الصفحات

2016/03/05

الأدبُ التَّفاعليّ ودَوره في خِدمَة القضَايا العَربيّة بقلم: د . محمد مبارك البنداري



الأدبُ التَّفاعليّ ودَوره في خِدمَة القضَايا العَربيّة
بقلم: د . محمد مبارك البنداري
أستاذ مساعد في جامعتي الأزهر وأم القرى

       نُطلق على الأدب الإلكتروني " الأدب التفاعلي "  ترجمة لـــ Interactive   Literature ؛  لأنَّه في الحقيقة تبيان لحالة التَّوصيل ، أو وصف لأداة التَّوصيل وليس صفة للمادة المحمولة ؛ لذا نجد البعض يسمّ هذه الحالة بـــ " بالحالة التّفاعلية لنقل النص الأدبي  " ، أو " النّص المفعّل " وليس " النّص التَّفاعلي "  .
وعرفه الناقد / " سعيد يقطين بأنَّه" : مجمُوع الإبداعات ( والأدب من أبرزها) التي تولَّدت مع توظيفِ الحاسُوب، ولم تكن موجُودة قبل ذلك، أو تطوَّرت من أشكالٍ قديمةٍ، ولكنَّها اتَّخذت مع الحاسُوب صُورًا جديدة في الإنتاجِ والتلقّي .
             إذن فالأدب التفاعلي بيان للعلاقة القائمة بين الأدب والتكنولوجيا  ،وهو جنس جديد في الإبداع الأدبي، يتمثل في مجموعة جديدة من الأشكال الأدبية، مثل الرواية الترابطية ،  والمسرح الترابطي ، والشعر الإلكتروني...  وتخضع هذه الأشكال في بنائها لمفهوم جديد من مفاهيم النصوص، وهو مفهوم النص المترابط، وهو مفهوم وضعه تيودور ه.نيلسون في العام 1960م ، ليشير إلى شكل للنص الإلكتروني، وتكنولوجيا المعلومات الجديدة بشكل جذري، وأسلوب النشر.
وانطلاقًا من هذا المفهوم يعد الأدب التفاعليّ أدباً إلكترونيًّا، يعتمد على النشر الإلكتروني، وعلى تكنولوجيا المعلومات المعاصرة بكل ما تتيحه من إمكانات الاتصال المتعددة: الصورة، والصوت، والحركة والكلمة المكتوبة .
 ويبدو أن المستقبل لأدباء الإنترنت ؛ لأن هناك ثمّت ارتباط عِليّ بين الأدب التفاعلي وتكنولوجيا الاتصال المعاصرة، هذا الارتباط يضعنا في قلب الاتصال المعاصر تقنية ونظرية، ويربط تاريخ هذا الجنس الأدبي الجديد بتاريخ تكنولوجيا الاتصال ؛ فالأدب التفاعلي لم يكن ليظهر لولا التطورات التي شهدتها وسائط الاتصال، وخاصة الحاسوب الإلكتروني في الفترة الأخيرة .
 وغالبًا ما يتضمن الكلام عن هذا الجنس الأدبي الجديد الإشارة الى رواية/ ميشيل جويس “قصة الظهيرة” التي ظهرت في العام 1986م،بوصفها أول رواية تفاعلية، ويعنينا تاريخ ظهورها لكونها مفتتح الأدب التفاعلي، ففي حقبة الثمانينيات حدث التَّحول العظيم في صناعة الحاسُوب " الكمبيوتر "الشَّخصي الذي يرتبط به ظهور الأدب التَّفاعلي .

            وجديرٌ بنا أن ننوّه بأنَّ القِسط المنقول من الأدبِ بالوسيلةِ الإلكترونيّة أو الرقميّة Digital لا يزال هو الأيسر كمًّا وأقلّ تمثُّلًا ؛ لأنّ علاقة الكتابة العربيّة بتقنية المعلومات ما زالتْ تسير سيرًا وئيدًا في عالمنا العربيّ ، بل ربما تبدو متعثرة في بعض الأحيانِ ،ممّا يوجبُ التّمييز بين هذا النصّ الأدبيّ المثريّ  بالوسائطيات الإلكترونيّة وبين فنّ " الخيال العلميّ الأدبٍيّ Science-Fiction الذى يتَّخذ من الإنجازاتِ العلميَّةِ المستقبليَّة موضُوعًا له  .
                         ولعلّ أهم مزيّة للأدبِ الإلكترونيّ " المزج بين الواقعيّ والافتراضي / الرَّقميّ "، وبالتالي نرى أنّ الأدبَ خلق خصائص شخُوصه ، وعوالمهم ... وربمَا كان أكثر تأثيرًا وإبرازًا للمعنوياتِ كالمشاعرِ والإيهامات من الأدبِ الورقيّ، فأزال الحواجز الأدائيّة ، وفضْل اللغةِ المسموعةِ على المكتوبةِ أصبح كالعدم ، بفضل الصّورةِ والعناصرِ المسمُوعة المصَاحبة للكلمةِ غالبًا .
 وقد أخرجت الأكاديمية  د . فاطمة عبدالرحمن البريكي كتابها الماتع " المدخل إلى الأدب التفاعلي " عام 2006م ، وقدم له الناقد د . عبدالله الغذامي ([1])، وحاولت الباحثة التنظير بين الأدب التفاعلي / الإلكتروني ، والورقي ، وأشكال الأدب التفاعلي ، وأشهر المواقع الإلكترونية الأدبية ، وقد حازت قصب السبق في إبراز بعض المصطلحات الأدبية والنقدية ، وفتحت بابا من البحث الأكاديمي يعد توطئة للباحثين لترك النمط التقليدي ودخولهم  في عالم المتغيّرات والمتحولات .
           ولا يُمكن لهذا النَّوع من الكتابةِ الأدبيَّةِ ( الأدب التفاعلي ) أنْ يأتيَ لمتلقيهِ إلا عبر الوسيط الإلكترونيّ ، أي من خلال الشَّاشة الزَّرقاء – كما يقولون – ويكتسب هذا النوع من الكتابةِ صفة التَّفاعليّة بناء على المساحة التي يمنحها المتلقّي، والتي يَجب أن تعادل ، ورُبمَا تَزيد عن مساحةِ المُبدع الأصلِيّ للنَّصّ ، ممّا يَعنى قُدرة المُتلقّي على التّفاعل مع النّصّ بأيِّ صُورةٍ من صُورِ التّفاعل المُمكِنة .
            وليسَ بِدعًا حريّة التّعبير بأنواعِ الأدَب المختلِفة ، خاصة بعد ما يسمى بالربيع العربيّ عبر المدوّنات ، المنتديات ، وتويتر ، وفيس بوك ... ، لكننا نأمل أن تضبط بضوابط حريّة الإبداع ، ولا غرو أن يدخل العرب هذا العالم الافتراضي ببضاعتهم " الأدبية " ، فقد سبق ذلك منذ عصور مبكرة حرية الإبداع والنقد في أسواق عكاظ وذي المجنة والمجاز   ، بل كانت أرسخ منهجيّة في النَّقد ، كما فعل النّابغة الذُّبيانيّ في حكمه على الخنساءِ بأنّها أشعر من حسان بن ثابت في المحاكمة المشهورة  .
           إذن ديمقراطية الثَّقافة وحرية التعبير في منتديات الإنترنت سبقتها في الثَّقافة العربية، منذُ عصُورها المبكِّرة حريَّة المنتدياتِ في أسواقِ عُكاظ وذي المجنّة والمجاز ،والجِسر التي كانت أوضح معالم في الإبداع وأرسخ منهجيَّة في النَّقد واحترامِ حقوق الآخر ، وما أندية اليوم الإلكترونيّة في الفضاءِ العربيّ إلا أسواق فكريَّة وأدبيَّة غضّة العُــــود ، تستمد تجربتها الفكريّة الشَّابة ,في ممارَسة حريَّتها وسلوكيَاتها , بشكلٍ عامٍ من قيِم التُّراثِ العربيّ , في عصرٍ أصبحَت المعرفة المكتَسبة بالوسائطِ التّكنولوجيّة  تُشكّل فيهِ محورًا للإبداعِ الإنسانيِّ .
          وقدْ أدّي لقاء الأدبِ بالتُّكنُولوجيَا المعلُوماتيّة إلي إِنتاجِ عِدَّة مَفاهيم مَزجيّة أو ترَكيبيّة ، مثل مفهُوم  "أدب النَّصّ المترابط "أو "النَّصّ الأعلى"، أو "النَّصّ الفائق"، أو "الأدب الإلكترونيّ "، أو "الأدبِ الشَّبكيّ "، أو "الأَدب الرقميّ ".
              أو "واقعيّة رقميّة " ، وقد  وصف  محمد السناجلة  روايته الإلكترونية "ظلال الواحد" سنة 2001م ,  بأدب الواقعية الرقمية " وجنسها علي أنَّها رقميّة أولًا, ثم واقعية ثانيًا , وكلّها مفاهيم ترادف مفهومElectronic literature،  وهو صيغة فنيَّة متشبّعة فسيحة الجوانب تَضمُّ النَّصَّ المكتوب وملحقاته التَّأثيريَّة ، لإحاطتهِ بمظهرٍ تركيبيٍّ يقومُ علي مبدإِ الرَّوابط النَّاشئة Links التي تسمح بالتنقّل والانتقاء في ثنايا المظهر الجديد ، ممّا أدَّي بالكثير إلي تسميته بالأدبِ التفاعليّ .
               ولعل النَّوع التَّجديديّ وهو ما اصطلح علي تسميته بـ "الأدبِ التفاعليّ" يعتمد علي الحالة التفاعليّة القائمة بين العناصر ِالثَّلاثة الرَّئيسة المكتُوبة للعمليّة الإبداعيَّة
 (المُبدِع  ___________النَّصّ _____________ المتلقيّ)
والتي تترك لمتلقّي النّصّ مساحة لا تقلّ عن مساحةِ مُبدعه ليُسْهِم بشكلٍ مُباشِرٍ من خلالها في بناءِ معني النَّصّ الذي لا يكون نهائيًّا ولا مُكتملًا إنّما في حالةِ حركةٍ وتجدّد وإنْماء دَائمَة .
        وفي هذا النَّوع من أنواع النّصوصِ الجديدة، يُمكن الإشارة إلي عددٍ من الخصائِص التي تميّز بها ، ويُمكننا رَصدها ، ومنها :
- أنَّه يُعد آخر ما وصَلت إليه العلاقة بين الإبداعِ الأدبيّ والوسيط التّكنولوجيّ .
- فرضُ الوسيط التّكنولوجيّ (لتعدد إمكانياته) العديد من السّبل المتاحة لصياغةٍ جديدةٍ للأفكارِ (مزيج بين الكلمة وعناصر أُخري) .
- التَّرميز ، وهو استعمال الُّلغة بأسلوبٍ رمزيٍّ ، وقد يَكون نوعًا منَ الاختزالِ المتعارفِ عالميّا ، ونلحظ دائمًا اختيار رموز بسيطة تُساعد القارئ على حلّ مفاتيحها ، فدائمًا نرى على مواقع التواصل الاجتماعيّ عقب قصة قصيرة جدًّا ( ق . ق . ج ) .
            إنّ الأديب في المُبدَعِ الرقميّ لم يَعد مُبدعًا خالصًا ( كقاصٍّ أو روائيٍّ أو شاعرٍ أو ناقدٍ فقط) ، بمعني يجبُ أنْ تتوفر فيه مواهب أُخري كتقنيات الإخراج ،  وكذلك مَهارة الأدوات التّقنية ، وبالطّبع هذا أفضل ، ونَجدُ جيل الشَّباب يتقنُ هذه المهارات ، بخلاف الشيوخ من الشّعراء والنقَّاد فى عالمنا المعاصر .
وبالطبع يرى الشيوخ حسنًا في البعد عن التكنولوجيا ، في حين يرى الشباب حسن الحضارة في استخدامها ، فكما قال المتنبي في القرن الرابع الهجري عن حضارة عصره ، وما جلبته من أشكال التصنّع في بيتيه المشهورين  :
حسن الحضارة مجلوب بتطرية ... وفى البداوة حسن غير مجلوب
أفدى ظباء فلاة ما عرفن بها .... مضع الكلام ولا صبغ الحواجب
وبالطبع ليس من هدفنا  أن نقرر ما إذا كان المتنبي محقًّا في نقده هذا لعصره أم متجنيًا حينما آثر جمال البداوة أي الجمال الطبعي على الجمال الحضري ،أي الجمال الذى هو أثر لصنعة الإنسان تعبيرًا عن مزاج شخصيّ لا يطرد عند غيره ؛ بيد أن الذى يعنينا من هذا الشاهد القديم والذى صدر من شاعر ولم يصدر من ناقد  قضية النقد والتكنولوجيا ، وكأنه يقول إننا كشعراء نرتضى هذا الجمال ، وربما نجد معالجة لقضية الأدب عمومًا والتكنولوجيا في قضية الفرق بين الجمال الطبعي والجمال المصنوع التي عالجها أفلاطون في بعض محاوراته ، وبخاصة في محاورة المائدة ، وعاد أبو حيّان التوحيدي في القرن الرابع الهجري نفسه فعالجها في مقابساته .   
وبالطبع لا تشغلنا هذه القضية كثيرًا ؛ فإن التفكير الجماليّ كان قد انتهى حينذاك إلى أن الجمال الذى يتداخل الإنسان في صنعه يكتسب – عن هذا الطريق – قمة أعلى من أي جمال يتحقق تلقائيًّا في الطبيعة ؛ أنه جمال الصَّنعة الإنسانيّة ، أو الجمال الفنيّ .
          ويبدو أنَّ واقع الأدبِ في العالم العربي ،- مشرقه ومغربه رغم تفوق المغاربة في هذا النوع الأدبي الجديد -  يشير إلي أن الإبداع الأدبي يعاني من حالة إعراض شبه عامّة من قبل الجمهور المتلقي ، رغم أن بعض الشباب يقضي ساعات طويلة أمام الشاشة الزرقاء بهدف التسلية والمتعة ،   وذلك نتيجة لعوامل عدّة، لعل أهمّها توافر الكثير من الملهيات الأُخرى الحديثة الأكثر جاذبيّة للناسِ علي اختلافِ ميُولهم وأهوائِهم ، - خاصَّة الشَّباب - ،  وانشغالهم بأمور الحياة اليوميَّة المتعلِّقة بالتُّكنولوجيَا والعصر ،  بالإضافةِ إلى عدمِ توافرِ الوقتِ الكافي للاطلاع علي المنتج الأدبي الذي لم يعدْ متواكبًا – في نظر الكثيرين – مع العصرِ , والذي لا يزال يتوسَّل الطُّرق التّقليديّة في الوصول إلي جمهورهِ العريض ، من المثقَّفين وغيرهم ولا بدّ من طريقة أخري نجذب بها الشباب نحو القراءة ، والإبداع الأدبي .

وليس بِدعًا أن يدرك الكثير من المبدعين هذا الأمر  ، ويشعرُوا بالحجمِ الحقيقيّ للفجوةِ الحاصلة بينهم والمتلقّي العربيّ ، ورأَوا أنَّهم يتحدَّثون في وادٍ – كما يقال - والمُتلقِّي في وادٍ آخر ؛ ولذلكَ أصرَّ بعضُ المبدعين الشَّباب على  اللُّجوء إلي طرقٍ أُخرى  من شأنِها  تَقليص هذهِ الفجْوة , ومَدّ جسُور التَّواصُلِ مجدّدًا بينهُم وبينَ المتلقّي , وبالطَّبع  هذا الأمر  يَحتَاج إلي تَوافر الكثير من عناصِر الجَذب والسّمات الفنيّة في النَّصّ الأدبيّ كي يُقبل عليه المتلقّي , فأصبحَ لزامًا عليهم  توظيف التُّكنولوجيا الحديثة لإظهار الإبداع الفنيّ ، وهى أفضل طريقة لجذب  المتلقّي المعاصر, خاصَّة وأنَّه شديد الألفة بها .
ونحن المثقفين العرب يجب ألا يغيب عن بالنا أنّ  هذه الوسائل الحديثة تعدّ نوعًا من الحروب الثقافيّة ، وأن علم الجينات الحديث صار مجالُا لبحث سبل الدمار ،  هناك إذن حرب ثقافية نسقية تتجه دومًا صوب استغلال المكتشف الحديث وتحويله من اختراع سلميّ يخدم التقدم البشريّ ويوحّد الإنسانية إلى أداة تساعد جنرالات الموت وشياطين الحروب .
لذا كان لزامًا علينا وحتمًا مقضيًّا  أن نستخدم هذا الأدب التفاعلي بما يظهر جماليات اللغة والنقد ، لئلا ندع مجالًا لأعدائنا  عبر هذا الفضاء الإلكتروني ، خاصة " الشعوبيّة " في ثوبها الجديد  ، ولا بد من إبراز  دور الأدب التفاعليّ في خدمة قضايا الأمة العربية ،  ولا يستطيع أحد أن ينكر هذا الدور أو يقلل منه ، فمن المؤكد أن له دورًا في بلورت هذه الأحداث الحالية وإبرازها في شكل يتفق مع المطالب الجماعية لمقوّمات الحياة الكريمة ، فالأدب التفاعلي في الطريق ، أو بمعنى أدق في بداية الطريق للقيام بالدور الذى يجب عليه القيام به لخدمة القضايا العربية .
وجدير بالأدباء أن يزودوا  أبطال رواياتهم وقصصهم بمعاني الحبّ والخير والسلام ، وتسخير الأدب التفاعلي المعاصر لخدمة بلدانهم وقضاياها ، وأن يرتفعوا بإنتاجهم إلى مستوى تلك القضايا ، وبالتالي يؤثر الأدب التفاعلي تأثيرًا كبيرًا في الفرد العربي ، ويقوم بدوره في توعية المتلقيين العرب ، لا بالأساليب المنفرة ولكن بالأساليب التي تتفق مع دور الأدب في الحياة .   
       



[1] - د . فاطمة البريكي : مدخل إلى الأدب التفاعلي ، نشر المركز الثقافي العربي  الدار البيضاء – المغرب ، ط 1 ، 2006م .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق