الصفحات

2015/12/12

وقفة مع كتاب:«ملاذات الشطح» للأديب عبد الـحميد شكيل بقلم: د.محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـــــة



 وقفة مع كتاب:«ملاذات الشطح» للأديب عبد الـحميد شكيل
بقلم: د.محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـــــة
-جامعة عنابة-الجزائر
         ينتمي الشطح في مفهومه العام إلى حقل المصطلحات الصوفية،وتتحدد قيمته عند الصوفية بموقع وجوده في منظومة علاقته بالسكر،حيث يتلاحم السكر في كثير من الأحيان بالشطح،ويرتبط في سياق دلالاته بالسكر،وهذا ما أكده الكثير من الدارسين للرمز الشعري عند الصوفية،وفي طليعتهم الدكتور عاطف جودة نصر الذي يرى أن الشطح له علاقة وطيدة بالسكر،وهو كما حددوه«عبارة مستغربة في وصف وجد فاض بقوته وهاج بشدة غليانه وغلبته،والشطح لفظة مأخوذة من الحركة،لأنها حركة أسرار الواجدين إذا قوي وجدهم فعبروا عن وجدهم ذلك بعبارة يستغرب سامعها.
      ووجه الغرابة في الشطح الناجم عن السكر،أن ظاهره مستشنع وباطنه صحيح مستقيم،وهو الوسيلة التي يصرف بها من أسكره الوجد...،والسكر المولد للشطح ينشأ عن مشاهدة الجمال المطلق ومطالعة تجلياته في الأعيان،وهو يبدو مصحوباً بالدهش والغبطة والهيمان والوله وكلها ظواهر يطيش معها العقل،وينطمس نوره بقوة الوارد المسكر والحال المغيب وفي هذا الوجد الإلهي،يصاب الباطن بنشاط هائل وفرح زائد،يخرج الصوفي عن طوره،مما يطلق له العنان،فيعبر عما يجد بلغة مشكلة وألفاظ مستغربة هي مما اصطلح عليه الصوفية بالشطح المعدود عندهم نزولاً وتقصيراً عن درجة الكمال الروحي.
      وقد حلل بعض الدارسين هذه الظواهر الوجدانية وردها إلى شعور الصوفي بأن ثمة نار عطش تشتعل في جوفه،عطش إلى الفناء في حضن الألوهية، فيبدأ هذا الوجد بالتحرق عطشاً...»)1(.
      أما الملاذ فينصرف في مفهومه اللغوي،وفي سياق دلالة عنوان كتاب الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل إلى الملجأ أو الحصن،حيث نلفي في«المعجم الوسيط» أن لاذ بالشيء-لوْذاً ولياذاً:لجأ إليه واستتر به وتحصن.ويقال:لجأ إليه،واستغاث به وامتنع-و الطريق بالدار:أحاط بها واتصل. وألاذ بالشيء:امتنع. واللوذ:جانب الجبل. يقال: اعتصم بلوذ الجبل وبألواذه، وبمنعطف الوادي. والملاذ:الملجأ والحصن.
     كما نجد هذه الدلالات نفسها في أغلب المعاجم العربية حيث يتم الإجماع على أن الملاذ يرتبط  معناه اللغوي بالتستر و التحصن والاعتصام.
          مؤلف كتاب «ملاذات الشطح -اجتراحات-» هو الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل، الذي ينتمي   إلى ذلك الجيل الذي برز في مرحلة السبعينيات،وهو  من مواليد سنة:1950م بالقل (سكيكدة)، بدأ تعليمه بعد الاستقلال في الكتاب، ثم انتقل إلى مدينة قسنطينة فتعلم أولا في المدارس الليلية قبل أن يدخل مدرسة الكتانية وذلك في العام الدراسي (1965- 1966)، وبعد أن تحصل على الشهادة الابتدائية التحق بالمعهد الإسلامي وبقي فيه خمس سنوات إلى أن تخرج منه فتحصل على الشهادة الأهلية وذلك عام:  1970 م،   وانتقل في   السنة نفسها إلى مدينة عنابة حيث انتسب إلى المعهد التكنولوجي للتربية، والتحق بعد ذلك   بسلك التربية والتعليم بمدرسة هيبون للبنات. انتدب في بداية التسعينيات للعمل في مديرية التربية لولاية عنابة مكلفا بالصحافة والإعلام)2(.
         أثرى الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل المكتبة بمؤلفات عديدة، و من أهم إصداراته الأدبية: «قصائد متفاوتة الخطورة»، «تحولات فاجعة الماء »،« مراتب العشق، مقام سيوان »،« مرايا الماء، مقام بونة»،«يقين المتاهة»،«غوايات الجمر والياقوت»،«صهيل البرتقال»،«الحالات في عشق بونة»،«فجوات الماء»،«مراثي الماء»،«سنابل الرمل سنابل الحب»،«الركض باتجاه البحر»،«كتاب الطير»،«شوق الينابيع إلى إناثها»،«كتاب بونة»،«كتاب الأسماء كتاب الإشارات»، «نون الغوايات».  
      وقد حظيت أعماله الأدبية بالعديد من الدراسات الجامعية ،وهو صاحب تجربة مع الكتابة الإبداعية والأدبية تنيف عن خمس وأربعين سنة،فقد ذكر في حوار له مع الناقد الدكتور عبد الرحمن تبرماسين نُشر بمجلة«عمّان»الأردنية أن أول لقاء له مع الكتابة كان سنة:1967م،حيث يقول في هذا الصدد :«أول لقاء لي بالقصيدة كان عام:1967م إثر النكسة التي هزت الوجدان العربي من الماء إلى الماء...تلك النكسة الكريهة حركت في كياني مشاعر غريبة،وجعلتني أعيش حالة من التيه،والتوتر،والهيمان،من هنا كان لقائي بالقصيدة في شكلها البسيط،أعني إفراغ هموم الذات وأوجاعها في قالب شعري،بسيط ساذج وعفوي لا يرقى إلى عتبات القصيدة الإبداعية المتكاملة،من هنا أقول:إن القصيدة كان لقائي بها محتدماً،ضاغطاً،فجّر الكثير من الجيوب التي كان تحت قشرتها يمور الكثير من الماء،والصراخ الإبداعي الذي ما زالت نسوغه تتجلى وتلمع كاشطة الكثير من الغبار،والنقع الذي ران على الأمكنة والقلوب التي أوجعتها تلك الضربات القاسية،التي أتت على ضفاف الجسد العربي الواهن،إن الحالة الرمادية الناتجة عن تلك الهزيمة لا تزال توشح نصوصي إلى الآن...» )3(. 
       كما يؤكد الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل في نفس الحوار مع الناقد الدكتور عبد الرحمن تبرماسين أن تجربته الإبداعية جاءت نتيجة للاجتهاد والحفر الثقافي والمعرفي،حيث يقول عن هذا الأمر«التجربة الإبداعية عندي جاءت جراء الحفر الثقافي والمعرفي الجاد والقاسي،عشت الكثير من الصعوبات،كان ذلك أثناء الثورة التحريرية الكبرى(1954-1962م)في جبال أولاد عطية وشعابها وبراريها،ومسالكها الصعبة والقاسية،حيث كانت أسرتي مطلوبة ومطاردة من قبل السلطات الاستدمارية الفرنسية،كان لزاماً علينا أن نظل في هروب دائم، ولك أن تتخيل الآلام والجراح التي تصاب بها النفس وهي مهددة في كيانها وكينونتها...كانت التجربة مدمية وقاسية وضاغطة فقدت خلالها أخي الذي يليني،عشنا التشرد والفقر والمطاردة،من هنا جاءت التجربة تطفح بالجراح والآلام والكثير من المفردات التي تحيل على الحرمان وقسوة الحياة وشظف اليومي،وقهره الناشب...ما عمق التجربة الإبداعية أيضاً هو الرغبة الواضحة والجادة في التحصيل والمعرفة،كنا بعد الاستقلال جيلاً متعطشاً للعلم والمعرفة،بل إن تحرير النفس من الجهل والأمية كان مرادفاً لتحرير البلاد من الاستدمار الغاشم...من هنا كان الذهاب نحو تعميق التجربة وتقويتها وشحذ كل خصيصة تجعل القصيدة قادرة على الخروج من متاهتها،وهي قوية ونابضة تشي بالإبداعية والثقافية والأدبية،وكل ما يحيل إلى التجاوز والتخطي المبدع...أستطيع القول إن العصامية والتعويل على الذات كان العامل الأول والأساس في تعميق خطية الإبداع،وما تزال هذه المقومات والعلامات تؤشر الدرب...» )4(.  
       وقد احتفت مؤخراً مجلة«الثقافة»الجزائرية في عددها:25بتجربة الأستاذ عبد الحميد شكيل الأدبية،وقد ذكر رئيس تحريرها الروائي الدكتور إبراهيم سعدي في افتتاحية العدد المذكور أن تخصيص ملف عن الأديب الأستاذ عبد الحميد شكيل جاء تقديراً لموهبته الإبداعية وجديته و مواظبته وروحه الإنسانية العالية، حيث قدمت عدة شهادات عنه، من بينها شهادة الأستاذ الأديب إدريس بوديبة الذي يصفه بالعصفور المغرد الذي يشبه في حنينه الدائم لهندسة الأمكنة وإيقاعاتها الخفية طيور اللقلق المتوحدة في عزلتها و انفرادها، والتي مهما طوتها المسافات الطويلة، أو أغرقتها في سديمها اللازردي فإن الحنين هو وجهتها وقدرها لأن تحط من جديد بذات العش )5(.

        وتؤكد الباحثة العراقية جمانة محمد نايف الدليمي على أن الكاتب عبد الحميد شكيل صوت جزائري عبر بصدق عن الإنسان العربي الجزائري الأصيل الذي خاض تجربة شعبه المريرة، وعبر عنها بشعره وبكل ما يمتلكه من قوة تعبير دعمتها قوة إرادة وإيمان بقضية شعب ووطن.

      كما أشارت الدكتورة جمانة الدليمي إلى أن كتابات الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل   عكست وبشكل جدي كل الآلام والأحزان التي كابدها الشعب الجزائري. وهو أحد مواطني البلد الجريح بلد المليون ونصف المليون شهيد. وحين تحدث عن كتاباته قال: "الذي يدفعني إلى الكتابة هو الذي يدفعني إلى الحياة.. الكتابة هي محاولة جمالية لتسويغ الحياة.. والذهاب بعيدا. وعميقا من أجل تحقيق المعنى، وتحفيز الدال الابستمولوجي وتوصيف اللحظة الأكثر إشراقا في تحولات الإنسان، وحيواته الضاجة بالكثير من الأخيلة، والمعاني والأشياء التي تعطل جاهزية التواصل... الكتابة هي كشط معرفي للعفونة، والدناءة، والقهر، واقتراب مجيد من روح الإنسان وأحلامه. وأمانيه، وسعيه الحثيث للعيش بعيدا عن طقس العتمة... وضبابية الرؤية، الكتابة بهذا المعنى تكون هي الحياة في تجلياتها العرفانية، وتحولاتها العقلانية، وبروقها الحداثية، التي تطرح الكثير من الأسئلة الحارقة، والجارحة، في سياق المعنى العام، الذي يعزز   الحياة ويعطيها سمة التواصل، والتناغم والتواشج، والمتعة الباذخة، تحقيقا لحق العيش... والتمتع بمباهج الحياة وهنائها".
         ثم ينتقل إلى وصف الكتابة في موضع آخر يقول فيه: ( الكتابة محبة وعشق وفناء، أن تكتب يعني أن تمارس النزيف والقهر والبكاء الجميل، الكتابة إخلاص للذات والمعنى والموضوع والتحولات النوستالجية التي تعطينا دفق الحياة وإشعاعها كيما نذهب صوب نقطة الضوء التي تلوح في آخر النفق، إنما أكتب لأجمل قبح الواقع وأرمم ما انكسر من مرايا الذات وهي تخرج من أوجار البؤس والعدمية والمحو لتؤسس ذاتها ومقولها وهاجسها الذي يرسم الدرب ويقضي بنا إلى مسارب هي البهجة والمعنى الذي يحفزنا كيما ننشد أغانينا في اتساع المكان وخرائبه القاتمة، الاستمرار في الكتابة نزف وخرق واحتراق ومراودة شجية وقاسية للمعطى الذاتي والموضوعي وهو يعلو ويشخب ويرن في فضاء النفس ومجاهلها وهي تتجلى في غير ما نحب ونرغب مخلفة اوشالنا على شرفات تطل على بحر الذات الصاخب وهو يمور بالأوجاع والأحزان والمرايا التي تلوح في أفق غائم.
     وتعلق الدكتورة الدليمي على تفسير الأستاذ شكيل للكتابة بأنه يتضح في اختيار الشاعر للكلمات التي تعبر عن وجهة نظره في ضرورة الكتابة كنوع من تجليات الروح واستخراج المكنون في النفوس أنها يسودها الحزن ومغلفة بجدار من التشاؤم. وتوحي للقارئ أو السامع بأن هناك محاولة عقيمة للثورة على هذا الواقع المعتم إلى واقع أكثر إشراقا وتفاؤلا وآملا في غد بهيج.

           في كتاب «ملاذات الشطح» نلفي جملة من الرؤى التي تتصل بقضايا الكتابة والنص الأدبي،حيث يحلل الأستاذ عبد الحميد شكيل الكثير من القضايا المتعلقة بعوالم الكتابة الأدبية انطلاقاً من قناعاته الشخصية ورؤاه الأدبية التي ساهمت في تكوينها قراءاته ومطالعاته المتنوعة المصادر وتجاربه العميقة، ومن خلال الكتاب تبرز هواجس الأستاذ عبد الحميد شكيل، وتتضح رؤاه لمختلف التحولات التي عرفها المشهد الأدبي والثقافي الجزائري،فيقدم صورة عن بعض الظواهر السلبية والمؤلمة التي عرفتها الساحة الأدبية والثقافية الجزائرية...

      المقال الأول المعنون ب«منطق العدم» هو بمثابة بيان الأستاذ عبد الحميد شكيل إلى القارئ،حيث تتزاحم فيه جملة من العناصر التي تتعلق بالكتابة،وقد افتتحه بالتساؤل«هل ثمة ما يحفزنا كيما نغني في دكنة هذه الأزمنة الملثاتة،  والطاعنة في قسوتها...؟ ولماذا تطلق الكتابة راجماتها بهذه القسوة والنرجسية المقيتة؟ »

       وبعد سلسلة من الأسئلة يعبر الأستاذ عبد الحميد شكيل عن رؤيته للكتابة،حيث يعتبرها فتحاً للمضائق الصعبة وهي بهجة الروح وسلوى الخاطر وعفو الأنا المطمئنة،وهي تدرج نحو يقطين الماء علها تلد المرايا،ويخرج الفينيق من رماده التاريخي مسربلاً بالمحبة والخير والطمأنينة.

      ويجدد الأستاذ عبد الحميد شكيل تساؤلاته«لماذا نذهب في الحقد والكراهية وتحقير الذات وشحن الخسارات وقذف الناس بما ليس فيهم؟لماذا لا نرفع أصواتنا بالغناء والفرح،بدل هذا النواح الأصفر،الذي يبهت المشهد الثقافي ويضعف فعاليته؟...لماذا يزداد الكتبة ضراوة؟لماذا يسخرون أقلامهم لتفريخ:الضغينة والبؤس و العدمية وهم-يقيناً-يعلمون أن الحق له اسم واحد وأن المحبة لا تتجزأ؟...لماذا لا يؤسسون لثقافة التسامح والمحبة والود،بل والمستقبل؟لماذا أنفسهم الحاقدة تصغر إلى هذه الدرجة وتذهب في أنانيتها الحاقدة؟...إن ثقافة القذف والشتيمة والأنانية والغرور لا تؤسس إلا للفراغ والبؤس والمرضية...لماذا هذا النقع الذي لا فوارس تحته؟..إنه دليل إفلاس وعلامة دالة على الخواء والمرض والسوداوية التي لا تؤشر لمستقبل الكتابة،التي هي تجميل لقبح الحياة وفظاعتها،لماذا لا نبدع في ظل شجرة المحبة التي تظل الجميع؟...لماذا نفتعل المعارك الوهمية؟لماذا لا نخرج من ثقافة العدم؟» )6(.

         وبعد هذه التساؤلات يؤكد الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل على أن الكاتب الحق هو الذي ينتصر على أناه ويتعالى على الصغائر والضغائن ليكتب نص المستقبل،نص الحياة،فالكتابة تظل امتحان الذات وقهر بؤسها.

      كما ينزع الأستاذ شكيل نحو إشاعة ثقافة المحبة والتسامح والرؤى الحضارية، ويعبر عن هذا التوجه بالإشارة إلى أن الكتابة في تجليها المبدع هي تأسيس بالمحبة للمحبة،وهي التي تمكننا من الانتصار على هزائمنا الفردية والجماعية،وقد ختم مقاله هذا بالقول«لنرفع مجد المحبة والود والصدق،عوض هذا النواح والعويل والجنائزية والفردية التي لا تحيل إلا إلى طريق مسدود لا فكاك منه...ومن ثمة أسأل هل ثمة ما يحفزنا كيما نغني في عتمة هذه الأوقات الكالحة؟...لكننا رغم القهر والبؤس والجنائزية سنستمر في الحياة،وسيغني السنونو في مطالع الأيام القادمة،وستكون وجهتنا الفضاءات المسكونة بالمحبة والصفو والنشيد الجميل...» )7(.

       في مقال آخر وسمه ب«مباهج النص»قدم الأستاذ عبد الحميد شكيل تصوره لعوالم النص الأدبي،ووصف النص في مستهل هذا المقال بأنه«بنية لغوية متوترة ومتواترة،ذات تناغم موصوف ودال في سياق تتابعها الإبداعي وانزياحها الإيقاعي المنفلت،يسعى إلى تأسيس وعرفنة ذاكرته اللغوية الإبداعية،بعيداً عن فضائية الأنا،وهوسها الساذج».
       إن من يقرأ الفقرة الأولى من هذا المقال يتذكر المنظور البنيوي للنص الأدبي،الذي طالما ألح رواده على أن النص الأدبي هو بنية وشبكة من العلاقات المتلاحمة،وكما هو معروف فالبنيوية تسعى إلى«اكتشاف البنية في النص الأدبي،وتقف عند حدود اكتشاف نظام النص،وحين يتم التعرف على بنية النص أو نظامه لا يهتم التحليل البنيوي بدلالتها أو معناها أو ما الذي فرضها،أو عن العوامل المؤثرة في تشكيلها،أو لماذا جاءت على هذه الشاكلة،أو عن علاقتها بغيرها من بنية روايات أخرى سواء كانت لذات الكاتب أو لغيره من الروائيين،لأن البنيويين يعتبرون هذه الأسئلة إشكالية،ربما لأنها تطمح إلى التعليل،لهذا يرى بارت وتودوروف-وهما من أبرز رواد النقد البنيوي-أن هذا التعرف على بنية النص مقصود لذاته،لأن عقلانية النظام الذي يتحكم في عناصر النص مجتمعة،غدت بديلاً عن عقلانية الشرح والتفسير» )8(.
       ويذهب الأستاذ عبد الحميد شكيل من خلال هذا المقال إلى أن مباهج النص تأتي من انفتاحه وتفتحه،وتشبعه برؤى حدسية ومستقبلية،ويصف النص الجديد بأنه دعوة مسؤولة وهادفة لبلورة رؤية استشرافية وحالمة تسعى إلى تأسيس الجدل المعرفي والنظر الفلسفي بغية بناء نص مستقبلي، يظل حلما بالنسبة إلى المبدعين الحقيقيين.
    في مقال معنون ب«الكتابة الصلعاء»يدافع الأستاذ عبد الحميد شكيل عن مرحلة السبعينيات،ويؤكد على أن الساحة الثقافية الجزائرية كانت ذات ملمح ثقافي وأدبي أقل ما يجب أن يقال عنه:إنه جيد،فقد كانت الحركة الأدبية نشطة وتسير بوتيرة عالية،وما ساعدها هو ذلك المنحى الوطني العام الذي كان يرى في الثقافة ومنتجيها وجهاً جديداً ومشرقاً للجزائر المستقلة،التي عانت الكثير والكثير من ويلات الاستدمار الفرنسي الذي لا يمكن وصف وحشيته وهمجيته،و عدم إنسانيته،وهذا ما دفع أحد المفكرين الفرنسيين الأحرار إلى القول«إذا كان الله قد خلق استعماراً أبشع من الاستعمار الفرنسي فإنه لم يخبرني به».
          فقد عمل الاستدمار الفرنسي على تخريب الهوية والشخصية الجزائرية،وإزالة كل مقوماتها،وهذا  ما حتم على الحركة الثقافية في مرحلة السبعينيات أن تعمل بجدية لردم الهوة العميقة والواسعة التي حفرها المسار التاريخي الطويل للقهر والهيمنة الأدبية والثقافية،ويؤكد الأستاذ شكيل على أن الحركة الأدبية والثقافية في مرحلة السبعينيات كانت تعمل ليل نهار بغرض اللحاق السريع والفاعل بالتوجه الثقافي العام في عموم البلاد،وينبه إلى أن تجربة مرحلة السبعينيات التي يصفها بالتجربة الرائدة قد تعرضت إلى الكثير من التعريض  القاسي والمتجني،ووفق رؤية الأستاذ عبد الحميد شكيل أن ذلك التعريض هو تعريض حاقد،وقد عبر عن  هذه النظرة السلبية لتلك التجربة بقوله«...وإن كانت هذه التجربة الرائدة قد عرفت في السنوات الأخيرة تعريضاً قاسياً ومتجنياً وحاقداً،من قبل بعض الأشخاص المحسوبين على الثقافة الوطنية،والذين ساءهم ذلك الزخم والدفق الثقافي والأدبي الجديد،والمغاير في سماته ومواصفاته ومدلولاته التي واكبت التحولات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية للجزائر الجديدة والناهضة،هم الذين يعملون بكل قوة لأجل إضعاف التحول الجديد، وإرباكه وإبقاء الجزائر في مراتب الدول المتخلفة والمستكينة لقدرها، لأنهم يعرفون طبيعة الجزائريين وقوتهم متى توفرت لهم الظروف الجيدة،ومن ثمة لاحظنا تلك الكتابات المغرضة التي تقطر سماً زعافاً وسواداً أسحم،والتي تناولت أدب هذه المرحلة واصفة إياه بأوصاف ونعوت تنقصها الدقة وتعوزها المنهجية والموضوعية والعلمية،لأن تلك الأحكام كانت تصدر من وجهات نظر أيديولوجية وتاريخية حاقدة...» )9(.
          ويلفت الأستاذ عبد الحميد شكيل الانتباه إلى أن مواكبة الحركة الأدبية في السبعينيات لنهضة المجتمع الجزائري ما زالت تحتاج إلى دراسة موضوعية جادة وعارفة تبتعد عن الحساسيات المغرضة،وتتسم بالإنصاف،ومن بين الأمثلة التي يستدل بها على إيجابية تلك المرحلة أن أهم الأسماء الثقافية والأدبية الكبيرة برزت في تلك المرحلة.
       تحت عنوان«مدارات»ناقش الأستاذ عبد الحميد شكيل بعض الإشكاليات التي تتصل بنضال المثقف وجهوده ومآسيه في المجتمعات المتخلفة،والجدير بالذكر في هذا الصدد أن مفهوم  المثقف يكتسي دلالات متنوعة،     فمصطلح المثقف له حمولة ثرية ،وبالإمكان تقديم مفاهيم جمة، تندرج تحت إطاره،فبمفهومه الواسع:هو الشخص المستوعب، والمدرك لثقافة مجتمعه، وله مقدرة على تحليلها، وتفكيك بُناها، وله قدرة على تعميق إيجابياتها، وهو أكثر الناس صلة بالمعرفة، وإذا أردنا تقديم مفهوم محدد: فهو ذلك الشخص المشتغل بالثقافة،على أساس أنها نشاط من النشاطات الإبداعية والفنية، كما أنه يمارس أعمالاً ذهنية تلعب دوراً في ترسيخ الوقائع القائمة.
       وعندما نتبصر في بعض المفاهيم التي وضعها طائفة من المفكرين والمنظرين ،فإننا نخرج برؤى متباينة، فالمثقف كما رآه إدوارد سعيد:« هو ذلك الشخص الموهوب، والذي يملك المقدرة الشخصية على تمثيل، وتجسيد هموم شعبه، وتوصيل رسالته، ورؤيته، وموقفه، وأفكاره، وآرائه للناس، ومن أجل الناس، مع ما يصاحب هذا الدور من محاذير».
      وفي نظر أنطونيو غرامشي:«كل الناس مثقفون،لكن ليس لهم كلهم مقدرة على تأدية وظيفة المثقفين في المجتمع»،وقد انصرف غرامشي إلى مفهوم المثقف العضوي الذي يؤدي وظيفة محددة في المجتمع،كما أنه منخرط في خدمة مصالح طبقية اجتماعية،أو ثقافية،أو اقتصادية، وغيرها من شتى المجالات.
    وأما جوليان بيندا فقد تمثل أهل الثقافة على أنهم«عصبة صغيرة من الملوك الفلاسفة الذين يتحلون بموهبة استثنائية، وبحسٍ أخلاقي فذ، ويشكلون ضمير البشرية،فهم من أمثال: يسوع المسيح، وسقراط، وسبينوزا، وفولتير، ونيتشه، وارنست رينان، كما أنهم يُعرِضون أنفسهم لمخاطر النبذ، والملاحقة، والمحاكمة، وكما رأى فهم قليلون جداً».
     ويذهب جان بول سارتر إلى أن المثقف«ذلك الكائن الشاهد على عصره، والمتمثل لضمير الجماعة، وهو الذي يتدخل فيما لا يعنيه،وأشار إلى أن المثقفين ينقسمون إلى قسمين: المثقف الحقيقي، والمثقف المزيف،فالحقيقي هو من يقول(لا)، والمزيف هو الذي يقول(لا ولكن)».
        وبتأملنا في فكرنا العربي المعاصر، يمكن أن نستشف أن الرؤى الفكرية العميقة لشخصية المثقف، بدأت تتبلور، وتظهر بشكل جليٍ منذ عقد التسعينيات،حيث برز عدد من المفكرين حاولوا التعمق في ماهية  المثقف، ورصد شتى دلالاته، وتتبع أدواره،كما سعوا جادين إلى التأصيل لها، ومن أهم المفكرين العرب الذين تعمقوا في هذا الميدان، نذكر: الدكتور محمد عابد الجابري، في كتابه:« المثقفون في الحضارة العربية»،وإدوارد سعيد-الذي أوردنا تعريفه سلفاً-في كتابه المتميز«صور المثقف»، وعلي حرب في كتاب:«أوهام النخبة»، وعلي أومليل في دراسته:«السلطة السياسية والسلطة الثقافية»،وسواهم من كبار المفكرين المعاصرين،أمثال:عبد الإله بلقزيز،   وجورج طرابيشي، وفهمي جذعان...
       وقد صور الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل في مقاله هذا جملة من المواقف التي تواجه المثقف الحقيقي،وشدد على أن النضال الثقافي مهمة قائمة وواجب عيني،ومهمة الكتابة المثقفة هي التوجه المنجز والحاذق نحو مواطن الكتابة اللصيقة التي من مهامها:النضال المكرس والعقلاني والشمولي مع الانتباه الشديد والدائم حتى لا تدخل في مدارات التعصب والفئات والكيانات المشبوهة التي تلبس لكل مرحلة لباسها،وأشار إلى أن بقاء المثقف خارج مدار الفعل الحيوي يؤزم الوضعية أكثر ويجعل الأمر غير ممكن للذهاب نحو تحقيق مطامح الفرد والجماعة،وفي ظل التحولات والتغيرات التي تقع من مرحلة إلى أخرى ،فما يتوجب على المثقف الحقيقي هو تنشيط هامش الحركة قصد التصويب على الأهداف والمواقع،للنهوض والارتقاء بالجماعة،وأكد الأستاذ عبد الحميد شكيل على أن النضال الثقافي يبقى لصيقاً بالمثقف الحقيقي « المتسق مع ذاته ومبادئه ومعطيات الواقع وممكنات المستقبل،حتى يحقق على أرض الواقع بعض التزاماته الأخلاقية والثقافية،أمام الذين ينظرون إليه نظرة مشفوعة بالتبجيل والإكبار».
       في مقال«إنهم يطلقون الرصاص على الكاتبة»تناول الأستاذ عبد الحميد شكيل  موضوع احتقار الذات الجزائرية المبدعة،وتساءل«لماذا نحتقر الذات الجزائرية المبدعة؟لماذا يشتم بعضنا البعض؟»،وفي توصيفه للحركة الثقافية والأدبية الجزائرية،يرى الأستاذ عبد الحميد شكيل أن ظاهرة تشاتم الكتّاب في الجزائر ملفتة للنظر نظراً لحدتها وشراستها،بل وعدوانيتها،وجدد تساؤلاته: «هل مرجع ذلك للحسد والغيرة؟أم إنها العقلية الجزائرية التي لا تحب المنافسة،بل وتذهب في ذلك مذهباً رومانسياً مخزياً(أنا ولا أحد...)لماذا نرفض الآخر أياً كان؟ونعمل بإصرار على إقصائه؟»، وفي الختام أشار إلى ضرورة التفوق على الذات،وترسيخ قيم المحبة والتسامح ومباركة نجاحات الغير.
        تحدث الأستاذ عبد الحميد شكيل عن غربة النص الإبداعي الجاد والأصيل في مقال موسوم ب«غربة النص غربة المثقف»،ووفق رؤيته فغربة النص تتأتى انطلاقاً من شحوب الواقع الثقافي،و تتكرس داخل نطاقية المجتمع والذات المحاصرة بالقهر اليومي،كما تعتبر نتيجة لغربة المبدع نفسه«الذي يحارب على أكثر من جهة في عصر الظلامية والقسرية التي تعمل-بسوداوية-لإجهاض الإبداعية وتطويق المبدع ومحاصرته وقمعه وافتعال الأزمات والتعلات وجعله نقطة باهتة،وفكرة تائهة تبحث عن مدارها ومستقرها في شاشة الحياة اليومية الضاغطة التي تزيد في غربته وإحساسه الفظيع باليتم والفقد والانكفاء،ومن هنا يلاحظ المتلقي السوداوية التي تطبع العمل الإبداعي المقدم له،فيشعر حياله بامتعاض،وحموضة قاتلة ومربكة لأفق المعنى الجميل،ونصاعة القول الحامل لتحولات الإبداع وتبدلات النص بما ينطوي عليه من عوالم نابضة وضاجة باليقين ومتاهاته» )10(.
   في مقال«اللغة في الشعر»يكشف الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل عن رؤيته للغة في الشعر،ويبرز منظوره لجمالياتها،ويصفها بأنها المادة الخام في الشعر،ويرى أن النصوص الشعرية التي تهزنا وتقحمنا في مجالها الحيوي وأفقها الإبداعي هي تلك التي تنحاز إلى سقف لغة متوهجة حميمة ومنفتحة ومنسجمة مع المعطى اللغوي،ويخلص في الأخير إلى أن اللغة وحدها لا تكفي بل لابد من وعي جمالي ونقدي وموهبة ذكية وحاذقة حتى يتمكن المبدع من منح العملية الإبداعية أبعادها وظلالها وبريقها وخصبها...
      وعن منظوره للشعرية العربية فقد عالجها من منطلق جدلية الاختلاف والتشابه، و يعتبر تشابه الأنموذج الإبداعي الشعري في العالم العربي ليس دليلاً علمياً وفنياً قطعياً على الإفلاس الإبداعي، أو سقوطاً جمالياً في مياه النمطية والقول المعاد والمكرور، بقدر ما هو دليل ساطع وموقف قاطع على تشابه الهموم وتطابقها المرعب الذي يؤرق المبدع العربي من الماء إلى الماء، ويقدم الأستاذ عبد الحميد شكيل دعوة إلى تحليل النصوص الشعرية تحليلاً برجعها إلى منطلقاتها وحيثياتها، ويربطها بالمنطلقات الذاتية والمجتمعية، فالهموم العربية تكاد تكون متطابقة، كما يرى أن تشابه النص الشعري العربي هو القاعدة والاختلاف والمغايرة هي الاستثناء الجميل....
  الهوامش:
(1)  ينظر:د.عاطف جودة نصر:الرمز الشعري عند الصوفية،منشورات دار الأندلس للطباعة والنشر والتوزيع،بيروت،لبنان ،ط:03،1983م،ص:348 و351.
(2)للتوسع ينظر:رابح خدوسي:موسوعة العلماء والأدباء الجزائريين،منشورات دار الحضارة،الجزائر،2002م،ص:202.
(3)ينظر:مجلة عمّان الأردنية،مجلة ثقافية شهرية تصدر عن أمانة عمّان الكبرى،المملكة الأردنية،حوار مع الأستاذ الأديب عبد الحميد شكيل،حاوره:عبد الرحمن تبرماسين،العدد:133،شهر تموز،2006م،ص:05.  
(4) ينظر:مجلة عمّان الأردنية، العدد:133،شهر تموز،2006م،ص: 05وما بعدها . 
(5)للتوسع ينظر:مجلة الثقافة،العدد:25، 2011م،ص:154 وما بعدها.
(6) عبد الحميد شكيل:ملاذات الشطح-اجتراحات-،منشورات موفم للنشر،الجزائر،2009م،ص:08.
(7) عبد الحميد شكيل:ملاذات الشطح-اجتراحات-،ص:09.
(8) د.شكري عزيز الماضي:محاضرات في نظرية الأدب،منشورات دار البعث،قسنطينة،الجزائر،ط:01،   1404 هـ /1984م،،ص:139.
(9) عبد الحميد شكيل:ملاذات الشطح-اجتراحات-،ص:19.
 (10) عبد الحميد شكيل:المرجع نفسه،ص:95.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق