الصفحات

2016/01/09

اختيارات الحياة بين الجموح والتردد قراءة في رواية (الشعلة وجبل الجليد) للدكتور محمد حسن عبد الله بقلم: خالد جودة



اختيارات الحياة بين الجموح والتردد
قراءة في رواية (الشعلة وجبل الجليد) للدكتور محمد حسن عبد الله
 بقلم: خالد جودة
ارتفعت نسبة مقروئية الروايات مؤخراً، واشتهرت روايات دون أخرى، من جميع الأجيال، بحيث  ُتعاد طبعاتها أكثر من مرة، ويبدو ان للكتب حظوظاً وأرزاقاً مثل البشر، فقد ألتقطت رواية (الشعلة ... وجبل الجليد) للقاص والناقد د. محمد حسن عبد الله، من باعة الكتب القديمة، والصادرة عن مكتبة الشباب بالمنيرة، في ثوب طباعي شديد التواضع، والكاتب له مجموعة كتب نقدية ُطبعت أكثر من مرة، منها رسالته للماجستير (الريف في القصة المصرية)، ورسالته للدكتوراة (الواقعية في الرواية العربية)، وله إصدارات قيمة أخري في الدراسات الأدبية، منها كتابه الممتع (أقنعة التاريخ – قراءة مسرحية)، وغيرها، حيث ُنشر له أكثر من 58 عنواناً، كما جاء بالتنويه في احتفاله الثمانيني بمولده مطلع عام 2015، لكن روايته تلك لم أجدها أو أعرف بها من قبل، بل قمت بإجراء تنقيب إلكتروني عبر محركات البحث، فلم أعثر حتي علي العنوان، فضلاً عن قراءات أو تفاعل ما مع الرواية، رغم أن الرواية لها حكم قيمة حيث أشارت الصفحة الأولي من متن الرواية أنها الرواية الفائزة بالجائزة الأولي والميدالية الذهبية من المجلس الأعلي لرعاية الفنون والآداب، عام 1965.
كانت الرواية من أفضل ما طالعت من روايات خلال شهور طويلة عامي 2014 و 2015، وحققت مفهوم (القراءة اللذيذة والشجية)، مع إثارة الفكر والتأمل في قصدية الروائي.
تقوم الرواية علي مجموعة من الشخصيات الرئيسة، وأخري شخصيات فرعية، لكن تلك الشخصيات الثانوية موظفة بذكاء كبير لخدمة افكار الرواية، فمن هذه الشخصيات من حضر سويعات قليلة علي مسرح السرد، مثال "فاطمة" وزوجها "رشدي"، والأخير هو زوج "فاطمة" أخت "أحمد ماهر" البطل الرئيس في الرواية، وشكلت شخصيته تبدلاً في مواقف الناس ومشاعرهم تجاه بعضهم البعض طبقاً لدراما الحياة التي لا توجد في الكتب كما وضحت والدة أحمد ماهر ("أنت يا بني لا تعرف كيف تمضي الحياة في البيوت ... ليس كل العلم في الكتب" ما أصدق هذه الكلمات وأقساها)(1)، إن هاتفه الداخلي بقسوة كلمات الوالدة يتحدث لأنه يري الكتب الحقيقة الوحيدة في حياته (فيهتف بقلب ذبيح: "رحمتك يارب" وينصرف إلي كتبه .. إلي الحقيقة الوحيدة في حياته)، وهذه التيمة تكررت أكثر من مرة، عندما واجه مسئوليته كولي أمر لشقيقته "فاطمة" في موقف زواجها برشدي، تقول له الأم: (يا ابني .. غداً تصير أباً وتعرف .. ليس كل العلم في الكتب ..)(2)، وفي الحوار نفسه تصرح: (أنت لا تعرف كيف تدار البيوت، وكيف تمضي حياة الناس .. انت نبيل وذو خلق رفيع، سكن الحياة لها أخلاق أخري تفرضها علي الناس)، هنا نفي الاختيار في ظلال هذا الغول المتوحش لندرة الفرص (= البدائل): (آه .. أين أنا في ذلك الغول المتوحش ... العالم!!)(3)
الشخصيات الرئيسية هي احمد ماهر وصديقه زكريا، فريدة وصديقتها سامية، والرباعي طلاباً في الجامعة، ود. راضي أستاذهم بالجامعة الشخصية الرئيسة الخامسة، وقد تشابكت خيوط الأحداث والمشاعر، وتبدلات المواقف، وحتي آخر سطر من الرواية، ظل التشويق مشتعلاً، حيث لم تتحدد مصائر الشخصيات إلا بآخر صفحة من الرواية، لم  ُيحاط القارئ بالمصير، ولم يستطع التنبؤ بهذا المصير من تفاعلات الشخصيات والمواقف بالرواية، وهنا نجد الواقعية، حيث لا يدري إنسان ما المخبوء له وراء أستار الغيب.
إن الرواية تنتمي بذلك لما يسمي (سرد التكوين)، يذكر الناقدين د. سيد محمد قطب، و د. جلال أبو زيد في كتابهما المعنون (سرد التكوين): (الجامعة فضاء نموذجي لزمن التكوين)، ويقررا أن هذا اللون من السرد يكون في فترة التشكل (زمن يبدأ من نهاية الطفولة ويصل إلي فترة الشباب .. زمن الصداقة والحب والأحلام ... زمن النهم للتحصيل والتغيير)، ويقررا أن للسرد في هذه المرحلة له سحر التكوين (أي سحر كامن في هذه الفترة يدفع كتاب السرد لتناولها؟).
لعل الإجابة أتت في ثوبها الروائي حيث أنماط الشخصيات المتباينة التي تخط بسلوكياتها واختياراتها مسارها في الحياة.
ويطرح الروائي سمات الشخصيات ليكشف لنا أن مصائرها ارتبطت بما جبلت عليه من أخلاق: (كان احمد ميالاً للعمل الجاد والعنيف، وكان دائم الحركة .. نشط الخيال، ولكن خياله كانت تتحكم فيه الطريقة المسرحية (..) وكما تتوالد المسرحية الكاملة من موقف يفضي إلي موقف آخر، مرتبط به، ويتطور عنه، وحدث يدفع إلي حدث آخر هو مترتب عليه، ونتيجة له .. كذلك كان يتخيل أحمد الحياة .. مجموعة من المواقف والأحداث المترابطة التي يفضي بعضها إلي بعض)(4).
الروائي في خط التشويق الروائي، تلاعب بنا وبمصائر شخصياته ببراعة، ففي المشهد الأخير الذي شمل عدد سبع صفحات من رواية قوامها 206 صفحة من القطع المتوسط، وهو مشهد ظهور نتيجة امتحانات السنة النهائية، ولقاء الطلاب الرباعي أبطال الرواية وتبادل التهنئة بالنتيجة، رغم أن مرات لقائهم كرباعي نادرة علي صفحات الرواية (ثلاث مرات فقط)، ظهر من الموقف أن هناك شروع في خطبة بين فريدة وزكريا، كما كان السياق طوال الرواية، ما عدا تلميح د. راضي لفريدة برغبته في التقدم إليها، ثم في سطور تالية قليلة نجد الحدث أن د. راضي كان أسرع في التقدم إليها بعد لقاء التهنئة هذا بساعات قليلة، واقتنص اماً بديلة لابنه الطفل (ماسي) التي رحلت أمه الأجنبية بعد ان فارقت زوجها حضارياً وسلوكياً، وكأن الروائي يقول لنا فناً الحكمة القائلة: (انتهزوا الفرص فإنها تمر مر السحاب)، وتلك حقيقة اختيار الحياة الصائب، ففي مشهد التهنئة الختامي بين رباعي الرواية نجد هذا المعني عندما أعلن أحمد ماهر قراره الذي يعلمه القارئ بالسفر إلي الخارج بعد أن أطفات مشاعره الشعلة برود التردد من قبل حبيبته (سامية) التي لم يربطه به سوي النظرات والمشاعر، يقول الراوي: (بل ولا يكاد يفكر في سامية ذاتها. لقد رأي أن الطريق إلي أي شيء هو ان ينال ركائز قوية لحياته .. ركائز مدعمة لا يطعن فيها أحد .. وأصبح التفوق هدفاً واضحاً أمامه .. هدفاً وحيداً .. فوجه إليه كل طاقته)(5)، هنا لحظة التحول الناتج عن معرفة ماذا نريد، إن أحمد باستقامته ومثاليته انتج اختياراً موفقاً، ويتباين في هذا مع موقف صديقه زكريا.
ونعود للمشهد الختامي وأحمد يعلن علي مسامع حبيبته "سامية" التي حاد عنها بمشاعرة إلي هدف بديل حتي لا تنطفأ شعلته ببرودة التردد والإحجام وضعف الثقة بالنفس: (هذا حق .. بعض الآمال ترتبط بظروف معينة (..) لا أريد أن أقول إنها آمال وقتية، أو تافهة، ولكنها ترتبط بظروف معينة، فإذا نجحت في وقتها دام نجاحها، ونمت وكبرت، وفرضت نفسها، وإذا أفلتت الفرصة فلا أحد يتنبأ بما يجد من أشياء .. ربما لم تهب الريح المواتية مرة أخري)(6)، إنها ذات الحكمة (انتهزوا الفرص فإنها تمر مر السحاب)، تلك هي واقعية الحياة.
إنها اقتناص لحظة السعادة، لحظة التوفيق في الاختيار، لحظة الحلم الجميل، إنها الفرصة النادرة بالسعادة والانسجام العاطفي، إنها لحظات نادرة (ضائعة في الرواية للأسف)، لحظات لا تتكرر أبداً إلا في لمحات كالبرق او كالسحاب: (ما أسعدها من لحظة يا زكريا .. عندما تصل عواطف الحبيبين إلي التركيز القوي .. حينما تستغني عن كل النساء بحب فتاة، وعندما تستغني الفتاة عن كل الدنيا بالتعلق برجل .. وتسلم قيادها له مطمئنة .. تلك هي الخطبة .. إنها الحياة كلها مختصرة في لحظة سعيدة .. كما تنطوي الشجرة العملاقة في بذرة صغيرة)(7)
الرواية تناقش مفهوم اختيارات الإنسان بين الجموح والتردد والإحجام، فالدكتور راضي اختار زوجته الأجنبية (ماريان) في فترة سفره بالخارج أثناء إعداده الدكتوراة، لكي يحقق نمط الحياة الغربي الذي تخيل أنه يعشقه، وأنه يحقق له السعادة في الحياة، وهذا النمط من الحياة يجعله ممزقاً نفسياً في فترة لاحقة، لأنه يناقض شيئاً مركوزاً في ضميرة (الشرق شرق والغرب غرب)، ويوظف الروائي صورة الوالد بهيئته المصرية العتيدة، في إطار معلق بحجرة مكتبه بالمنزل، في أكثر من لقطة، وجعلها بذلك شخصية روائية حاضرة في الخلفية السردية لشرح التمزقات، والتصحر العاطفي، حتي الطفل ماسي حاضرا في المشهد الروائي بجوعه للأمومة البديلة ممثلة في بنت البلد (فريدة)  الفتاة الباحثة عن الواقع الفاهمة لأبعاده، وماريانا نفسها اختارت لنفسها أن تكون أكثر انسجاما مع ذاتها، وقررت الرحيل المفاجئ بصحبة رجل آخر.
أما زكريا فيجمح في اختياراته ويرضي متدنياً أن يكون لقطياً عاطفياً علي بوابة أرملة العوامة التي تلفظة بعد حين ساخرة منه، ويعاقبة أحمد صديقه المثالي بمقاطعته عندما يحاط علماً بغرقة في بئر الأثم، وعندما تتاح له الفرصة للاستجابة إلي نوازع مخبأة في أغوار قلبة ناحية سامية بعد سفر صديقه (حبيبها)، تأتي الخاتمة الأخلاقية في آخر بالرواية في ثوبها الفني لتشرح المصير: (واستدار خارجاً، وعلي فمه ابتسامة لا لون لها، ومضي خطوات علي رصيف الميناء متجهاً إلي باب الخروج، فاستوقفه الحارس قائلاً: معذرة .. باب الزوار قد أغلق .. تستطيع أن تخرج من باب العفش ..)(8)
فبينما صديقه يبدل بوصلة اختياراته للحياة في اتجاه الطموح، ويسافر للخارج للحصول علي الدكتوراة، يقع (زكريا) في اختياراته الآنية التائهة: (أنا قلعة مهزومة .. أنا سفينة .. تبحث عن ربان، انا لا أعرف من أنا .. هل تستطيع الشياطين ان تهديني؟)(9)
أما "سامية" الرقيقة المترددة، فنجد شخصيتها موصوفة في مقابل الصديقة فريدة: (برغم ما بينهما من تضاد في بعض الطباع .. فريدة جرئية لبقة، لاذعة النكتة .. ساخرة، لاتتردد ولا تستشعر خجلا وسامية حييه وادعه، تغرق في شبر ماء، وتسلم بأشياء كثيرة قد لا تريدها أو ترغب فيها، لمجرد أنها تود إنهاء الموقف .. ولا تقوي علي حدة النقاش)(10)، وهذه العبارة الكاشفة لملامح الشخصية الروائية النفسية، هي حل أحجية الرواية بعقاب الروائي لسامية المهذبة اللطيفة، حيث تركها في نهاية مفتوحة بعد أن خسرت الشاب (الشعلة) المثالي أحمد ماهر، وبعد أن ظلت متردده في الاستجابة لندائه للارتباط رغم رغبتها في ذلك، العقاب مؤلم للقارئ، لكنه قد يفطن لمبرره الموضوعي، فعلي قدر الذنب أتت العقوبة، في مناجاة أحمد لذاته: (وبدا أصبعها الذي يتمني أن يطوقه بالذهب .. فتركزت نظراته عليه .. كأنه الأمل الوحيد للنجاة من ثلوج العالم كله التي تتراكم في طريقه، ومن الشعلة المتوهجة بين ضلوعه .. التي تطلب الري)(11) ، إن توقيت الاختيار في غاية الأهمية.
الرواية الماتعة في مسيرتها تلك تكشف نوازع النفس البشرية العجيبة والمتشابكة، وخواطرها ولفتاتها النفسية العميقة، مشتبكة أيضاً مع مصائر الشخصيات الروائية، وتظل تعبيرات وتلميحات الرواية في غاية التألق وكأنها مسرحية الحياة: (لا تعني الحركة المسرحية الحركة الآلية، فربما كانت الحركة كلاماً أو ابتساماً أو حتي صمتاً .. وإذا لم تشتمل المسرحية علي نوع من الحركة النامية فإنها تنتحر أمام الجمهور)(12)، ولا تتحقق تلك الحركة النامية إلا بصياغة الاختيار القائم علي إجابة السؤال: ماذا نريد من الحياة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
هامش:
(1)   الشعلة وجبل الجليد رواية د.محمد حسن عبد الله – مكتبة الشباب بالمنيرة - ص 198
(2)   سابق ص 197
(3)   سابق ص 181
(4)   سابق ص 97 "بتصرف"
(5)   سلبق ص 193
(6)   سابق ص 201
(7)   سابق ص 93
(8)   سابق ص 206
(9)   سابق ص 86
(10)                       سابق ص 65
(11)                       سابق ص 146
(12)                       سابق ص 7

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق