الصفحات

2015/11/02

قراءة في كتاب ( أنا وجدّي ) للدّكتور محمّد بن يوسف كرزون بقلم: عبد الله لالي



قراءة في كتاب ( أنا وجدّي[1] )


للدّكتور محمّد بن يوسف كرزون
بقلم: عبد الله لالي
رواية عن الزمن الجميل..
كتاب لطيف ورواية ظريفة فيها ملامح التصوير الفنّي التلقائي، والإبداع العفوي الذي كسر تقاليد السّرد الروائي الحديث والمعقّد، الذي يعمد في غالبه إلى الإبهام والمعاضلة، لإيهام القارئ بأنّ وراء الفكرة معان أكبر مما يحيط به الفكر أو يدركه العقل.. لكنّ الدّكتور محمّد كرزون[2] استطاع في هذه الرّواية أن يشدّني إليها ويغويني بقراءتها على نَفَس واحد..فاستفدت واستمتعت، وَوَددت لو لم تكن صفاحتها القليلة سبعَا وسبعين فقط، بل لو زاد وتوسّع لكان قد زاد في بهجة القارئ ومتعته الفنيّة ، ولعلّ سّر جمالها يكمن هنا.. قليل نافع خير من كثير أكثره فضول وحواشي كلام..
وقد حرصت أن أخلّد لحظة انتهائي من قراءة تلك الرواية ( أنا وجدّي ) في حينها فكتبت:
قبل قليل ( السّاعة العاشرة و 45 د من يوم الاثنين ليلا 19 من أكتوبر 2015 م ) أنهيت قراءة رواية ( أنا وجدّي ) للدّكتور محمّد بن يوسف كرزون .. وهي رواية حيّة ، من النّوع الذي يستهويني ويجذبني ، ذات أسلوب واقعي ساحر ..
وسأكتب عنها قراءة أدبيّة قريبا بإذن الله تعالى..
ومن ملاحظاتي التي كتبتها أثناء القراءة هذه العبارة :
" من القصص الذي يستهويني ( البساطة السّاحرة ).."  
وهي تذكّرني بعبارة اشتهر بها أدباء أمريكا اللاتينيّة، وعلى رأسهم غابريال غارسيا مركيز، إنّها عبارة "الواقعيّة السّحريّة " ، ولعلّ هذه الرواية من بابها، وإن كانت بعيدة كلّ البعد عن عبث أدباء أمريكا اللاتينيّة واستهتارهم، الذي وصل في بعض حالته إلى درجة التحلل من كلّ القيم..
رواية ( أنا وجدّي ) للأديب محمّد بن يوسف كرزون ترسم لنا لوحة فنيّة راقية من الزمن الجميل، كما يسميه الأديب محمّد البشير بوكثير، صاحب المقامات البديعة ، ولذلك وضع لها المؤلّف عنوانا فرعيّا يومئ إلى مثل هذا المعنى الآسر: (نفحات من عبق الأيّام الخوالي ). إذ هي تمثل فيما يبدو جزءا من سيرته الذّاتية.
الكرسيّ:
تبدأ الرواية بحكاية السّرد الأسطوري الذي تعوّد عليه الأحفاد من جدّهم الوقور صاحب الكرسي العجيب، كرسيّ يصفه الكاتب بقوله:
" رائحة الخشب في كرسيّ جدّي لا تشبه أيّ راحة، ومع ذلك نحبّها، ربّما لأنّها رائحة كرسي جدّنا، وقاعدته المجدولة من القشّ العتيق تظهر عليها التجاعيد كما تظهر على جدّي، وعندما يرتمي أحدنا – نحن الأولاد – بقوّة فوق الكرسيّ يتناثر من تحته غبار ممزوج بقطع صغيرة من القش، ومع ذلك لا ينتهي منه، كأنّ القشّ لا يريد أن ينتهي ما دام جدّي حيّا "
فنجد في هذا المشهد التصوير الفنّي المثير لكرسي الجدّ ، فرغم أنّه كرسي قديم متهالك إلا أنّ له ميزات عجيبة أخذت بألباب الأطفال، لأنّه كرسيّ جدّهم أوّلا ثم لأنّه الكرسي المرتبط بالحكايات ثانيا، لذلك نجد المؤلّف يربط العلاقة بين الحكايات التي يرويها جدّه وبين الكرسيّ فيقول في تعبير عجيب:
" كأنّ القصص مخبّأة في الكرسيّ، وكأنّ جدّي يقرأها من رائحته السّاحرة.." ص 08
ومن كثرة ما ذكر الكرسي وأمعن في وصفه؛ صار كأنّه أحد شخوص الرواية النّابضة بالحياة.. ! 
ثمّ ينتقل الكاتب إلى وصف طريقة وصوت الجدّ أثناء الحكي، ويؤكّد أنّ صوته وطريقته في الحكي لا ينافسها شيء، حتّى وسائل الإعلام الحديثة مثل ( المسجّل ).. ويشير إلى أنّه العنصر الأساس في السرد..
والجميل الرّائع أنّ الحفيد ورث عن الجدّ موهبة الحكي، وبرع فيها براعة كبيرة، وكان كثيرا ما يعتلي كرسيّه خلسة ويقلّده في طريقة الحكي.
تحف الجدّة الثمين:
ومن بديع ما يعرض له المؤلّف في حياة الجدّ هو ذكرى زوجته الرّاحلة ( الجدّة )، التي يبدو أنّها تمثل ذكرى طيّبة في قلبه، ولتلك الذكرى عَبَقُ خاص إذا طافت بالذهن أو خطرت على البال، وهو يحتفظ ببعض أشيائها كأنّها كنوز أو تحف فنيّة ثمينة، ينبغي صونها والاعتناء بها بشكل مبالغ فيه جدّا. يقول الكاتب واصفا حال الجدّ مع ذكريات الجدّة وفاء وصونا للمحبّة القديمة:
" نحن لا نعرف جدّتي، فقد ماتت – رحمها الله – منذ خمس عشرة سنة أو أكثر – كما يقول أبي ومع ذلك أرى جدّي يهتمّ بأشيائها، ولا يفرّط بشيء منها. مرّة طلبت عمّتي أن تستعير (المكحلة) النّحاسيّة الصّفراء لتكتحل، فأعطاها إيّاها جدّي بعد إلحاح، ولكنّها بعد أسبوع أعادتها له وقد أضاعت غطاءها، فحلف جدّي من يومها ألّا يعير غرضا من أغراض جدّتي، ولم يقبل من عمّتي مكحلة جديدة.." ص 17 ومن الصّور الفنيّة البديعة التي صاغها الكاتب تعبيرا عن الحضور الأسطوري للجدّة ، في حياة الجدّ رغم وفاتها منذ سنوات هو قوله:
" ونشعر أنّه يحكي لنا عنها وكأنّها في الغرفة الأخرى، أو كأنّها ستُطلّ علينا بعد قليل حاملة فنجان القهوة له ، وقطع حلوى لنا.." ص 19
أيّ وفاء وأيّة قوّة حبّ روحي تتصل بالماضي بسبب متين، لا تغيّره الأيّام ولا تقادم العهد.. ؟ ! ونجد جمالية السّرد وسحر التصوير في تلك الأشياء اليوميّة الصّغيرة التي قد لا يُلْتَفت إليها، إلا أنّها هي التي تصنع أحداث حياتنا الكبرى، وتضفي على النّصّ بعدا إنسانيّا عميقا ومؤثرا، وأظنّ أنّ الروائيين الكبار إنّما اكتسبوا الصّبغة العالميّة والانتشار الكبير بهذه التفاصيل الدّقيقة، التي هي بذور نديّة كامنة في نفس كلّ واحد منّا، وقد أشار إلى هذه الميزة المدهشة كثير من النّقاد الكبار وفطنوا لأهميّتها البالغة..
متعة القراءة:
ومع الحكي ومع الجدّ تبدأ علاقة الكاتب بالقراءة والكتابة بعد ذلك، حيث أنّ شدّة تأثره بجدّه وارتباطه به جعلته، يراقب كلّ ما يفعله الجدّ بدقّة بالغة ويتمنى لو يصنع مثله، ومن ذلك عادة القراءة عند الجدّ، واستغلّ الحفيد حصوله على نتيجة جيّدة عند انتقاله إلى الصّف الرّابع، وذهب بتلك النتيجة الرّائعة إلى الجدّ مبشرا، وظهر على وجه الجدّ الفرح والبشر، فسارع الحفيد وذكّره بوعده له أن يقرأ من كتابه الخاص الذي يضعه في الرّف، واستجاب الجدّ للرغبة الملحة ولكن بشروط وطقوس خاصة وعجيبة في القراءة، فللقراءة جلسة خاصّة واهتمام يجمع فيه كلّ تركيزه واستعداده، وكذلك هناك مبدأ مهم جدّا حدّده الجدّ وهو أن يقبل الحفيد تصحيحات الجدّ ويصبر عليها مهما كانت كثيرة..
وهناك شرط هام أيضا أصرّ عليه الجدّ وهو:
" أن تقف عند كلّ جملة تعجبك وتعيد قراءتها ثلاث مرّات، لتشعرني أنّك تفهم ما تقرأ ..." ص 25.
وكانت طريقة مدهشة في تربية ذوق المطالعة بشكل سليم وجذّاب، ما جعلها تنمو وتتطوّر بطريقة لافتة للانتباه " مضى شهران من الصّيف وأنا أقرأ في كلّ يوم بضع صفحات من كتاب جدّي، أغلاطي تقلّ، وصوتي يتحسّن، فهمي يتّسع... وحبي للقراءة يزداد بشكل كبير.." ص 28.
كان الجدّ قدوة صالحة في سلوكه كلّه في الحكي وفي القراءة وفي تربية أحفاده، وفي تعليمهم الصّلاة أيضا، إنّها التربية بالحب والتربية بالقدوة ، أعظم عنصرين ناجحين بشكل حاسم في التربية.
العباءة القديمة:
ويعود الكاتب بعد ذلك إلى ذكر بعض خصوصيّات الجدّ وأشيائه الغالية ، التي تمثل له جزءا عزيزا من دنياه الصّغيرة، بدأ بذكر العباءة التّاريخيّة الرّائعة التي ورثها عن جدّه، وكأنّها عباءة مباركة، وكأنّها أيضا كائن حيّ مثلها تماما مثل الكرسي، ينبغي أن تعامل معاملة خاصّة، فالجدّ لا يلبسها إلا في مناسبات خاصّة، وعندما كانت الجدّة تغسلها تغسلها بلطف وعناية فائقة، والجدّ يتحدّث عنها أيضا كما يتحدّث عن الكرسيّ كأنّها كائن أسطوريّ:
" هذه العباءة – يا ولدي – سِتري وسَنَدي.. وعندما تنزل عن كتفي أحسّ بأنّ شيئا ما ينقصني، ثمّ أتذكرها، فأعتذر إليها، ثمّ أرتديها.. هذه العباءة صديقة عمري، ومن قبل صديقة أبي وجدّي.. نعم جدّي..هذه العباءة كانت لجدّي منذ زمن بعيد.." ص 41
وبلغ بالجدّ من العناية بحفيده والحرص على تربيته التربية الكاملة، وتوجيهه إلى السلوك السّوي؛ إلى أن كان يقدّمه بين آن وآخر للصّلاة به ، حتّى تعوّد على ذلك. وصلّى خلفه ذات مرّة أعمامه أيضا في مشهد مؤثر جدّا ولما كان يقول لجدّه أنّه لا يريد أن يطيل في الصّلاة حتّى لا يرهقه ، يجيبه الجدّ في يقين المؤمن:
" الصّلاة لا ترهق يا ولدي.." وقد آتت هذه التربية النورانيّة أكلها، فقد وصف المؤلّف صلاة الحفيد قائلا:
" تملّكني شعور نسيت فيه الدّار ومن معي.. لكأنّني صرتُ في ملكوت الله العليّ العظيم.. وشعرت أنّ صوتي لا يصدر منّي.. بل يصدر من ملائكة تحفّني من كلّ جهة.. وتنطق معي ما أقرأ.. " ص 61.
تربية نقيّة:
إنّها التربية النّقيّة التي تثمر الخير والبركة، ويجد صاحبها نتائجها في الدنيا قبل الآخرة.. وقد يستغرب بعض ( المستلَبين فكريّا ) طرح مثل هذه القضايا والأفكار في رواية أدبيّة، ويعتقد أنّ الرواية الفنيّة الجيّدة ؛ ينبغي أن تعالج فقط ما يثير غرائز الإنسان، ويخلخل معتقداته، أمّا ما عدا ذلك فهو وعظ وإرشاد ديني ، مكانه المساجد ولا علاقة له بالسّرد الروائي، وهو ما تجاوزته الحداثة في العصر الحالي ( !!  ) ، وتلك لعمري مغالطة كبيرة ، إنّ ما عرض له المؤلّف في هذه الرواية القيّمة، هو من صميم حياتنا الإسلاميّة والعربيّة، وهو غالب ما يكون في البيت المسلم على تفاوت بين النّاس، أمّا الفاحشة والخمر، وجنون الغرائز وشذوذ الأفكار، فإنّها تحدث على هامش حياتنا، ولا تهمّ الجمع الأعظم من أفراد الأمّة، وإن عالجها الكاتب المسلم فإنّه يضعها في إطارها الصّحيح، ولا ينبغي له أن يجعلها القاعدة، حتّى يظنّ غير المسلم أنّ هذه حياة المسلمين حقيقةً..
فصورة الإمام مثلا في الرواية العربيّة الحديثة المتأثرة بالتيّارات الغربيّة ؛ صورة مشوّهة جدّا، فهو جاهل شهواني يبرر لنفسه ما يحرّمه على النّاس. وكأننا أمام صورة أحد قساوسة القرون الوسطى الذين نادت الثورة الفرنسيّة بشنقهم وتطهير الأرض منهم.. وهذا التصوير ( التشويهي ) المدين للإمام إنّما كان سببه التأثر والتبعيّة العمياء للتيّرات الفكريّة والأدبيّة الغربيّة من طرف الكتّاب المستلَبين..  
أمّا مؤلّف كتاب ( أنا وجدّي ) فقد أعطى الصورة المشرقة لبيئة مسلمة ( حيّة )، رغم بعض نقاط الوهن والضّعف، والتي لا ترضي الجدّ إلا أنّها في الغالب صورة إيجابيّة، مقبولة مقارنة بما تصوره الرواية الحداثيّة ( !! ).
وفي ختام الرواية تجيء النّهاية بوفاة الجدّ ولكن وفاته مثل حياته؛ مثمرة نافعة تلقي بظلال الخير والبركة على كلّ أفراد الأسرة، بل المجتمع كلّه إذ يترك وصيّته الرائعة وقد جاء فيها:
" عليك بالتسامح مع النّاس..وإيّاك أن تكون قاسيا..العلم .. العلم.. العلــــ..."
رواية يصحّ أن نقول عنها أنّها تمثل حقّا الواقعيّة ( السّحريّة ) بجدارة، وهي تمثل المجتمع المسلم الحقيقي في أزهى صوره ،  كما أنّها تلامس الهـَنَات والكبوات لمسا حانيا رفيقا.. تذكيرا وتنبيها..
  


[1] - رواية ( أنا وجدّي ) للدّكتور محمّد بن يوسف كرزون نشرتها ( دار الوعي العربي ) عام 2014 م
[2] - الدّكتور محمّد بن يوسف كرزون من مواليد 19  مارس 1955 في مدينة حلب -سورية.
- حصل على الإجازة في اللغة العربية وآدابها من كلية الآداب بجامعة حلب عام 1982. 
- يكتـب المقالة والدراسة الأدبية والقصة القصيرة والشعر في المجلاّت الثقافية العربية، منذ عام 1983.
صدرت له كتب عديدة منها :
- الخنساء/ عودة جحا / نزار قبّاني..  ( اقتبست هذه النبذة في ترجمة المؤلّف من موقع القصّة السوريّة ).

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق