الصفحات

2015/12/12

الشاعر الكعبي عبد الوهّاب بوتدارة بقلم: عبدالله لالي



الشعر الكعبيّ 
بقلم: عبدالله لالي
المدرسة الكعبيّة 13:
الشاعر الكعبيّ عبد القادر بُوَتَدَارة[1]
يقول الشيخ رمضان بونكانو :
" والقصيدة ( الكعبية ) بهذا الاعتبار تعتبر هي النموذج الأصلي والصحيح للقصيدة الإسلامية ، ويمكن أن نقول أن القصيدة بهذه الصورة اكتسبت جانباً من جوانب السنة ، وهو جانب التقرير ( السنة التقريرية ) حيث أقر النبي صلى الله عليه وسلم كعباً على قصيدته بهذه الصورة والكيفية التي تجمع بين الموضوع العاطفي والديني ، في إشارة واضحة منه إلى أن ديننا الحنيف لم يأتِ لكبح العواطف أو القضاء عليها ، بقدر ما جاء لتهذيبها ووضعها في إطارها المشروع ، وفي الوقت نفسه لم يأتِ لتغليب الجانب الروحي على الجانب المادي وإنما للموازنة بينهما ، فلا طغيان لهذا على ذاك ولا لذاك على هذا  ".
نظر الصبيُّ لقدسنا وتبسّما
واستشرف الفرج القريب توسُّما
وهوى يُخطط رسمةً بيمينه
وفؤاده بالقدس كان متيَّما
وأتى يبشّر أمّه .. حتى ترى
ما سطَّرتْ كفُّ البنانِ مُصمَّما
....   ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عبد القادر بُوَتَدَارة من قصيدته ( صبيّ القدس ).
تلميذُ وفيٌّ ومحبّ للأمير ، زاره في بيته وتجوّل برفقته في مزرعته، وجلس ليأخذ وِرْدَ الشعر الكعبيّ ، وسار على النّهج لا يحيد قيد أنملة.. فتى في مثل تفتّح الأزهار وتبرعم الغصن الطريّ ، تبشّر أزهاره بربيع حافل، وجنّة مثمرة زرعها ريّان ، يَعِد بموسم يحصد فيه النّاس ويعصرون من خمرة الشعر ما يطيش بالعقول. قال عنه الأمير مصدرا شهادة تعديل وضبط ( بأسلوب مصطلح الحديث ) في المنهج الكعبيّ:
" عبد القادر بوتدارة ، فتى أحسّ برجفة الشعر منذ عام فقط ..لكنّ الشعر عرّش عليه وتسلّقه وكساه ، وألبسه منه ما يُلبسه الشعراءَ الذين يبشّرون بالشعر الجيد منذ مطلعهم الأول..
وحين تطلع شمس من خلف الآفاق، فإنها لا تكون ناقصة ، لكنها تؤثر أن تطلع جزءا جزءا لئلا تعمي العيون أو تأخذ الألباب بتوهجها ..وكذاك الشعراء الجيدون ، يطلعون متمهلين مراعاة لأهل الذوق وغواة وادي عبقر ، من أن تطير أفئدتهم .. "
وهذه شهادة ثانية نشفعها بشهادة الأمير للشاعر الشيخ رمضان بونكانو يقول فيها عن الفتى الألمعي:
" " ... بين هاتيك الجموع ، يطل علينا نجمٌ ساطع ، وكوكب لامع ، وصيتٌ ذائع ، شاّبٌّ واعد طموح ، ومُهرٌ في ميدان الشعر جموح ... إنه الشاعر الجميل ، والفارس الأصيل : عبدالقادر بوتدارة الذي بعث إلينا بهذه الأبيات الرائعة الجميلة يقول لا عدمنا أمثاله ولا حُرمنا نواله .. "
شهادة من أمير المدرسة ( محمّد جربوعة ) ومن شيخها وفقيه شعرائها رمضان بونكانو ؛ تكفي وتفي[2] وتجعلنا ندخل عالمه الشعري متقحّمين غير هيّابين، وكأنّ الكعبيّة تولد ويولد معها شعراؤها الأفذاذ فيكبرون ويتسامقون في توازٍ مع تسامقها وتفرّع أغصانها الفتيّة ..
شاعر كعبيّ يعزف أنغاما عذبة وألحانا طرِبَة ، فيقول من قصيدته التي نشرها له الأمير في ( محكمة النّقد ):
ذكرتك يوم آلــــــمني اشتـــــــــــــــياقي * * وآه الشوق تعــــــــــــــــرفه الـــــــــــــــــمآقي
وشوقي يا حبيــــــــــــــــــبة ليس يخفى * * فـــــــؤادي بيــــــــــــــن منـــــــــزاح و باقِ
خيالك راح يـــــمنحــني حــــــــــــــــــياة * * ويــــــحييني على أمل التـــــــــــــــــــلاقي
يــــــــنام اللـــــــــــــــــيل مفتــــرشا فراشي * * فيجمعني به طـــــــــــــــيب الــــــــعناق
بصمة كعبيّة لا يخطئها النظر ولا الذّوق الرّفيع، لحن الغزل الذي يعزفه لسان الشاعر ، هو التّوق الأوّل لامرأة تُذْهِبُ وَحشةَ الجِنان ، فلا معنى للجِنان بغير امرأة تبعث فيها ضجّة الحياة وفتنتها.. !! وعندما يلتاع الشاعر باشتياقه يذكر حبيبته (  ذكرتك يوم آلــــــمني اشتـــــــــــــــياقي )، ولعلّه كان يكابد فيكابر، حتّى بلغ منه الألم مبلغه فطاش عقله وطار صوابه، فجرت مآقيه معبّرة عن الشوق وحرقته (وآه الشوق تعــــــــــــــــرفه الـــــــــــــــــمآقي )..
ما يجذبك في هذه القصيدة ويسحرك هو جمال الصّور وطرافة المعاني التي يغوص بحثا عنها في أعماق النّفس الإنسانيّة ، عبد القادر بوتَدارة لسان شاعر وريشة فنّان تشكيلي، لو قدّر له أن يحوّل قصائده هذه إلى لوحة ( تشكيليّة )، لغارت ( الجوكاندا  ) ولفارقت لوحتها خجلة متوارية..
وانظروا معي لهذه الصورة الفريدة:
خيالك راح يـــــمنحــني حــــــــــــــــــياة * * ويــــــحييني على أمل التـــــــــــــــــــلاقي
يــــــــنام اللـــــــــــــــــيل مفتــــرشا فراشي * * فيجمعني به طـــــــــــــــيب الــــــــعناق
يجعل من خيال الحبيبة قوّة تمنحه دفق الحياة ، وتبقي فيه الأمل الذي يرجو بعده لقاءها ووصلها، ثمّ هو أكثر من ذلك – في تصوير قويّ – يتصبّر بخيالها ويكتفي به إلى حين، فينام معه في الفراش ويعانقه معانقة طيّبة.. هذا خيالها فماذا لو كانت هي .. !؟ ولكنّه في ختام القصيدة تشتدّ به لوعة الفراق فيخاف أن يموت قبل لقائها ويعبّر عن ذلك قائلا:
وما أدري أألــــــــقاكـــــــــــــــــــم غداةً
أو أنّ الـــــــــــــــــروح أسبق للتراقي
وهي رجفة المحبّ تسري في أوصاله إذا طال غياب محبوبه، فيخشى أن يموت ولا يلقاه فيزيد ذلك من ألمه وعذاباته..
وفي قصيدته الجميلة ( سمراء ) يظهر خصائص المدرسة الكعبيّة في شعره إذ يقول:
سمراء من صحرائنا تتأصّل *  * تركت سقيمها بالهوى يتعلل
مرّت أوان الصبح بين مواكبٍ *  * وكأنّ سِفْرا للهداية ينزل
تتلعثم الشفتان في وصفي لها *  * واللّحظ منّي باهت يتأمّل
تبّا لها سحقت فؤادي ويلها *  *  هزّت كياني إننّي أتزلزل
والغيد تسحرني تجنّن خاطري *  *  فأبيت في محرابها أتبتّل
أتلو القصائد كي أحقق توبتي *  * وألحّن الأشواق ثمّ أرتّل
سمراء أحلى الفاتنات حبيبتي *  * شمس الضّحى برق بليل يشعل
في خدّها الورديّ جنّة عاشق *  * حتّى الخمار بوجهها يتجمّل
سمراء يا سمراء سهمك نافذ *  *  والعين تفتك بالقلوب وتقتل
سمراء لا أبغي سواك خليلة *  *  فلئن ظمئت ففيك أنت المنهل
فنلحظ استخدامه لألفاظ محدّدة تمثل الالتزام والدّين والخلق الرّفيع من مثل ( تتأصّل/ سِفْرًا للهداية ينزل/ توبتي/ الخمار بوجهها يتجمّل )، إنّها امرأة جميلة فاتنة ليس بتبرّجها ومَيَسَانها، بل بطهرها والتزامها وخمارها الذي يزيدها جمالا فوق جمال.. ونجد الشاعر يمتح من القاموس الشعريّ للأمير ( محمّد جربوعة ) الذي تأثّر به أبلغ التأثّر ، من مثل قوله ( تجنّن خاطري ) وهي من الصّور الفنيّة الرّائعة التي شاعت في شعر الأمير ، وميّزته عن غيره واقتبسها منه كثير من شعراء المدرسة الكعبيّة واستخدموها بشكل واسع في قصائدهم، فلا يقتصر الأمر على الشاعر عبد القادر بوتَدَارة وحده.. !
وكما هم شعراء المدرسة الكعبيّة جميعُهم ؛ يُولون قضايا الأمّة الإسلاميّة عموما اهتماما كبيرا، ولاسيما قضيّة الأمّة المحوريّة (فلسطين والقدس )، فقد كتب عنها الشّاعر القصيدة التي جعلنا أبياتا منها عتبة ومولجا إلى عالمه الشّعري، والتي بعنوان ( طفل القدس )، يقول في تلك القصيدة، ولا بأس أن نوردها  كلّها، بل ما بقي منها في ذاكرة صاحبها:
نظر الصبيُّ لقدسنا وتبسّما
واستشرف الفرج القريب توسُّما
وهوى يُخطط رسمةً بيمينه
وفؤاده بالقدس كان متيَّما
وأتى يبشّر أمّه .. حتى ترى
ما سطَّرتْ كفُّ البنانِ مُصمَّما
نظرتْ إليه بدهشةٍ وغرابةٍ
والقلب يلهجُ بالدعا مترنِّما
ولدي ... أُؤَمِّلُ أن تُحرِّرَ قدسنا
وتعيد مجد العرب صرحا محكما
شاعر مغزار ومنشد مكثار، تشعر أنّ الشعر قد قرّب له الرّكاب فاعتلى ظهره وطار به مثل الرّيح في الأفق الرّحب، لكنّه وأسفا ليس حريصا على تدوين شعره ولا كتابته ، وكأنّه ينثره في الأرض فيبقى منه ما يبقى ويضيع ما يضيع، وقد تحتفظ ذاكرته بقطوف منه مختارة، لكنّ الباقي يطويه النّسيان، ولقد راودته عن شعره كي ينشره، فأبى وتعذّر بما يُعذَر به الشاعر في ( جنونه ) وغرابة سيرته في كثير من الأحيان[3]. واستمليته بعض قصائده فأملاني منها مجموعة، لو حرص على تدوين أمثالها والعناية بها لحصل له من ذلك أكثر من ديوان ..
وكتب أكثر ما كتب في الغزليّات مثله في ذلك مثل قرينه مصعب بلهادف، والغريب أنّه لا يكاد يضع لقصائده عنوانا أو تسمية بل يكتب القصيدة هكذا مباشرة كما وردت على خاطره ، وقلّما يعطيها عنوانا، ذلك ربّما لأنّه ما زال يرى نفسه لم يصل بعد إلى درجة الإجادة التي يصبو إليها، ولكنّه في حقيقة الأمر شاعر مُجيد..   
ومن قصائد الغزل التي كتبها وفيها رقّة بالغة وعذوبة آسرة قصيدة ( بثينة ) وهي التي يقول فيها:
بثينــــــة
بثينة لو ترى بين الجواري * * كومض البرق يلمع في البراري
فما لوم عليّ إذا عشقت * * خرير الماء تعشقه المجاري
وما ضير عليّ إذا ثملت * * بكأس الخمر من تحت الخمار
إذا غابت عن الأنظار يوما * * وأدمى الوجد من فقد قراري
أقمت اللّيل أدعو الله ربّي * * ليجمعني بها طرفي نهاري
إذا حضر الحمام ولم تزرني * * كتبت أن ادفنوها في جواري
عساه القبر يدنيني إليها * * يزيح الكفن عن صدف المحار
والاسم بطبيعة الحال اسم رمزيّ، وهو تقليديّ إلى حدّ ما ، لكن بعض الصور في القصيدة فيها جدّة، وفيها شيء مختلف عن المعتاد ، ولنتملّى قوله: (بكأس الخمر من تحت الخمار ) و( يزيح الكفن عن صدف المحار ) ، نوع من انبعاث النور من وسط المتناقضات، خمر تحت خمار، وصدف محار من بين الأكفان، شيء لا يتحقق إلا في عالم الشعراء..
والميزة الأخرى كذلك ، بساطة تلك الكلمات التي تَسِمُ معظم شعر الكعبيين، كلمات متاحة لكلّ النّاس لكنّها تركّب في صورة لا تتأتى لأيّما أحد ، صور فنيّة كلوحات في متحف عالمي ثمينة ونادرة ، كلّما قدم عهدها كلما زادت قيمتها..   
ونختم حديثنا المقتضب عن شاعر كعبي يَعِدُ بكثير من الإبداع والفنّ الشعريّ الجميل؛ بقصيدة ( غادية )
غادية.. !
غادية أبصرت غادية تمشي وتختر * *  نار الجمال بها تشتدّ تستعر
وجه كبدر السّما والعين بركة ما * *  بيض عوارضها والثغر منتشر
هيفاء لو خطرت في وقع أرجلها * * النّاي والعود والأنغام والوتر
إنّي أرقت وذاك الحسن أرّقني * *  وجدٌ وهيام يليه الهتم والسّهر
حوراء تحرقني باللحظ لو نظرت * *  تجتثّ قلبي فلا تبقي ولا تذر
شاعر لا يمكنه أن يغمض عينه عن الجمال ولابدّ للشعر أن ينثال، ولكنّه شعر رقيق حَيِي، يكاد يسجد للرحمن في حضرة الجمال والجلال ، لا تمرّ بكلمة فتقول يا ليته ما قالها، ولا بصورة وتتمنّى لو محيت من خاطرك ، إن هو إلّا الفنّ الشعري يخطر في بهاه ، ومدرسة كعبيّة تحتوي الزهر والماء والوجه الحسن فتأتي القصائد منمّقات كأنّها عصفورُ غرِد على فنَن..



[1] - عبد القادر بوتدارة من أدرار طالب بالجامعة الإسلاميّة، شاعر أبى أن يعلن عن نفسه بأكثر من ذلك ، وفضّل أن يُعلن عنه شعرُه.
[2] - شهادة ثالثة لأستاذه بجامعة قسنطينة الشاعر والدّكتور الأستاذ ناصر لوحيشي أحببنا أن نثبتها هنا أيضا: " كلمة عجلى في عبد القادر بوتَدَارَة:
 عرفته طالبا مجيدا مجدا ، في جامعة الأمير عبد القادر ثم علمتُ أنّ له كتابات وإبداعا سويا ... استمعت إليه مرّات ومرات ... وقد أخذتني سُرى حبّه ، أسمعني بعضا من شعره ، فأدركت أنّ له قلما قويّا واعدا ثمّ التقينا مرّة أخرى بعكاظية المغير وأسمعَنا شعرَه وكان متميِّزا ، بخلقه ودماثة طبعه وبَسْمَتِه التي لا تفارقه ، هو قامة شعريّة واعدة فانتظروا معي ...وسنرى ونسمع ..
................   ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ ناصر لوحيشي مقهى الفجر السبت 28 / 11 / 2015 م 

[3] - معظم القصائد التي استشهدت بأبيات منها هنا، أملاها عليّ بالهاتف، ولم يكتبها في صحيفة ولا نشرها في موقع، ويقول أنا ما زلت أعتبر نفسي لست شاعرا، فأي مرتقًى يسعى إلى بلوغه حتّى يعدّ نفسه شاعرا ، إنّها غرابة الشعراء.. !

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق