الصفحات

2015/12/02

قد أنجو.. قصة بقلم: رولا حسينات



قد أنجو
رولا حسينات
ها أنا ذا قد وصلت إلى بر الأمان، لكني ظننت بجرائر الحياة الظنون، وقد فاتني قطار ذبالته  تنازع اللحظات الخيرة، أكاد أجزم أني ميت، فما عدت اسمع قرع الطبول بين تجاويف أركاني المتهاوية، أنفاسي المكتومة، قد تساقطت في لجة اللجوء إلى الفراغ ، ألهث وراء السراب، أمواج بحري تلاطم بألسنة من لهب جميع اسفاري، فتذر أسماكي في قاع الصفصف.
 لكن ليس بعد..فرحتي بالنجاة لم تكتمل بعد، فهزيم الموت مازال يرن في أُذني، وإني أستأذن قرابين انكساراتي، بأن تشهد طي الأرض أصقاعها تحت قدميّ المتهاوية تقاسيمهما، شظايا قد تراكمت وعتمة الطريق، لكني قد نجوت..وكأنما نجوت ببدني لأكون أية لمن يعتبر، وقد قلَّ المبصرون!!!
ذلك قسمي صعلوكا قد نجا من براثن الموت، وأي صعلوك مثل أيامه كأيامي، بهجتي في لذة الحياة وكأس خمرها..جواريها والحرائر..مفاتن الدنيا التي ما تدارست إلا قلائلها، فأنا من خط قابض الأرواح منيته قبل ثواني، فقد انسلت من بين الأكوام المتراصة، لكني حيٌّ أرزق، بشر من لحم ودم وفد اختلطت حمرتي بصفرة ما، بزرقة مخاوفي.
 بل بت أُمنّي النفس أن يلوك جسدي المحطم الحنظل..أيم الله لقد نجوت وإني اليوم امشي في مقطورة لا متناهية الأبعاد، أكاد اختنق من احتباس البول،  كلٌّ قتيل الماء والدم بين أضلاع خثُرت وانعثبت سريالية الحياة فيها..سبايكر ساعة الموت المحقق..
كنت كما كان الكثيرون يافعا قد بدأت ملامح الرجولة، وقسوة التضاريس تبينُ بجلية النهار في تمثالي الحديدي، عنوة تطرق بابي.
 رجلا صغيرا بشاربين، شعرات غزيرات آخذة في خدش حيائي، جبيني تبعثرت فوقه نديمات خجلات، يوجعنني بقرصاتهن..
 كُلُّ ما فيّ يحكي قصة اكتمال القمر في أيامه، كما هي أيامي التسعة عشر ربيعا، لم ادر فيهن قسوة الحياة، بل تلاشت أنظمة قضت على مجمل أيام ذوي القربى، وحفن التراب سوت بهم الأرض، أنظمة توافدت على أرضي كأنما خلُدت وأنزل السيف على البواقي، فلا أهل ولا عشيرة.
 جرمنا في المعاش أننا بشر، نتنفس نفس الهواء ونسبح أسماكا في ذاته النهر، ونستلذ تطارح الحب عند شط العرب، ونحن نتراقص على أهازيج نسيمهما دجلة والفرات.
 أي قسم لنا في الحياة إلا أن يموت أكابرنا، وأن يسوى بالمُللِ والحرث الأرض.
 صدام كان جبارا ولكنه كان جبارا برغبة القتل، لكنها الدواعش  من تستلذ بسيل الدماء، قد أبحرت خيل هولاكو في شوارع بغداد، وهاهم الزنادقة يوغرون عتوا وكفرا في عراقي كله من قاصيه لدانيه.
 يحاربوني في ملتي في ديني في عقيدتي في قدسيّة محرابي وأشياعي ومريدي والحضرة.
 ما بالهم إن كنت شيعيا أو سنيّا آشوريا أم زيديا أم كنت نصرانيا؟؟
 فأنا عراقي ابن الأرض، من رضع من ثديها، من أسبل رأسه يداعب نهدي حبيبته على ضوء القمر، في سامراء والنجف، لي في كل موضع حبيبة وبنت وأخت، ولي في كل بيت أم.
 ولي حق في الحياة، ما أفزعني الموت فقد استمددت قوتي من نهاية قد سنها الله في خلقه، لكنني اليوم وأمثالي في عولمة جديدة، تسطر تاريخا بأجندة القتل والتشريد الطائفية، القتل بكل مراسيم اكتتاب الغضب بلا صكوك للغفران، وأيُّ توبة لأمثالي ممن قد تصنعوا اليد الطولى في الأرض، وما لهم لا يبوئون إلى الله؟؟
 لقد صعقت أحلامي فزعة تهوي في مهاوي القوى، تقسيم البلاد كما اغتراف غرف من نعيم بلا أنصاف للحلول، ولا انتداب ارتزاق ما في كون ما.
 وقد أفضى بعضهم إلى بعض وقد عقدوا الأيمان، أن لا مناص من الإبادة الجماعية، إن لم تك بأيديهم، فبأيادي الهوامش المرتزقة، وقد تنادوا مصبحين، آن انطلقوا إلى حرثكم فكهين، قوتهم مذابح بشرية استلذوا منها بشرب الدماء..
إلا أنه قد قدر لي، تُحَصِنُني السبع المثاني من الولوج إلى بوابة الموت، إلى الجحيم وقد اشتد سعيره..
"حسين، حسين" نداءات أمي وهي ترتشف الحمرة خجلة، يتربع على صفحة وجهها الصبوح قرص الشمس، مضيئا آناء الليل وأطراف النهار.
 هي من تريد أن تهديّني سبل حياتي، كم تمنت أن تعيش مآسيَّ بدلا مني! واني لأقسو عليها وأنا الشقي المجافي، لكني أواري ضعفي، أتستر وراء قدسية الشاربين وصدري المنتفخ، منعتي هي من تزودني برصد القوة، وكأنني اكفر عن سيئاتي بسيئات ثملات في خمرة الوجل..أقوم على صوتها المتستر بالبرقع: "قوم وليدي اتقوى".
 وهل لي غير صدرها أفزع إليه من مخاوفي..؟؟
وجاء يوم وتبعثر الصبح وغابت الحمرة، وحلت الصفرة على وجه أم الحسين لقد تخلى عنها الحبيب آثر فرش التراب غنيا عن ملذات الحياة، وهي الرغداء في حياته، همساتها الخجلة يتلصص عليها من شرفته القمر، لكنّ حارسها دمعها المسكوب، رقراقها حارقا ظلال الطرقات آهاتها المكتومة، أنفاسها المتعبدة بمحراب الصمت، ومضت تلف جسدها بعباءة الليل طوافة الليل بالنهار.
 ما تشرق لها شمس ولا يظهر في ليلها القمر..لكنّه انكسارها من ضرجني، في قالب طلب العيش..وأنا ابن الديوانية وتكريت والبصرة...
 أي قرين أقبح من الفرار من الموت إليه؟؟
 جميع مقاسات التعذيب توافرت بها الأسواق، و الأزقة وفي المحاريب، ما عادت تؤوي الكنيسة وقد هوت قباب المساجد.
 تلوت أحشائي وأنا أجر قدماي بطائل، بل بلا لعنة قد طمست معالم سعادتي..
 وهاأنا اليوم عسكري، احمل بضع شرائط، اربض كما الحصيني، أتلبد هنا وهناك..
 أهو نسيجُ الخرافة الذي حاكته عنكبوت المستقبل لتقضم آخر أمل لي في أن أتمتع بشبابي؟؟!
 لكنني اليوم أسير معسكرات، على أرضي وليست لي حتى في مسماها، الذي ما كان يحمل أيا من مكنونات أرضي بحري والجبل السهوب والربا، الفيافي فيها و العثباء، الأغوار منها والأهواز.
 وما نعمت بدجلة ولا الفرات، لكني رابض فوقها جاثم على أنفاس التململ والتمدد على أرضي وأمنها..
 وإني الجندي على كتفي بندقية وفي قلبي عراقي، يفترض بي أن أدافع عنها، حق أمي عليّ لكنها إرادتي، فليُروني ما عندهم، أي صنديد شريف ليقاتلني وجها لوجه في معركة متكافئة.
 لكنهم الدواعش غلاظ القلوب مصاصي الدماء مرتزقة العالم بل حثالته وأي من الصفات بل وأزيد هي سميهم، مأجورين مأزومين، يريدون توطيد الفزع الأكبر لترجف من بعد الراجفة لتذهل كل مرضعة عما أرضعت، ولتضع الحبالى حملهن، لتفرغ الجرداء من أعقاب الحياة.
 وإن شكري لله لقدرة فيّ على الوقوف أمام المد الإغريقي الحديث، بأي مسمى هو وإن كانت ثقافتي مقرونة بتاريخ تليد، وإن طمسوه فنصر حي وآشور حي وبابل الغناء حية وسامراء والرمادي وبغداد.
وأنا نرجسي فمنها جبلت أقواما أولي بأس شديد، ابن هذه الأرض التي تكالبت عليها الأمم، فقد فرطت راحتي وما نشبت أظافري بتلابيبها ولا بحفافيها، أنا قرص القمر في الليل، وأنا وجه الشمس في النهار.
 في عملي همي لقمة العيش الكريم، لأمي الرءوم، المتلفحة بالسواد القابعة في بئر الذكريات، ما يواسيني:" يا حسين يا حسين." من فمها، لقيمات أتزودها عند كل طلعة شمس، وما جعلتني أصعر خدي للناس، التقم الحسرة وجعي فيه الغلبة عليّ.
 ومضت أيام وأنا ارقب المارقين، وقد أسبغ التقتيل علينا برأفته، وأبناء جلدتي يقتلون، افجعوني بفجع فيهم ويفجعوني بغيرهم أشقاء وانسباء وأحباء.
 وكلنا إن شئنا تمسكنا بالعروة الوثقى، وإلى أي مرجع تراهم يرجعون..؟ ولكنه المتاع القليل وبشرانا العذاب من حيث لا نعلم يصب علينا من حممه..
 وها نحن تحت رحمتهم، بت لا أدري كيف؟؟؟
 وأنا الحارس.. متى؟؟ وما دريت أي منها كانت ساعة الصفر، لقد نفد كل مبتغى لي في اللقم، وان كانت رغبتي في الحياة اشد فتكا.
 رأيتهم تسترهم أشياع لحاهم وآخرون سواد يبين أعينهم دون سواها، مدججين بالسلاح والعتاد، ولكننا جميعا تبينا قاتلنا، من سخي بدمائنا، ونحن ما خشينا يوما موتنا لكن بحضرته قابض الأرواح وليس بأيادي خونة!!
ما نجزى فيه عن آخرين شيئا وقد غرتنا الحياة الدنيا، ولكن آي ساعة تتدلى فيها قناديل الرحمة أم تراها في نزرها الأخير...؟؟؟
 وسقطت قاعدتنا بين أيديهم دواعش، وما عرفت أي منهم الزعيم فلم يظهر وإن قيل الشيخ والحجي، وإن اختلفت المدائن والقلاع فنحن بين أيديهم أسرى يرجعوننا إلى سواء الجحيم، أوثقوني وآخرين بعد أن سلبونا غدرا أسلحتنا، كنا كثيرين قد تجاوزنا الألف بما يزيد عن سبعمائة، قُسمنا إلى مجموعات ينهال علينا كلاب بطرائق تعذيبة من إبداعاتهم ونفسياتهم الموبوءة، رصوا الكتف بالكتف واحكموا الوثاق كادت أضلعي أن تخلع من أماكنها، لصيق الجلد بالعظم وعلى العينين كمامة اسروا فيها النور، ما كانت إلا أذناي كرادارات لأوامرهم بالقتل... أدركت منهم مرتزقة العالم بألسن ولكنات.
 افترشنا الأرض نلثم جبينها تلسعنا بحرقة قبلاتها في أجسادنا، ما نطيق إلا نجدة المحتضر لقابض الروح..
 وأين له شعاع الرحمة؟؟
 أخذت اسمع نزف الرصاص وهزيم رعده، وتراشقت على جنباتي سائل لزج شممته بت أدرك أنه أنيسي انثعب من الصدور ليلمنا في سفينة نوح إلى الجنان..
 آهاتنا المكتومة ما نطقت بشهادة الخنوع، ولو أنا أزلفت رؤوسنا لركوع ظنوه لآلهة شرورهم النجسة لكنها للعلي الجبار.
  وما سالت رحمة المسيح في وضح النهار وقد أكلت من رؤوسنا الطير.. وتلقفنا الموت صرعى نوفد إلى بوابته المشرعة أبوابها..
 وأنا في سكرتي ابتهل منتشيا الروح، واغمدوا رصاصتهم في جسدي وشممت ريح الجنة، لأول مرة اشتمها الفردوس نزل المخلدين، بقوة لاذعة وحرارة أوغلت في جسدي.. أغمضت عينيّ وأدليت السلام لأحبتي لأمي لزوج أحلامي.. لطفلين طالما حلمت بهما..
وإن طوحت برأسي في الهواء، وإن فغرت فاهي وأطلقت العنان لسهام تبلسم جسدي بطهور المسك والعنبر، كنت قد تيقنت الموت.
  مرت ثوان وإنا ممدد بين جثث أحبتي وصحبتي وتمددت قتيلا، تنسل من صدره الدماء على استحياء،  لكني ما زلت اشعر بحركة شعيرات انفي تتطاير مازلت أتنفس، انبض مشاعر القدسية، فتحت إحدى عيني وهم يقلبون الموتى، أيقنت أن أحدهم تصعر جفني المرتفع..
 تنادوا :لم يمت بعد..
 استعد أحدهم للتصويب، إلا أن الآخر بضحكاته الجنونية، قال: دعونا نراه يتراقص بردائه الأحمر عاجلا أم آجلا سيموت..
 وبدؤوا يكدسون الجثث فوقنا، وأنا أرنو إلى السماء أن تدلج بليلها.. بسره الدفين.. لالتمس رحمة قد صمت أذنيها عن ظلم البشر.. القتل والتدمير..
 أليست بساترة الموبقات؟؟ فكيف لا تستره وهو المعيل لأم وهو اليتيم؟؟!
  وهاهو الشفق الأحمر يميط  حياء الشمس وحمرتها بعباءته، وأنا ارقبها أتعجلها الولوج لمخدعها، مسدلة غدائرها وأنا أتقلب الموتى وهم يكدسون الجثث..
 إن سكنت في موضعي فأنا الدفين الحي، وأنا ألهث وراء أنفاس الحياة.. سأعيش بدأت أتمتم ونزفي يغسل المتكدسين، وسقطت في الوادي تشرئب حبات التراب من دمائي..
 بدأت أركض ألهث.. أطلقت ساقي للريح وأنا النازف، أباغت الحياة والموت محيط بي من كل موضع.. وأرض الله واسعة وإني العابد المارق في ارتالها..
 وكأين من دابة ارزق وإياها مباعث الحياة..؟ الهث الهث تنفست البحر انه دجلة ماءه الذي اغتسل به ليحرق الرصاصة في جسدي، وأنا الصريع ما نطقت يداي من وثاقهما كلمات ولا همهمات.. بل انثعبت من معصمي الدماء، لكني سأنجو وليحكي التاريخ قصتي وروايتي خرجت من الماء مكبلا بالماء مغتسلا من الدماء لكني ساع لأفك وثاقي الى بيوتهم المتنقلة ولجت كانوا منهمكين بالقتل في سكرتهم يعمهون أدليت بوثاقي للمراوح فيها لكني فشلت لانزف لاتداوى وجرحي رقصة الموت لكني أريد أن  أتنفس الحرية.. أن اخط بيدي كلمات الحب لممعشوقتي أيا كانت..
 أريد أن انظم قصائد الحب والعشق أن أتيه في تيهه، وان لا يوقظني أحد واني قد رددت إلى الحياة.
 لكن أنفاسي اشتمها احدهم، عسكري منهم وقد انشقت الأرض عنه..
  أشهر سلاحه.. قلت: فك قيدي..
 راعه منظري ظنني جنيا جئت اقبض روحه، فولى مهرولا  كمن مسه الجن ومضيت أتلفظ بالحمد بعيدا عن الأضواء إلى حيث لا يجدني موتهم صرت، أصفر في نفسي وارتع أتنفس الحياة على الرغم وثاقي أنا حي ما زلت شاهدا على جريمتكم يا قتلة... 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق