الصفحات

2015/10/11

إشغال طريق قصة بقلم: ياسر محمود محمد



إشغال طريق
  ياسر محمود محمد

الزمن : ( أوائل التسعينات )
كان دكانه بجوار دكاننا
تعلوه اللافتة المألوفة  ..  ( محل عطارة أبو ضيف ) و بجوارها وبخط صغير ( 1000 صنف ) ..  برغم أنه لا يوجد فيه حتى عشر هذا الرقم . كان يبدو كخزانة عملاقة من الخشب في حائط شارعنا ، و أمامه منضدة قديمة لا تغري سرقتها بينما عم " أبو ضيف " بظهره المنحني       و وجهه النحيل ، وجسده الضئيل يجاهد كل يوم ليحرك المنضدة ليفتح محله و يخرج أدواته    و يضعها عليها و يسعي في طلب رزقه .
     كنا كذلك منذ سنوات و سنوات لا يعكر صفونا شيء ، منذ كنت في السادسة من عمري     و أنا أراه في نفس المكان ، و أشاهد الفتيات الحسان و النساء اللواتي يقضين نصف اليوم في حديث طويل أمام دكانه  ..  كأنما جئن للكلام لا للشراء !
     كان جدي قد بلغ من العمر أوجه فهو في الخامسة و الستين ، اشتعل رأسه شيباً  ..         و وجهه ذو  الملامح المصرية الأصيلة ، ينبئ عن رجلٍ مكافح بدأ بعربة يدفعها بيده و مجموعة من الأكواب ليصل إلي دكاننا الحالي الضخم في تلك الأيام الصعبة ، كانت كل لمسة من يده لمسة فنان خبير – رغم أميته – فيضع تلك هنا و هذه هناك و يقول دائماً :- ( إن مظهر الشيء هو نصف قيمته ) .
*          *          *
     كانت كل أيامنا تمر كذلك علي نفس المنوال ، بيع و شراء و خناقة ضخمة في قهوة " أبو سريع المجاورة " و معاكسة لبعض الفتيات من اللواتي يخرجن من مدرسة التجارة المجاورة .
و هكذا كل أيام شارع صدقي الشعبي
إلي أن جاء ذلك اليوم ..
     فجأة وجدنا سيارة كنت أعرفها تمام المعرفة ، إذ أنها دائماً تطارد الشباب ، سيارة زرقاء اللون تحمل ستة من الشرطة مدججين بالسلاح كأنهم في موقعة حربية ، بينما يجلس علي الكرسي الأمامي ضابط شاب يأمر و ينهي ، و يقابل عربة كارو محملة بالفاكهة و يأمر بإبعادها و إلقاء صاحبها الرجل المسكين في سيارة الشرطة بينما يرمقه الضابط بازدراء و بغطرسة
و يتقدم الضابط نحو جدي ..
و جدي يخبر هذه النوعية من البشر و يخبر كيفية التعامل معهم . و أذكر تلك المناقشة الكبيرة التي دارت منذ شهور ، عندما عُين ذلك الضابط في شارعنا و حاول أفراد الأمن إلقاء حاجيتنا في الشارع لتعدينا – علي حد قوله – علي الشارع العمومي .
لكن جدي لم يرهبه !
و دار النقاش طويلاً فقد كان ذلك الضابط يعرف قيمة جدي في الشارع و قوة أتباعه و تأثيره علي محيطيه و سطوته بين أشياعه فتركنا و هو لم ينل مراده .
و ها هو الآن يمر بنا مر الكرام و هو يشير إلي جدي بطرف يديه و أسنانه تكظم من الغيظ .
إلا أن عينيه وقعتا علي عم " أبو ضيف " الضعيف و إذا به ينفش ريشه ، و يهبط ليأمر عم أبو ضيف المسكين بالابتعاد عن الشارع ، و عم " أبو ضيف " يقف ناظراً إليه في بلاهة  ..  فدكانه لا يمكن أن يصل إلي الشارع ، فدكانه ضيق لدرجة أن ضباط الشرطة لا يعيرونه أي اهتمام .
إلا أن الضابط لم يصبر علي عم " أبو ضيف " إذ أسرعت يداه و قدماه تركلانه حتى سقط علي الأرض ، ثم أمر جنوده الذي أسرعوا كالذئاب فنهشوا الدكان الآمن و فرشوا بمحتوياته الطريق  ..  ثم ابتعدوا مسرعين .
     و اقتربت بمنديلي من عم " أبو ضيف "  ..  أمسح عنه الدم المسال من طرف شفتيه  ..  فلم أنس كمية البلح الوفيرة التي كان يعطيني إياها كلما رآني .
و نادينه بصوتي الخائف  ..  و كررت ندائي عدة مرات ..
لكن عم أبو ضيف ..
علي غير عادته  ..
لم يرد علي !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق