الصفحات

2016/03/01

أحمد طوسون يكتب: مآلات القهر في مجموعة عويس معوض "للحلم منحنيات"



مآلات القهر في مجموعة عويس معوض "للحلم منحنيات"
بقلم: أحمد طوسون
يمكن الولوج لعوالم عويس معوض القصصية في مجموعته "للحلم منحنيات"[1] عبر عتبتي العنوان والإهداء الذي صدره إلى زوجته وأولاده (علهم يدركون حجم معاناتي). أو عبر عناوين نصوص المجموعة (عن التلاشي والولادة، انتظار، ثلاثة محاور للزمن، ورقة من حياة عايش، متى؟، إسرائيل وحشة، الهمس في الزمن الصاخب، هوس، امرأة، هزيمة، عروسة لرنا، الحدث، الهروب إلى الداخل، الغريب، الخروج من الدائرة، ساعة الوصول، طرح الصيص).
فالعنوان كما يشير جيرار جينت في كتابه "عتبات" في مقدمة فضاء النص المحيط، وإلى جانبه كل من العناوين الفرعية والداخلية للفصول والمقدمة، بالإضافة إلى الملاحظات التي يمكن للكاتب أن يشير إليها، وكل ما يتعلق بالمظهر الخارجي للكتاب، كالصورة المصاحبة للغلاف، يرسم انطباعاً أولياً عن النص، سرعان ما يتوسع أو يتقلص مع القراءة.[2]
فالمنحنى بمعنى المنعطف كما ورد بمعجم المعاني، والعنوان الذي اختاره الكاتب لمجموعته "للحلم منحنيات"، يشير إلى مآلات مختلفة لمصير أحلام أبطال نصوصه، فأحلام السارد في قصص المجموعة تؤول إلى منعطفات أخرى غير سبيلها الأول وعلى عكس رغبات وأحلام أبطال عويس معوض الفقراء والمهمشين والمعذبين، فالقهر والهزيمة وضياع الأحلام على بساطتها تيمات أساسية لأغلب أبطال نصوص المجموعة ومآل لأحلامهم التي سرعان ما تتبدل إلى كوابيس ووحوش تقتحمهم وتقتحم حياتهم.. كما انتهى إليه مصير أبطاله في قصة "الهروب إلى الداخل"[3].. (مضت أيام وأيام ثم استيقظ الناس فزعين من كثرة الوحوش الغريبة التي بدأت تقتحم أبواب البيوت)[4]. فالبلدة التي تمثل الحلم الجمعي لأفرادها في مواجهة وحش ظهر بمقابرها (قال البعض "سلعوة"، وسماها البعض "ذئبا"، وقال آخرون "وحش" لا يعرف له وصف.)[5].. الوحش الذي شكل خطرا على البلدة وهاجم أفرادها فاجتمعت للبحث عن حل، وبدلا من المواجهة والاشتباك مع الوحش والخروج عليه للتخلص منه ينغمس أفراد الجماعة في نزواتهم.. (انحشرت امرأة لعوب بين الجميع، وطرقعت اللادن فتبعها شاب والتصق بها)[6]، أو الاهتمام بالنفس والانغماس في القضايا الشخصية عن القضايا المجتمعية، (أحد الرجال يؤكد على رابطة عنقه، وضع آخر يده على جيبه خوفا على محفظته، لملمت إحدى الأمهات أولادها)[7]. وفي النهاية يرفضون الاقتراح بالخروج على الوحش والاكتفاء بالهروب إلى الداخل والاحتماء ببيوتهم وبناء سلك شائك حول المقابر يمنع الوحش من الوصول إليهم، فتكون النتيجة أن يؤول حلمهم إلى كابوس يتمثل في امتلاء البلدة بالوحوش التي تهاجمهم في بيوتهم.
ولا يخفى ما في القصة من دلالات تنعكس على رحاب أوسع لرؤية الكاتب الأيدلوجية في مواجهة توحش السلطة ودور المجتمعات في مواجهتها.
هذه الرؤية والموقف الأيدلوجي يتأكد في قصة "انتظار"[8] فبطل القصة الذي يكتفي بانتظار حبيبته دون أي فعل آخر ايجابي منه يتجمد مع الوقت، بعد أن يتجاوزه الزمن، ويصبح أشبه بصندوق القمامة الذي يلقي عليه الآخرون قمامتهم دون أن يتخذ موقفا مقاوما.. وحتى عندما يتحرك من مكانه بعد طول الانتظار يرفض الجميع تحركه لأنه أصبح غريبا على مجتمعه.. فالمقاومة تحتاج تدريبا مستمرا وإلا سيكون مآلها الرفض.. (بعد طول انتظار نفض أوساخه وقام، فزع الناس، تغير مسار المرور، كان منظره مخيفا، أظافره استطالت ، ولحيته، نعاله التي تآكلت، فر الجميع من أمامه وقامت الدنيا)[9]
وفي النهاية يعود إلى حالة الجمود والثبات القاتل ليصبح مستودعا لقمامة المجتمع.. (تركوه في مكانه، أهيلت عليه القمامة كما كان)[10]
وفي قصة "هزيمة"[11] _واحدة من أفضل قصص المجموعة_ تحتفظ البنت بأحلامها الصغيرة والتي تتمثل في قصيدة حب في كتاب بحقيبتها، تتمنى أن ينشدها أحدهم كلماتها ذات يوم، قصاصة لصورة من مجلة لشاب يقبل فتاة، حلم لا يحتاج إلى معجزات لتحقيقه، خاصة مع جمال جسدها، لكن فقرها يمنع العيون عن ملاحظة جمالها.. (لم يلفت العيون نفور صدرها وجسدها المتوهج، الذي تلفه ثيابها الرثة..)[12]
تهرب البنت من واقعها وتصحب حلمها في حقيبة يدها بعيدا عن حيها الفقير الذي تسكنه إلى حديقة عامة لتعيش لحظات موهومة مع حلمها أو مع ذكرى جميلة مرت بأيامها كعملة ورقية صغيرة مكافأة من مدرسها عليها كلمة شكر لإجابتها عن سؤال بعد أن هدهد على كتفيها.. (هي المرة الأولى والأخيرة التي يهدهد أحد عليها)[13]، ورغم احتياجها لها إلا أنها تحتفظ بها.
فحلم الفتاة كان مجرد قصيدة حب يلقيها أحدهم على إذنيها، قبلة بريئة مع محبوب لا وجود له، إشادة تشجيع وحنو أبوي لم تراه إلا في ذكراها الوحيدة مع مدرسها.. أشياء بسيطة ربما لا ترقى إلى درجة الحلم، لكن القهر الذي يمثله الفقر يحرمها حتى من احتفاظها بحلمها الصغير، فيختطف أحدهم حقيبتها/ حلمها في رحلة عودتها.. (في إحدى رحلات العودة، مر ولد بدراجة بخارية في غمضة عين خطف الحقيبة)[14].
لحظة انعطاف الحلم إلى مآل آخر.. (انهارت مغشيا عليها، تجمع حولها أولاد الحلال، وأحضروا لها كرسيا وماء ورشوه على وجهها وهي لا تكف عن النحيب: سرقوا كل ما أملك.. سرقوا كل ما أملك)[15]
هذا التحول الفجائي الذي حول حلمها الروحي في الاحتياج إلى الحب والعطف، عندما يجمع لها الناس النقود لمساعدتها في محنتها الواقعية/ كما فهموا، أو الدلالية/كما في النص.. يقودها ويعرج بها بعيدا عن مسار حلمها إلى منحنى آخر حيث تستغل جسدها لإشباع رغباته المادية ومساعدتها في مواجهة قسوة الحياة ولو على حساب هزيمتها أمام حلمها البريء.
(في الصباح الجديد كان وجهها مشرقا.. ثياب جديدة أبرزت مفاتنها فتابعتها العيون، ونهشت ذلك الجسد، تابعتها كلمات الغزل التي أطربتها وغمزات العيون.... كانت ترد على غزل الرجال بضحكة غمازة، وعين تندب فيها رصاصة... وقررت أن تشتري أحلاما وذكريات واقعية.)[16]
إن التحول الذي شهده المجتمع والذي جسدته قصة "ثلاثة محاور للزمن"[17] والتي يرصد فيها الكاتب التحول من خلال الذائقة الغنائية لأبطال قصته، من (عدى النهار، وبلدنا على الترعة بتغسل شعرها)[18] ، في مرحلة الحلم الذي صاحب ثورة يوليو وأحلام العروبة التي صاحبتها، إلى ذائقة (رفضك يازماني)[19] بعد ضياع الحلم الناصري، والانتقال إلى مرحلة الانفتاح الاقتصادي، انتهاءً بذائقة (أوم بالليل لأ أوم بالصبح..)[20] والتي انتهت بإلغاء العقل وصاروا أجسادا بلا رؤوس.. تلك الثقافة التي يرعاها الشخص الرابع أحد مسببات القهر والفقر والمعاناة والعقم الذي يعيشه أبطال عويس معوض.. العقم الذي لا يجدوا سبيلا لعلاجه إلا بالرجوع لآدم أبي البشر في قصة (عن التلاشي والولادة)[21] بحثا عن المولود المنقذ.. (ولما رأيت الناس مزمجرين وأجمعوا على الذهاب لآدم لينجب لهم طفلا لهذه القرية العاقر أهلها)[22]
هذا الطفل لا يأتي من أصلاب كسرها القهر والفقر وأذلها العجز.. (- يا أيها الذين بلغوا من الكبر عتيا.. أنا أبشركم بغلامكم المأمول، اذهبوا إلى الشرق فأنتم واجدوه)[23].
وعندما يجدوه يكتشفوا أن آيته الحجر/المقاومة.. لقد عقمت قريتهم بفعل الخنوع والقهر، ولم يعودوا قادرين حتى على مواجهة الحلم الذي يحمل المعجزة معه فيكون مصيرهم الفناء بمجرد مشاهدتهم لمعجزة طفل المقاومة التي فضحت عجزهم.. (ولما كان لكل رسول معجزة فكانت معجزة الطفل أن يحمل في يده حجرا. تذكرنا عقمنا، فنكسنا رؤوسنا وانكمشنا حتى ابتلعتنا الأرض.)[24]
قصص المجموعة قصيرة الطول لا تتجاوز كلمات أغلب نصوصها 500 كلمة وبعضها يمكن تصنيفه ضمن ما يعرف بالقصص القصيرة جدا كقصة"هوس"[25] ، وتبدو نظرة الكاتب للمرأة تقليدية تدور ما بين فكرتي الغواية والخيانة، فهي في قصة "طرح الصيص"[26] تعيد إنتاج صورة المرأة في فيلم شباب امرأة الذي أخرجه صلاح أبوسيف عام 1956 حيث امرأة العاصمة التي تستغل سذاجة القروي القادم إلى المدينة لإشباع رغبتها الجنسية، أو كما صورها في قصة "امرأة"[27] المرأة التي تتخلى عنه لأجل المال(أسفة: اتقدملي عريس من الخليج وبابا وافق ومليش أي عذر)[28]، أو التي عاشرها بجسده فخانته (لكنها عشقت جسدها أكثر فخانته)[29]، أو الزوجة الثرثارة كثيرة الطلبات والعويل (زوجة لا تعرف سوى العويل والصوت العالي)[30].
أما الحبيبة عند عويس معوض فأحد أهم مرادفاتها الوطن، كما صرح بذلك صراحة في قصة "هوس"، وهي وحدها باستطاعتها أن تشيع الخضار في الحياة.. (لحبيبتي ثلاثة وجوه ولي وجه واحد.. لها: وجه الحبيبة، والأم، والوطن. ولي وجه العاشق لكل هذه الوجوه)[31].




[1] للحلم منحنيات مجموعة قصصية لعويس معوض الطبعة الأولى 2008 دار أكتب للنشر والتوزيع بالقاهرة
[2] انظر، حليفي، شعيب: النص الموازي للرواية " إستراتيجية العنوان، الكرمل، بيسان للصحافة والنشر، قبرص، عدد 46، 1992، ص82.
[3] للحلم منحنيات ص73
[4] المصدر السابق ص77

[5] المصدر السابق ص75

[6] المصدر السابق ص75

[7] المصدر السابق ص76

[8] المصدر السابق ص15

[9] المصدر السابق ص18

[10] المصدر السابق ص19

[11] المصدر السابق ص57

[12] المصدر السابق ص59

[13] المصدر السابق ص60

[14] المصدر السابق ص61

[15] المصدر السابق ص61
[16] المصدر السابق ص61
[17] المصدر السابق ص23
[18] المصدر السابق ص23
[19] المصدر السابق ص23
[20] المصدر السابق ص24
[21] المصدر السابق ص7
[22] المصدر السابق ص9
[23] المصدر السابق ص13
[24] المصدر السابق ص13
[25] المصدر السابق ص47
[26] المصدر السابق ص95
[27] المصدر السابق ص51
[28] المصدر السابق ص54
[29] المصدر السابق ص54
[30] المصدر السابق ص53
[31] المصدر السابق ص50

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق