زوجة، ومحل للسكن ، أيا ما كانت تلك الزوجة ، وما يجهله اليوم سيعرفه غداً.
-7-
       بعد العصر انفض الشهود ، صار البنّاء واحداً من أهل الدار ،( اصعد) صعد البنّاء، تتبعه ربة البيت ، وأخرى غطت وجهها ، دخلوا، الحجرة نظيفة ، مبيضة بالجير الوردىّ، سرير عرس بملاءة مطرزة ، ولحاف من الستان الأحمر ، وشوشت ربة المنزل رفيقتها ثم خرجت ، ظن البنّاء أنها ستحضر العروس (وأنت؟) قالت (أنا العروس ) كشفت الوجه ، بدر ، كشفت الشعر.
        البنّاء لا يهاب النساء ، طلق واحدة واثنتين بعدها، أما هذه فلا يدرى ، كان يظن _ لما دعاه الأب _ أنها دميمة يريد تعليقها فى رقبة رجل ، وهو يريد عزوة فى بلد غريب ، وبيتاً يغلقه على حاله ، أيام يمضّيها ،وإذا ضاق عليه الرزق طلقها ورحل ، إذا لم تأت له بولد يبقيه.
       مازال البنّاء مسمراً مكانه هل حقاً ما تقول : هى العروسة ،  كذب خيالُهُ واستبدلتْ الحقيقةُ الوجهَ الدميمَ يوجه فاتنٍ، فاتنٍ أكثر مما ذهب إليه خياله فى امرأة ( قبل كل شى قولى لى ، أنتِ..أنا ..أنا غريب فقير وأن .. وأنت كما أرى..!) لم تقل شيئا ً، ومالت على الارض ، أخذت كوباً من صينية الشاى ،وسحقته بين كفيها ، لم يزده ذلك ألا دهشةً، بعد صمت قليل أخذ يدها وأجلسها ( احكى لى ) فحكت ( كان البحر نائماً............)
-8-
        أنهت حكايتها (هل تأكل الآن ؟) (نعم) كشفت صينية الأتفاق، أطعمته شوائها ، فأكل ، دفستْ إبريق الشاى ، ناولته فغسل يديه ، صبت الشاى ، شرب، كأن لم يشرب شاياً من قبل رصت حجراً وناولته ، شد، وأظل الحجرة دخان الحشيش الصافى ، أخذت الجوزة من يده فقام ، آن  لجنية البحر أن تخلع أصدافها ، خلعها عنها ، فبدا اللحم البضّ صافياً(هى جنية بالتاكيد) حدث نفسه وهو نصف سكران ، كل ما عكر صفو لحظته أنها كانت تعقد ذراعيها خلفها ، حملها على ذراعى بنّاء ، أراحها , فَرَدَتْ ذراعيها ، وساقيها ، (اربطنى ) وصية الأم ، ذكرتها وشوشتها بها قبل أن تترك حجرة العرس وتنزل ، هى تعرف ما تقصده الأم : ( إياك أن تفقدي هذا الرجل ، فالشتاء لن ينقضى أبداً، هو واحد ولا ثانى بعده ) فهم البنّاء ، ها هى جنيه البحر على سرير العرس ، غشيها البنّاء، وغاص خضّها ، خضهّا كما لم يخض امرأة من قبل ، لان الجسم للبنّاء ، صار الشتاءُ دفاً، والحجر زبداً، حلّ وثاقها ، ضمّته إليها ، ذراعاها  ريشتان وساقاها من حرير ، لفتها فى حض البنّاء رائحة البحر، والحناء ، ونسيمٌ ندىّ ، ورأت جنيات البحر يحضرنّ عُرسها ، ذهبٌ، ذهبٌ فى كل مكان ، نورٌ, نورٌ فى شعرهن وأفواههن ، وكواحدة منهن تغنيْن لها بأغانى الفرح، فخرجت زنبقات من ثغورهن ، مدت يدها تلتقطها فكان هو لا أحد غيره مصدراً للذة والسحر .
-9-
       الدرب سكون لم يشهدها تحمل ماء حمومها ، وكوز فى يدها تغرف، وتدلق على كل باب مرة ( يا أبناء الثعالب ، هذا ماء صباحيتى شموه؟ شموا ، وفى الدار ، سبع أشقر ، شعر صدره نافر) تركتْه فى هدأه الفجر يحلم وخرجتْ لهم فى غَفْلة من الوالدين .
       الشمس لم تقو بعد ، أبواب الدور تفتح باباً باباَ يمد رجُلُ الدار رجلاً و لا يخرج، البلل على الأبواب والعتبات، تصايحت النسوة ، تبادلن الشتائم ، علت أصوات الرجال الذين لم يخرجوا تجنباً لأذى السحر ، غسلت الزوجات الأبواب ، ومن الماء الطاهر رشرشن على العتبات ، تمتمن بالمعوذتين ، وتمائم التحويط ، أما هى يشهدها طيور الصبح ، ونوافذ الدور ، عادت إلى الدار ، أشعلت النار ودفست إبريق الشاى ، وبصوت حورية أخذت تهدهد السبع النائم كى يصحو .

-10-
       على أرض حجرته بات الأب حتى الضحى ، أرسل زوجتة لتطمئن ، عادت وعلى رأسها صينية العرس ، وتكتم الضحك ، قام الأب لا يصدق ، كان يريد إسعاد ابنته ولو لليلة ، كان يود أن لا تدنو من عينيتها نظرة اليأس التى يولدها الزمن ، ومصمصات شفاه العجائز ، هاهى الآن عروس فى صباحيتها تطلب الفطور.
-11-
       الأيام تمضى ، والبنّاء يبغى الولد ، والولد لا يأتى ، شهورٌ ، شهورٌ والولد غيب ، إلى البحر ذهبت ( أنا أحبة يا بحر ، وأنت حجر لا تعرف الحب ، ولداً .. ولداً يا بحر هل ترضى أن يتركنى ، أنت تريد ، شمتَتْ بى البناتُ، سيحبسنى أبى ، ماذا تريد أن تفعل بى أكثر مما فعلت ؟ ألم يكفك العمر الذى قضيتُة وحيدةً فى شتاء بلا رَجل) فَرَدَتْ شعرها (خذه يا بحر ، لا أريده) صفحة البحر صمت ، لمت شعرها وغطتة، وعادت لا يشعر بها غير الجنّيات اللاتى تتمطين نعاساً.
-12-
      أكمل القمر دورته ، عادت إلى البحر ( أنت السبب ، حبيبى يريد الولد) خلعتْ خاتمها و ألقته فى البحر ( خذ يا بحر واترك لى حبيبى ، أريد ولداً يا بحر ) العام يمر ، نزعتْ قرطها وألقتة ( أعرف أنك ترضى، هل هذا ما تريده؟ خذه يا بحر) أعاد القمر دورانة ، خلعت خلخالها ( هذا خلخال حبيبى خذه وأعطنى ولداً، أنت لا تريدنى لغيرك، أعرف) ثم عادت للبكاء .
      العام يلف ، خلعتْ عِقدها ، فرطتة ،أخذت تقبل حباته حبةَ حبةً ، وتلقيها إلى البحر( هذا عقد أمى ، إن كان يرضيك خذه ، خذه  يا بحر أنا لا أريده ، أريد ولداً ، أعطنى ولداً يا بحر ، لا أحب العقود ، لا أريده ، والله  لا أريده أريد ولداً يا بحر )
-13-
       بلا قرط ولا خلخال ، جاءت ، ألقت الشال، والمداس، وخطت نحو البحر ( هل تريدنى لك يابحر ) تدنو( هذا ما تريده ) تضع قدماً فى الماء ( ماذا سأفعل إذا عدتُ وسألنى عن ولد يداعبه كبقية الخلق؟ أنت لم تره بالأمس لما حدثنى عن غربته، ووحدته ، حرمتنى الرجال أعواماً والآن تحرمنى الولد ، أنت قاس يابحر تريدنى لنفسك، أحبك وحدك ، أجلس معك وحدك لماذا لم تسحرنى صنطةً أو عودَ صفصاف؟ خذنى يا بحر ) الماء إلى ركبتيها ، تنزل ، إلى خصرها إلى صدرها ، كفّاها تملسان على وجه البحر ، وشعرها تبتل أطرافه ( خذنى  يا بحر ، خدُنى أو أعطنى ولداً) شعرها انفرد على كتفى البحر ، انزلقتْ، تركتْ نفسها بين يدى البحر الذى لم يعطيها إلى الآن ولداً.       


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق