الصفحات

2016/03/16

جرائم الـجيش الفرنسي في مقاطعتي الـجزائر وقسنطينة1830-1850



 جرائم الـجيش الفرنسي في مقاطعتي الـجزائر وقسنطينة1830-1850  
بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقــة
كلية الآداب، جامعة عنابة -الجزائر
     يؤكد العلاّمة الشيخ محمد الصالح الصديق على أن«ما لاقاه الشعب الجزائري خلال الاحتلال،وخلال ثورته المجيدة،من أنواع الظلم والقهر،ومن أنواع التنكيل،والتعذيب،هو الذي سيظل ناراً مؤججة في الأعماق،وقوة موحدة،وطاقة دافعة،وضلالاً كئيبة تنقر كل ما يمس بكرامة الوطن،وينال من سيادته،وإذا كان الإيمان القوي،والوطنية الصادقة،والوفاء لثوابت الأمة هو الذي جعل أبطال،وبطلات ثورة التحرير يستميتون في مجالات التضحية والايثارية والفدائية،وجعل الشعب الجزائري بمختلف فئاته يصمد أمام فظاعة التعذيب،فإن هذه المعاني،وهذه القيم أيضاً،هي التي جعلت،وتجعل رجال الفكر والقلم يمجدون تلك البطولات والمواقف،ويشيدون بتلك المقاومة العنيدة التي حطمت صخور الاستعمار الفرنسي،وأسقطت تحت مطارقها عروش طغاته،وعتاته،وغيّرت مجرى التاريخ في الجزائر،بل في شمال إفريقيا كلها...ويحاولون بكل ذلك تربية النشء على تلك القيم والمبادئ والأخلاق،حتى تتكون منه أجيال تحس بآمال الشعب وآلامه،وتموت فداءً له إذا تطلب الأمر ذلك».
        وفي هذا السياق نلفي كتاب«جرائم الجيش الفرنسي في مقاطعتي الجزائر وقسنطينة1830-1850»،حيث يسعى المؤلف وهو الدكتور عبد العزيز فيلالي؛الأستاذ بجامعة منتوري بقسنطينة ،ورئيس جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية سابقاً،ورئيس مؤسسة الإمام الشيخ عبد الحميد بن باديس،و صاحب الكثير من المنجزات العلمية و التاريخية المتميزة إلى كشف النقاب عن جرائم الاستدمار الفرنسي،وإلقاء الضوء على فظاعة الجيش الفرنسي من خلال التوقف مع جرائمه في الجزائر في الفترة الممتدة ما بين:1830و1850.
  يقول الدكتور عبد العزيز فيلالي في وصف مؤلفه هذا«قسمت البحث إلى قسمين رئيسيين:
   القسم الأول يشتمل على جرائم الجيش الفرنسي في الجزائر من حرب صليبية وحرب عنصرية وإبادة جماعية،وتدمير القرى والمداشر وحرب المحرقة وتعذيب الأسرى وقتل الجرحى،وهي أعمال تعد من الجرائم ضد البشرية الموثقة في قوانين الأمم المتحدة وبروتوكولاتها.
   أما القسم الثاني فيتضمن الاحتلال الفرنسي لمدينة قسنطينة،وما انجر عنه من تقتيل وتدمير للمنشآت وتشريد للأهالي واغتصاب للنساء والممتلكات،وتضمن البحث المقاومة العنيدة التي أبداها سكان هذه المدينة العتيقة حتى صارت تدعى بحرب الشوارع،ويشتمل البحث على ضمائم وخرائط وصور لكل قسم تؤكد ما جاء في المتن من أحداث عنيفة وحرب مدمرة.
  وقد حاولت أن أحشد الشواهد التاريخية في هذا البحث،وتحليلها واستقرائها واستنباط معانيها من النصوص والوثائق الفرنسية والجزائرية المعاصرة للحدث،لأضع القارئ في الصورة المعاصرة لها».
    في مقدمة الكتاب يتحدث المؤلف عن الجهود التي بذلت لمطالبة الدولة الفرنسية بالإقرار بما اقترفه جيشها وحكومته من تقتيل وتشريد وإبادة،والاعتراف بجرائمه الكثيرة والمتنوعة في الحقبة الممتدة ما بين:5جويلية1830 و5جويلية1962م.
      ويرى الدكتور عبد العزيز فيلالي أن المحاولات التي بذلت من قبل شخصيات وطنية وهيئات مستقلة ومؤسسات رسمية كالبرلمان الذي وضع مشروعاً لقانون يتضمن«تجريم الاستعمار»الفرنسي بحكم احتلاله للجزائر طيلة قرن وثلث قرن من الزمن،لم تجد التعضيد الكافي والعناية الخاصة والآذان الصاغية،وقد ظل(المشروع) حبراً على ورق يراوح مكانه بين أروقة البرلمان وأروقة الحكومة عدة سنوات في حين أن الحكومة الفرنسية لم تتردد في حسم موقفها،وفاجأت الجميع،حيث تم إصدار قانون مضاد يمجد الاستعمار يوم:23فيفري2005م.
   ويؤكد المؤلف على نقطة أساسية وهي«مهما قدمت الحكومة الفرنسية من قوانين،ومهما تباهت بماضيها الاستعماري وبحضارتها،فإن ذلك لا يسقط التهمة الموجهة للاستعمار،لأنها واضحة وثابتة ومؤكدة في تصريحات وتقارير ضباطها ووزرائها وساستها ومثقفيها،مدونة ومنشورة في المؤلفات الفرنسية ومحفوظة في أرشيفات،كل من الحكومة وجيشها،والبرلمان الفرنسي،وكذا عند الجزائريين الذين عاصروا الحدث وعاشوا أهواله.
    إن هذه الوثائق جميعها،شاهد عيان وقرائن دامغة،تفصح عن الجرائم المتنوعة والمتعددة المرتكبة في حق الأمة الجزائرية الآمنة في وطنها،تعرضت للعدوان والظلم والطغيان والتصفية الجسدية بهدف الاستيطان»(ص:10).
       ويقدم المؤلف رؤيته في هذه المسألة فيقول: «إن خوض هذه الحرب الشاملة لعشرات السنوات بعيدة الأثر في نفوس أهل الجزائر،مليئة بالدروس والعبر والعظات،يتطلب من الباحثين والدارسين،إدراكها والتأمل فيها من جديد،وإعادة النظر في دراسة أحداثها،والبحث المعمق في مسيرتها في كل عصر،ولاسيما بعد اكتشاف وثائق ونصوص جديدة،حتى نستفيد من أخطاء الماضي ونتجنبها،ونواجه أخطار الحاضر وتحدياته ونتفاداه،ونرسم خريطة طريق للمستقبل،وبذلك نحافظ على حقوقنا وحريتنا وكياننا واستقلالنا،في هذا العالم المضطرب،ونضمن لأبنائنا الحياة الحرة الكريمة الآمنة».
     ويذهب الدكتور عبد العزيز فيلالي إلى أن البحث في تاريخ الجزائر الحديث والمعاصر والكتابة فيه والغوص في جوانبه المتعددة من الصعوبة بمكان،لافتقاره إلى المصادر الوطنية الأساسية ولاسيما فترة الاستعمار الفرنسي التي دوّنها رعيل من المؤرخين الذين عاصروا فترة الاحتلال،وتعاونوا معه وتفاعلوا مع التوسع والاستيطان وكانوا في خدمته.
  ولم يغفل   الحديث عن الجيل الذي ظهر بعد الفترة الاستعمارية-وهو كما يرى-أقل عنصرية بل منهم من كان موضوعياً في بعض الأحيان،وقد أظهر هذا الجيل بشاعة الاستعمار وجرائمه وأفعاله اللاإنسانية.
     مهد المؤلف للقسم الأول من الكتاب بالحديث عن أسباب الاحتلال ودوافعه،وأشار إلى أن الدولة الفرنسية في الجزائر تأسست على المقومات الصليبية والعنصرية،واستشهد بالكثير من الأقوال التي تؤكد هذا الأمر من بينها قول الجنرال بيجو إلى القسيس بريمو بعد أن يجمع أطفال الجزائر اليتامى: (حاول يا أبي أن تجعلهم مسيحيين،فإذا فعلت ذلك،فلن يعودوا إلى دينهم ولا يطلقوا علينا النار)،وقوله أيضاً عن أهل الجزائر بأنهم حيوانات يشبهون(ابن آوى)،ويجب إحراقهم في الكهوف التي يختبئون فيها،كما يرى ضرورة تدمير الجنسية العربية.
    وتحت عنوان«حرب المحرقة»أورد المؤلف مجموعة من الاعترافات عن الجرائم المرتكبة في تلك الفترة،حيث يعترف الجنرال«كافياك»بجريمة إبادة قبيلة بني صبيح سنة:1844م بالشلف بحيث اختفت هذه القبيلة بكل ما تملك من متاع وحيوان،وفي مغارة خوفاً من بطش العدو،لكن هذا الأخير لم يرحمهم،فجمع لهم الحطب وسد به فوهة المغارة وأضرم النار فيها فمات الجميع خنقاً بالدخان وخنقاً بالنار.
       ويذكر المؤلف أن الوثائق الفرنسية تشير«إلى محرقة أخرى في مغارة الفراشيش بناحية الظهرة في شهر جوان من سنة:1845م،قام بها العقيد(بلسييه)المكلف بمطاردة أولاد رياح،وهي قبيلة لم يتم إخضاعها للسلطة الفرنسية،لأن مواطن تواجدها تشمل على كهوف ومغارات عديدة صعبة المنال،كان عدد أفراد القبيلة يزيد عن ألف نسمة من الرجال والأطفال والنساء مع ما يملكون من قطعان الغنم،وبعد حصارهم داخل المغارة دام يوماً واحداً بعده لم يتوان الكولونيل في إضرام النار في فوهات المغارة،فكانت النتيجة ألف ضحية،حسب ضابط إسباني،كان حاضراً في هذا المشهد بحيث اعدموا جميعاً في هذه المحرقة داخل المغارة.
  وقد نددت بعض الجرائد الفرنسية بهذه العملية،التي أبادت قبيلة بأكملها داخل كهف لجأت للاحتماء به خوفاً من رصاص العدو،لكن وزير الحربية الفرنسي المارشال(سولت)دافع عن العقيد(بلسييه)وعن تصرفاته وقال بأنه لو كان مكانه لفعل أكثر من ذلك.كما دافع عنه الجنرال بيجو وهنأه على ما فعل.فكان المشهد مرعباً،فكل الجثث كانت عارية مستلقية في أوضاع تدل على الآلام الفظيعة التي عانوها،قبل أن يلفظوا أنفاسهم على الرغم من ذلك لم يستسلموا للعدو»(ص:42).
    كما أن(كارنوبير)أعاد الكرة واقترف نفس الجريمة في السنة نفسها(1845)حينما جمع الأهالي ووضعهم في مغارة وأضرم النار فيها،فأتت عليهم النار جميعاً في محرقة بشعة،بحيث وصفها أحد القادة بأن المغارة ظلت مقبرة جماعية مغلقة،وبداخلها ما يزيد عن خمسمائة جثة.
     ولم تمض إلا بضعة أشهر على هذه الجريمة حتى قام(سانت آرنو)بمحرقة أخرى في كهف اختبأ فيه مئات من الأهالي العزل،ويذكر(منتانياك) الجرائم التي ارتكبها في حملته على مدينة معسكر،فيقول: «لا يمكن تصور ما فعلناه بأولئك السكان المساكين لقد حرمناهم مدة أربعة أشهر من كل وسائل العيش،فلم يتمكنوا من حصاد قمحهم وشعيرهم وأخذنا منهم مواشيهم وأفرشتهم وخيامهم ومواعينهم أي أننا أخذنا كل شيء يملكونه»(ص:43).
      يؤكد الدكتور عبد العزيز فيلالي على أن الجيش الفرنسي قد استعمل كل أنواع التعذيب المعروف آنذاك في حق الأسرى لاستنطاقهم وانتزاع المعلومات منهم،ولم يتورع الجنود في التوسع في هذه الوسيلة كعقاب،حيث استعملوا الهراوات والعصي والسيوف والبنادق والسلاسل وقضبان الحديد والتجويع إلى حد الموت وقطع بعض الأعضاء من جسم الأسير كالرؤوس والآذان،وقد قدم المؤلف مثالاً عن التعذيب والتنكيل بما حصل بواحة الزعاطشة حيث أقدم الجيش الفرنسي على إبادة جميع سكان الواحة الذين كبدوا العدو ما يزيد عن 1500 ما بين قتيل وجريح،ولذلك فقد قام الجنرال(هربيون)بالانتقام منهم بمحاصرة الواحة لمدة شهرين وبعدها شرع الجنود في اصطياد الرجال والنساء والأطفال،ووفق ما ذكره(بوديكور)الذي شاهد المعارك التي حصلت في تلك الواحة فقد قام الجنود تحت نشوة الانتصار بمطاردة المساكين الذين لم يتمكنوا من الفرار فرأى أحدهم يقطع ثدي امرأة وهو يمزح بذلك،وهي تتضرع طالبة الرحمة بقتلها إلى أن تموت من شدة التعذيب،وآخر يلتقط طفلاً صغيراً من رجليه ويهرس رأسه على الحائط فيتناثر مخه ،وقد بلغ عدد القتلى من الجزائريين أكثر من 800 شخص خلال المعارك وتم قطع10آلاف نخلة ،وشنق1500 من الجزائريين أمام الملأ.وقد قام بتنصيب مقصلة على باب معسكره،ورفع ثلاثة رؤوس وعلقها مقطوعة وهي رأس الشيخ بوزيان ورأس ابنه ورأس الحاج موسى الدرقاوي،ووفق ما أورده مؤلف الكتاب وأشار إليه بوديكور عن غزو منطقة القبائل فقد« تم فيها تدمير القرى والمداشر تدميراً كاملاً،لم تمنع منهم حتى الأشجار والحيوانات،قطعوا ما يزيد عن18000شجرة من شجر الزيتون،وأحرقوا المنازل وقتلوا النساء والأطفال والشيوخ ونكلوا بجثثهم،وقاموا بأفعال أخرى كما يذكر بورديكور لا يتحملها العقل السليم.بل كان بعض الجنود يستحون من الفضائح التي يرتكبونها.
   وكان(منتانياك)قد أصدر أوامر صارمة لجنوده معاقباً كل من لا يمتثل إليها أو عدم تطبيقها وهي عدم الإتيان بأي عربي على قيد الحياة،ويعني بذلك أنه لا يريد الأسرى.
       وقد اطلع أحد النواب على أمرية عسكرية صدرت سنة:1837م تتضمن طرد الأهالي وتهجيرهم وتعذيبهم ووسائل أخرى لا يمكن النطق بها .فكل طابور من طوابير الجيش الفرنسي يزرع الرعب والدمار بقتل الرجال والنساء والأطفال،وخطف المواشي وتفريغ المخازن وحرق الأشجار.امتدت هذه الانتهاكات والجرائم إلى قبور الموتى القدماء منهم والجدد،وهي رموز أساسية لها حرمتها وقدسيتها الإنسانية والسماوية،فقاموا بتدنيسها فكانت شواهد القبور والأحجار التي بنيت بها مواد استخدموها في بناء المساكن والمطاحن.كما كانوا ينبشونها ويستخرجون منها الجماجم والعظام والبقايا البشرية الأخرى،ويبيعونها لمن يأخذها إلى فرنسا في السفن،يستعملونها في صناعة(الفحم الحيواني)،وهو فحم يحصل عليه بإحراق العظام البشرية في مكان مغلق،يستعمل بعدها في الصناعة لإزالة الألوان عن المواد العضوية،والتقليص من بعض الأكسيدات،كما كانوا يستخدمونه أيضاً في تكرير السكر وصناعته،فعندما اطلع الأمير عبد القادر على ذلك منع استيراد السكر من فرنسا ونهى عن استعماله»(ص:45-46).  
        في ختام هذا القسم أشار الدكتور عبد العزيز فيلالي إلى أن الجيش الفرنسي لم يلتزم بالمعاهدة أو الاتفاقية التي أبرمت بين الداي حسين والمارشال دي بورمون يوم:5 جويلية1830م التي سلم بمقتضاها الداي مدينة الجزائر وما جاورها للقائد الفرنسي،حيث قام الفرنسيون بالاستيلاء على كل ما وجدوه واعتبروه غنيمة حرب وأباحوا المدينة للنهب والاغتصاب،حيث تم الاستيلاء على خزينة الداي وأملاكه،وأملاك الأتراك،وامتدت أيديهم إلى الأوقاف،كما اغتصبوا القصور والدور في المدينة واستولوا على الزوايا والمساجد وحولوا بعضها إلى كنائس وجعلوا البعض الآخر مساكن ومستشفيات لجنودهم،كما هدموا الكثير منها وأخذوا الأبواب والمنابر والقناديل والأفرشة والألواح والزليج إلى منازلهم،إضافة إلى أنهم لم يتورعوا في الاستيلاء على الأراضي المخصصة للمقابر وأضرحة الأولياء الصالحين وأملاك القبائل والعشائر وطردهم منها.
      وقد جاء في تقرير اللجنة الإفريقية لسنة1833م إلى الحكومة الفرنسية الذي أشار إلى الضرر الذي أصاب المجتمع الجزائري من جراء الاحتلال جاء فيه: (لقد حطمنا ممتلكات المؤسسات الدينية،وجردنا السكان الذين وعدناهم باحترام الحريات الأساسية وعدم المساس بها والحفاظ على المقدسات،فأخذنا الممتلكات الخاصة والعامة بدون تعويض وذبحنا أناساً كانوا يحملون عهد الأمان وحاكمنا رجالاً يتمتعون بسمعة القديسين-الفقهاء-في بلادهم،كانوا شجعاناً لدرجة أنهم صارحونا بحالة مواطنيهم المنكوبين).
      أورد الدكتور عبد العزيز فيلالي الكثير من الشهادات التي تؤكد الجرائم الفظيعة المرتكبة،حيث صرح أحد النواب الفرنسيين بأن مدينة وهران كانت جميلة متماسكة تشتمل على بنايات وقصور كبيرة،فلما دخلها الجيش الفرنسي أصبحت خراباً بسبب الأعمال الوحشية التي فاقت خراب الزلزال الذي أصابها عقب جلاء الإسبان منها،وأشار إلى أن الجيش الفرنسي أحرق مئات الآلاف من أشجار الزيتون وغيرها في المنطقة.
    وقد ندد أحد النواب بانتهاك حقوق الإنسان في الجزائر وتهديم أكثر من ستين60 مسجداً جامعاً وتخريب نحو10 عشرة مساجد أخرى وتدمير ما يزيد عن تسعين منزلاً في الجزائر العاصمة من غير إعلام أهلها أو مخابرتهم ومن غير دفع التعويض لهم.
    كما يذهب أحد الكتاب إلى أنه لم يبق من 166 صرح ديني وثقافي في مدينة الجزائر إلا نحو واحد وعشرين21فقط في يد الجزائريين أي اغتصب منهم نحو145 صرحاً دينياً وثقافياً.
      جاء في ختام هذا القسم قول الدكتور عبد العزيز فيلالي معبراً عن وحشية الاستعمار الفرنسي وجرائمه الفظيعة: (إن انتهاك الحرمات والاعتداء على الممتلكات ونهب الأراضي تورطت فيه الدولة الفرنسية ودخلت في لعبة التشريع،وتطويع القوانين لاستخدامه كالسلاح في نهب الأراضي الجزائرية رغم تعهدها باحترام ممتلكات الأهالي فأعلنت عن تكوين قطاع أملاك الدولة،ضمت إليها أراضي الحكام من الدايات والباشوات والبايات والكراغلة،ثم امتد بصرها إلى أراضي الحبوس وأراضي الخواص من الأهالي بعد طردهم وتهجيرهم فاستولت في ظرف قصير على ما يزيد عن خمسة ملايين هكتار من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة،فضلاً عن الغابات والعقارات الأخرى،خاصة بعد ظهور الانتفاضات والثورات من حين لآخر،كما فعل الرومان مع أهل هذه الديار في العهد القديم،لأن هذه الثورات لم تقف ولم تستكن،فكانت تصادر أملاك الثوار والقبائل والمداشر ومن تعاون معهم.فقد شردت وقتلت ونفت مئات الآلاف من الأهالي إلى جزر كا ليدونيا وكايين والماركيز وغيرها من الجزائريين الذين لم يتوقفوا عن الانتفاضات،فخلال السبعين سنة الأولى من الاحتلال قامت ما يقرب من ثلاثين انتفاضة ضد الاحتلال في مناطق عديدة من الوطن،ويعني هذا أنه كانت تقوم ثورة خلال كل سنتين ونصف تقريباً قابلتها الدولة الفرنسية بكل وحشية وعنف.لقد جندت فرنسا كل وسائلها لاحتلال الجزائر والاحتفاظ بها وعينت على رأس جيوشها قادة لهم خبرة وباع طويل في ميدان الحرب،اعتمدوا في هذه الحرب إستراتيجية حربية شاملة في تعاملهم مع الأهالي والمقاومين...
   هذا شيء قليل من شيء كثير اقترفه الجيش الفرنسي خلال الاحتلال لبلادنا في المراحل الأولى،لم تقم فرنسا بمجرد الاعتراف بجرائمها أو الاعتذار على ما اقترفته من تقتيل وتشريد وتخريب وإبادة جماعية.وهو عكس ما حدث في ألمانيا تجاه إسرائيل وبولندة وما فعلته الولايات المتحدة مؤخراً مع الشيلي،عندما اعتذرت رسمياً للشعب الشيلي عما اقترفه بنوشي من جرائم،وهي كانت تؤيده وتدعمه وشتان بين جرائم بنوشي وجرائم الجيش الفرنسي.هذه صورة قليلة وعينة فقط لما جرى من جراء الاحتلال الفرنسي للجزائر وأهلها ومدنها خلال العشرين سنة الأولى منه،نطق بها قادة العدو والساسة والكتاب والبرلمانيون الفرنسيون بدون خجل من حكم التاريخ والقانون أو حياء من الرأي العام الدولي.
   فقد كان أسلوبهم أكثر وحشية من التتار والوندال والجرمان في العصور الوسطى،لأن هذه العناصر الأخيرة-التتار والوندال-لم تعمل على إبادة السكان من خصومها،وإنما كانت تعمل على استرقاقهم وبيعهم في مراكز العبيد،بينما الجيش الفرنسي كان يبيد الأهالي وحتى الجرحى منهم عن بكرة أبيهم.
      وعندما احتجت بعض الحكومات الأوروبية على هذه الأعمال اللا إنسانية للجيش الفرنسي في الجزائر،أجاب رئيس الحكومة الفرنسي آنذاك قائلاً:إن هذه الأعمال تكون وحشية لو كانت الحرب في أوروبا أما في إفريقيا فهذه الحرب بعينها. فقد أثرت هذه الإبادة على تعداد السكان وعلى استقرارهم،بحيث نقص تعدادهم خلال العشرين سنة الأولى من الاحتلال من جراء القتل والتشريد والتهجير والأمراض الوبائية ومن قلة التغذية التي سببتها الحروب ووحشيتها... ).
       وفيما يتصل بالاحتلال الفرنسي لمدينة قسنطينة ،فقد خصص له المؤلف القسم الثاني من الكتاب،وتحدث عن الملحمة الأولى والملحمة الثانية،وأشار إلى ما عاشته المدينة من ويلات بعد احتلالها،حيث بدأت عمليات النهب والاغتصاب بعد سقوطها،وهذا ما ذكره الدكتور سديو الذي قال:(كان الفرنسيون ينهبون متاع الناس ويسلبونهم من غير تمييز بين الشيوخ المسنين أو الأطفال.وعندما يستولون على أحد المنازل فإنه يدمغون بابه بجواز مرور ثم يحكمون غلقه من الداخل ويختبئون داخل المنزل،ويكسرون أقفال الصناديق،ولا يتركون متاعاً إلا ويفتشونه ثم يشرعون بهدوء تام في حمل ما يروق لهم،وقد وصل بهم الأمر إلى حمل هذه الأشياء والأمتعة وأقاموا بها نوعاً من الأسواق الخاصة يبيعون فيها هذه الأسلاب ويتبادلون  بعضها،وقد تبين فيما بعد أن أوفر الغنائم والأساليب وأغلاها ثمناً كانت من نصيب قيادة الجيش وضباط الأركان.فقد استولى الجنود على كل شيء،بحيث سكن الضباط في المنازل الفخمة وأقام الجنود في بقية الدور والبيوت).
          ومن بين الشهادات التي أشارت إلى مقاومة السكان لبطش وجرائم الجيش الفرنسي قول سانت آرنو: (لقد نلت شرف المساهمة في الهجوم على قسنطينة،ولكن لا مناص من التنويه بالمقاومة التي أبداها أهل المدينة،ولا يمكن تصور ما أصابنا إنه أسوأ ما في الدنيا من أهوال  ومن مشاهد مروعة،وهذا هو رأي محاربي الجيش الإمبراطوري القدماء أن المقاومة الشرسة التي واجهتنا تستحق التنويه).
     كما أعجب فالي بصمود قسنطينة وبقائدهم ابن عيسى قائلاً:(أظهر مهارة وشجاعة نادرتين في دفاعه عن مدينة قسنطينة).ووصفه بأنه رجل يتمتع بتفوق حقيقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق