الصفحات

2015/12/29

قراءة قي كتاب تحولات النص الشعري بين الناقد والشاعر للأستاذ الدكتور/عبد الله محمد العضيبي بقلم الدكتور/ عبد الناصر بدري أمين

قراءة قي كتاب تحولات النص الشعري بين الناقد والشاعر للأستاذ الدكتور/عبد  الله محمد العضيبي
بقلم الدكتور/ عبد الناصر بدري أمين
عمادة البحث العلمي – جامعة أم القرى – مكة المكرمة
 
          نشرت (دار كيوان) للطباعة والنشر والتوزيع كتابًا للناقد السعودي الدكتور/ عبد الله محمد العضيبي تحت عنوان: تحولات النص الشعري بين الناقد والشاعر، وقد أهداني أستاذي الدكتور عبد الله العضيبي نسخة من كتابه هذا؛ فلفتت انتباهي طريقة التناول، وآثرت أن أسجل رؤيتي حول هذا الكتاب.
          ترتكز فكرة الكتاب على عمليتي الإبداع والتلقّي في النتاج الشعريّ، وإن كان النص الشعري بين يدي الشاعر يخضع لعمليات تنقيح وانتخاب صياغة، ونقل مفردة في التعبير إلى مكان آخر، بل، واستبدالها بأخرى، وحذف تعبير رآه لا يناسب المقام، أو إلغاء بيت أو بيتين من النص، وغير ذلك مما يعانيه الشاعر في عملية المخاض الشعريِّ، وذلك ما يمكن أن نطلق عليه القراءة الذاتية للنص.
          وإذا ما صار النص الشعريّ بين يدي المتلقي نراه يخضع مرة أخرى للقراءات المتعددة، وعندما يصل النص إلى يد ناقد بصير يأخذنا إلى داخل النص في قراءة واعية؛ فهو يتفاعل معه، ويعيش التجربة الشعرية التي عاشها الشاعر، أو يكون قريبًا من ذلك.
          من هنا يبدو الناقد شريكًا للشاعر في نصه بصورة تفاعلية؛ حيث يتفق أو يختلف مع ما ذهب إليه الشاعر من صياغة، أو معنى، وحينئذٍ نجد هذا المتلقي النوعي يتدخل في تشكيل النص محاولًا تعديل تعبيرٍ، أو مقترحًا لفظةً مكان أخرى بما يتوافق مع رؤيته، والمعنى الذي تبدَّى له من خلال فهمه النص.
          ومع اختلاف أفهام الناس حول نص واحد؛ حيث يَنظر إليه كلٌّ من زاويته - تطالعنا كتب النقد القديم ببعض المآخذ التي أخذها النقاد على الشعراء، وعرض وجهات نظر قد لا يراها الشاعر، ولذا وجدنا المتنبي يقول مفتخرًا بما يحدثه شعره من اختلاف بين متلقي شعره؛ فيقول:
أنام ملء جفوني عن شواردها .... ويسهر القوم جراها ويختصم
وليس ببعيد عنا ما حدث في مجلس الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان من تناول لبيت الشاعر نصيب على أصح الروايات:
أهيم بدعد ما حييتُ فإن أمتْ ... أوَصِّ بدعد من يهيم بها بعدي
ويبدو أن الخليفة لم يعجبه من المحب أن يكلِّف غيره –إن مات– بالهيام بمحبوبته هو، ولا يضنُّ بها على غيره، والحب مبنيٌّ على الأنانية؛ فيقول لأحد جلسائه: ماكنت تقول لو أنك القائل؟ فيقول: أقول:
أهيم بدعد ما حييت فإن أمت ... فوا حزني من ذا يهيم بها بعدي؟
فرفض قول القائل؛ فقالوا له: وما كنت قائلًا في ذلك يا أمير المؤمنين؟ فقال:
أهيم بدعد ما حييتُ فإن أمت ... فلا صلحت دعدُ لذي خلة بعدي
(ينظر في ذلك الكامل في اللغة والأدب للمبرد جـ1 صــ47)
          وقد ولج الناقد السعودي أستاذ الأدب والنقد في جامعة أم القرى الدكتور عبد الله العضيبي إلى تلك التشكيلات الجديدة، والتحولات في النص الشعري من خلال لمحات دقيقة لا يلتفتُ إليها كثير من أهل هذا الفن؛ فقد تناول في كتابه هذا موقفين نقديين، أولهما: موقف ابن وكيع من شعر المتنبي، وهو الفصل الأول (صـ7ـ59)، والفصل الثاني: موقف الشاعر غازي القصيبي من شعره هو بين حالتين، أولاهما عندما نشره في الصحف في حينه، وثانيتهما: عند إعادة نشره في مجموعته الشعرية.
          أما الفصل الأول فكان -كما تقدم- موقفًا لواحد من نقادنا القدامى تجاه شعر المتنبي، وهو ابن وكيع التنيسي (393هـ) في كتابه (المنصف في نقد الشعر) متجاوزًا المآخذ على شعر المتنبي، والتي تمثل السرقات جزءًا منها- إلى اقتراح بعض التعديلات، وإعادة الصياغة لأبياته الشعرية، وهو ما يطلق عليه النقاد المحدثين (النقد الجزئي) الذي لا ينظر إلى العمل الفني كوحدة متكاملة، بل يتناول مفردة من بيت، أو شطرًا من قصيدة، وهذه سمة من سمات النقد القديم.
          ويرى الناقد الدكتور العضيبي أن بعض الشعراء كان يرفض تلك التدخلات من نقاد شعرهم؛ لأنه هو ذاته صاحب التجربة الشعرية، والحالة التي تمخض عنها نصَّه الشعريّ، وقد لا يدرك الناقد المعاناة التي كابدها الشاعر في انتقاء مفرداته، وصياغة جمله وتعبيراته، ومن الشعراء من يستجيب إلى تلك الرؤى التي يبديها النقاد طلبًا لإرضاء ذائقة المتلقي، ورغبة في اكتمال الشكل الفني للنَّص الشعري.
          ويجزم صاحب الكتاب بأن الدافع الرئيس لابن وكيع لإعادة صياغة بعض أبيات المتنبي - أنه كان شاعرًا (صـ13) ويدحض في الوقت ذاته الرأي القائل: إن ابن وكيع كان يسعى من وراء تحامله على المتنبّي إلى إيهامنا بتفوّقه عليه، وهنا أختلفُ مع ناقدنا؛ لأنه إن بنى دحضه لهذا الرأي على أن نقدات ابن وكيع تتناولُ خللًا في بيت من قصيدة لا يقللُ من قيمتها، إذ ينبغي النظر إليها بشكل شموليٍّ مستشهدًا بأبيات أوردها عبد القاهر الجرجاني (صـ13-14)، غير أني أقول: إن صاحب الكتاب يتحدث بلسان النقد الحديث، ويريد أن يطبق قواعده على النقد القديم الذي كان يرفع الشاعر، أو يضعه ببيتٍ شعريٍ، وقد يتعلَّق الأمر بقبيلة كاملة، وما قصة الحطيئة في بيته الذي مدح به قبيلة أنف الناقة عنا ببعيدة حين قال:
قومٌ هم الأنف والأذناب غيرهم ... ومن يسوِّي بأنف الناقة الذنبا؟
فأصبح الرجل منهم –بعد أن كان يخجل من اسم قبيلته– يبادر من يتعرَّف إليه بقوله: أنا من أنف الناقة! وبتلك القواعد التي كانت تتسم بالنظرة الجزئية التي قد لا تتعدَّى الكلمة والكلمتين والبيت الواحد في القصيدة، كان يتم الحكم على النص، وابن وكيع كان يسير سيرة النقد القديم في نقده شعر المتنبي بالاعتراض على كلمة، أو كلمتين، وهو النقد الجزئي.
          ورأى ناقدنا أن صياغات ابن وكيع التي ارتآها تصويبًا لأبيات المتنبِّي تتَّخذُ ثلاثة أشكال:
1 – صياغة لا تلتزم بالوزن والقافية، وهي تعديل نثري موظِّفًا قوله: لو قال: (كذا) كان (كذا)، أو قوله: لو أمكن....
2 – صياغة تلتزم بالوزن أمَّا القافية فقد يتغير فيها حرف الرويّ.
3 – صياغة تلتزم بالوزن والقافية دون أي تغيير.
وأورد للحالتين الأوليين كلٍّ بمثالين، وقصر دراسته على الشكل الثالث من التعديلات التي التزمت الوزنَ والقافيةَ، وساق لها النماذج التي بنى عليها دراسته، ورأى أن ابن وكيع تحرك في نقداته تلك متكئًا على فاعليتين، إحداهما: تتعلَّق بالشكل، والأخرى تتعلق بالمعنى.
          وقد انبرى الدكتور عبد الله العضيبي في مواضع عدَّةٍ للدفاع عن اختيار المتنبِّي مفرداته، وصياغاته الشعرية أمام تدخُّلات ابن وكيع النقدية -وإن كان وافق ابن وكيعٍ في أخرى-، وأورد لابن وكيع ذاته أنه كان يتيح لنفسه التحرر من الرغبة في النيل من المتنبي؛ فيعيد قراءته بطريقة تشكِّلُ تبريرًا لاختيار المتنبي (صــ58).
          وفي الفصل الثاني من الكتاب تناول: تحوُّلات النصّ الشعري قراءة في تجربة شاعر معاصر (صـ61–95)، وهو الشاعر السعودي غازي القصيبي الذي كان ينشر قصائده الشعرية في الصحف والمجلات، وكان ناقدنا يقرأها في حينه ويحفظها، وعندما جمعها الشاعر في ديوان مطبوع عرضها على نفسه مرة أخرى في قراءة ناقدة متأنية؛ فرأى أن يتدخَّل بالتعديل والانتقاء، وتغيير الصياغات، واستبدال مفردة بأخرى خاصة في شعر المناسبات، أو حذف بيت، أو مقطع كامل من النص؛ حيث وجد أنه لم يكن موفقًا في المخاض الأول للقصيدة، وهذا كله لفت انتباه ناقدنا الواعي عند قراءة الديوان؛ فكانت هذه الدراسة.
          ويرى الناقد أن القصيبي في تدخلاته، وتعديلاته قبل طبع الديوان كان يخضع لمقاييس معينة منها: فاعلية الدلالة؛ حيث لمس أن عددًا من مفرداته التي استخدمها أوّلًا لا تحقق البعد الدلالي الذي اختارها لأجله، وهذا ما دفعه إلى أن يستبدلَ بها مفردة أخرى (صـ73)؛ ليصل بها إلى قوة الدلالة المقصودة في مواضع، والإفادة بمعنى جديد في مواضع أخرى، وملاءمة السياق الشعري في حالات ثالثة (صـ73و79)، ومنها (المقاييس) جمالية الإيقاع، وإذا كان الشعر مبنيًّا على الإيقاع، والجرس الموسيقي؛ فإن المفردة التي تخلُّ بهذا النسق الموسيقي قد تحدث نشازًا، أو لا تحقق الانسيابية في النصِّ الشعري، ومن هنا قام القصيبي بتعديل بعض أبياته؛ لتحقيق جمالية الإيقاع.
          وتعرّض الناقد لما قام به القصيبي من حذف بعض أبياته من القصيدة التي سبق نشرها في الصحف عندما أسكنها ديوانه الشعريّ، ولكن ذلك التدخُّل كان أقل درجة من تدخله بالتغيير في المفردات، ويرى أن المقاييس التي اعتمدها القصيبي في بعض أبياته تتمثل في:
1– سلبية الدلالة، حيث حذف البيت الأخير من قصيدة (أبها) التي سبق أن نشرها في مجلة اليمامة (عـ467) من المجموعة الشعرية الكاملة له (صـ554)، وهو قوله:
لي قلب يخون كل غرامٍ ... غير أبها فإنه لم يخنها
لما في ذلك من وصف نفسه بالخيانة.
2- وحدة النص الشعري كما يرى الناقد؛ حيث إن مطلب الوحدة العضوية يقتضي ذلك، وهذا ما جعله يحذف مقطعً يتكون من أربعة أبيات من قصيدة (لا تهيئ كفني).
          وقد رأيت أن الناقد قد وافق الشاعر فيما ذهب إليه من تدخُّل بالتعديل، والحذف، واتفق معه فيما رأى، والتمس له أسباب هذا التدخُّل.
          وبعد.. فإن هذا الكتاب يُعَدُّ خطوة راقية في استقراء أنماط تلقي الشعر سواء أكان المتلقي ناقدًا يتلمَّس مواطن القوة، والضعف في الشعر، وينوه إليها، وهذا ما رأيناه في دراسته الأولى التي تناول فيها تلقي ابن وكيع شعر المتنبِّي، ودراسته الثانية التي تناول فيها تلقي الشاعرِ ذاتِه شعرَه بعد مدة من الزمان، وهو ما يمكن أن نطلق عليه التلقي الضمني، حيث يستقرئ الشاعر شعره، وينقد ذاته؛ فيغير صيغة، أو يرى مفردة قلقة في مكانها؛ فيستبدل بها أخرى، أو يحذف بيتًا، أو مقطعًا، وهاتان الدراستان يمكن أن نعدَّهما يقظة فنية في مجال النقد الأدبي الذي يربط بين القاعدة النقدية والتطبيق مع إمكانية وسم ما قام به الدكتور العضيبي بـ(نقد النقد). 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق