الصفحات

2016/03/28

المراكز الفكرية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة «الظاهرة والدّور والتأثير» بـقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة



 المراكز الفكرية في الولايات المتّحدة الأمريكيّة
«الظاهرة والدّور والتأثير»
بـقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
كلية الآداب،جامعة عنابة،الجزائر
      لا ريب في أن إدراكنا لأدوار وتأثيرات المراكز الفكرية الأمريكية،يُسهم إسهاماً كبيراً في معرفتنا لانعكاساتها وآثارها على مصالحنا العربية والإسلامية، كما ندرك مدى تجذرها في صناعة القرار الأمريكي،وتوجيه الرأي العام،بالإضافة إلى تعميق رؤيتنا عن الأدوار التي تلعبها في تحديد مواقف وتوجهات السياسات الداخلية والخارجية للولايات المتحدة الأمريكية،فما أحوجنا إلى الكثير من الدراسات التي تكشف حقائق المتغيرات المتصلة بالمراكز الفكرية،ولاسيما التي تعنى منها بالشرق الأوسط، وقضاياه، وذلك شأن كتاب الدكتور باسل رؤوف الخطيب، الذي بذل فيه جهداً كبيراً تبدى لنا  من خلال تحليلاته النافذة والعميقة،للأفكار والرؤى النابعة من مختلف المراكز الفكرية الأمريكية،فقد كشف الحجب عن أدوارها،وتأثيراتها،وآثارها،ومصادر تمويلها،و عالج موضوعه بوعي بالغ، وإحاطة شاملة، وليس من شك في أن دراسة الدكتور الخطيب، وتدريسه في جنوب كاليفورنيا لسنوات طويلة في ميدان الاستشارات الخاصة بالعلاقات الدولية ،قد أسهم إسهاماً كبيراً في تحكمه بموضوعه،و تعميق رؤيته، وإدراكه النافذ لتأثيرات المراكز الفكرية الأمريكية، وأدوارها، وتحليله لظواهرها.
       إن المؤلف يسعى من خلال هذه الدراسة الهامة أن يتصدى لجملة من الأسئلة الرئيسة: ما المركز الفكري؟وما أسباب إنشائه وانتشاره في عالم اليوم؟ وما المنطلقات التي تُبنى عليها توجهاته والعوامل التي تساعد على نجاحه؟ وكيف تطورت مثل هذه المؤسسات في الولايات المتحدة والعالم؟ وما مراحل هذا التطور؟ وما الطابع الغالب للمراكز والهيئات الفكرية الحالية في الولايات المتحدة في ضوء التطور الكمي والنوعي لنشاطاتها؟وما سمات التحول والتغيير التي أصابت ظاهرة انتشار المراكز الفكرية تبعاً لذلك؟وما علاقة هذه المراكز والهيئات بالمجتمع الأكاديمي ومجتمعات المال والأعمال؟وكيف تعمل هذه المراكز على نشر أفكارها؟وما الأساليب التي تستخدمها في سبيل ذلك كي تؤثر في صانعي القرار وفي الرأي العام الأمريكي؟وما دور هذه الأساليب وكيفية تأثيرها في منطقة كالشرق الأوسط وسياسات الولايات المتحدة تجاه دولها؟
 التطور التاريخي والمقومات العامة
      من خلال الفصل الأول من الكتاب،يُقدم المؤلف مجموعة من المفاهيم والتعريفات عن المراكز الفكرية،كما تعرضت لها جملة من المعاجم والموسوعات،مثل معجم وبسترwebster dictionary الذي أشار إلى أن المركز الفكري هو عبارة عن مجموعة من الناس الأكاديميين، ومدراء الأعمال، أو موظفي الحكومة الذين يسعون إلى البحث والتنقيب، ودراسة المشكلات الاجتماعية والعلمية والتكنولوجية.
      ويعود تاريخ ظهور المراكز الفكرية في و،م،أ إلى ما يقارب القرن ونصف القرن،وقد مرت هذه المراكز بمراحل مختلفة ومتنوعة،متأثرة بالأحداث والتطورات الجارية على الساحة الدولية، وقد قسم المؤلف التطورات التي مرت بها إلى خمس مراحل رئيسة،فالمرحلة الأولى تمتد من(1865-1900م)،وذلك بعد انتهاء الحرب الأهلية الأمريكية،فظهرت في الساحة مراكز تعنى بالسياسات العامة،والعلوم الاجتماعية بغرض مساعدة الحكومة،وتشجيعها على تنفيذ الإصلاحات اللازمة التي يصبو إليها المجتمع الأمريكي،بينما حُددت المرحلة الثانية من(1901إلى1945م)،وهذه المرحلة ميزها الطابع الليبرالي،إذ أن الأثرياء والشركات التجارية والصناعية الكبرى، والمؤسسات الخيرية،لعبت أدواراً هامةً في تمويل الدراسات والأبحاث في المراكز الفكرية الهامة،وقد تزايدت أعداد المراكز الفكرية تزايداً كبيراً في المرحلة الثالثة التي تنحصر بين سنوات(1946-1970م)،فمرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية تركزت الاهتمامات فيها على المراكز ذات البعد الاستراتيجي والعسكري، ومثال ذلك مشروع منهاتن الذي أدخل العالم عصر القنبلة الذرية،كما وُسعت المؤسسات والنشاطات التي تُركز على السياسة الخارجية، والشؤون الدولية،والمخططات الاستراتيجية، والأعمال العسكرية،وقد حُدد الإطار الزمني للمرحلة الرابعة ما بين(1971-1991م)،وقد نحت المراكز الفكرية الأمريكية في هذه السنوات منحىً آخر،فاتجهت إلى الإقناع، والتدليل بالحجة والبرهان،بدلاً من الاقتصار على تقديم النصح والمشورة،والتوصيات بالخيارات الممكنة،وقد كان هذا الاتجاه نتيجة لمجموعة من الأحداث والتطورات التي شُهدت في ذلك الزمن،من أبرزها:حرب فيتنام، وحماية الحقوق المدنية،وتوفير الفرص التعليمية والاقتصادية المتكافئة للأقليات،وقد أُنشئت في هذه المرحلة الكثير من المؤسسات الهامة،مثل:مؤسسة التراث،ومؤسسة الكونجرس الحر،ومركز الأخلاق والسياسة العامة،ومجلس الأمن الأمريكي المتبادل. وأما المرحلة الأخيرة فقد بدأت من سنة:1992م إلى وقتنا الحاضر،وأهم ما ميز هذه المرحلة ذلك الامتداد الواسع للمراكز الفكرية الأمريكية،في مناطق،ودول مختلفة عن طريق تقديم الخبرات، وتعزيز الخطط لبناء الدول الجديدة، ومواكبة التحولات الديمقراطية، والاقتصادية وما يتصل بهما من شتى القضايا،كما شهدت هذه المرحلة نفوذاً كبيراً للمحافظين الجدد على الكثير من المراكز المحافظة تقليدياً،وأضحى بين أيديهم تقرير من يدخل ميادين السياسة العامة،أو ينسحب منها،وركزوا اهتماماتهم على الساحة الخارجية، وطفقوا يبحثون عمن يتفق معهم عقائدياً،أو يحمل أفكاراً منسجمة مع رؤاهم.
     ونتيجة لتغيُر النظرة التقليدية للمراكز الفكرية ،لم تصبح مجرد كيانات منظمة ومستقلة،وتنقسم إلى غير حكومية،أو حزبية،أو مصلحية،بل إنها أصبحت بمنزلة الجسور التي تصل بين الخبراء،والباحثين،والمحللين في المراكز، وبين صناع القرار،وهذا ما يرصده المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب،والموسوم ب:«المراكز الفكرية-المقومات العامة والأنواع»،فالمراكز الفكرية تشكل عاملاً مهماً في نجاح السياسات المرسومة ،وتسويقها أمام السلطة التشريعية،والرأي العام،ويُحدد الدكتور الخطيب ستة أنواع رئيسة للمراكز الفكرية،هي: المراكز الفكرية المستقلة،والتي أنشأها المجتمع المدني،وهي هيئات غير ربحية،والمراكز الفكرية الجامعية التي توجد في الجامعات،أو ترتبط بها،وتتخصص في أبحاث الشؤون العامة، والمراكز الفكرية البحثية المؤسسة من قبل الحكومات،وهي مراكز تهتم بالبحث،وتهدف إلى تطوير موضوعات محددة،والمراكز الفكرية البحثية،والتي تُنشأ داخل الشركات الكبرى،وتصبح جزءاً  من هيكلها التنظيمي،والمراكز الفكرية التي تؤسس من طرف الأحزاب السياسية،والمراكز الفكرية غير الحكومية،والتي تتميز بطابعها العالمي،وتتركز  اهتماماتها على الشؤون الخارجية.
الأدوات وأساليب التأثير
      يتوقف المؤلف في الفصل الثالث ملياً مع أسباب نجاح المراكز الفكرية الأمريكية ،وأساليب وأدوات تأثيرها،ومن أهم الأسباب التي أسهمت في تحقيقها لإنجازات كبيرة،ووصولها إلى السلطات التنفيذية وصناعة القرار،وجودها في العاصمة واشنطن مما مكنها من النفوذ إلى سلطات الحكم الثلاث،والتعامل مع الأشخاص الذين يعملون في هذه السلطات،وهيئاتها الرئيسة،بالإضافة إلى توفر الإمكانات والموارد المالية والبشرية،مما يُساعد على جذب الخبرات البحثية،والفنية والإدارية،والمحافظة عليها، ومن عوامل نجاحها عدم خضوعها للرقابة التنفيذية،أو القضائية،أو التشريعية،وهذا ما حفزها على التوسع،وتكثيف نشاطاتها،كما أنها تتمتع بمجموعة من القدرات من بينها قدرتها على توليد أفكار جديدة ومبتكرة حول جملة من الموضوعات المتعلقة بالشأن العام«فمن ناحية،تستهدف هذه الأفكار الجديدة صانعي القرار بالدرجة الأولى من أجل تغيير فكرهم،والتأثير في مواقفهم وبالتالي قراراتهم في القضايا الداخلية والخارجية.وما من ريب أن نجاح المراكز الفكرية في هذا المسعى يُفضي إلى تغيير المفاهيم الخاصة بالمصالح القومية الأمريكية ويؤثر في ترتيب قائمة أولوياتها،ما قد يوفر خريطة طريق لعمل الحكومة الأمريكية وهيئاتها التنفيذية  والتشريعية.من ناحية أخرى تسعى المراكز الفكرية في الوقت ذاته من خلال أدواتها المختلفة على تغيير توجهات الرأي العام عبر"تثقيفه" ،لا لكي يؤثر في صانعي القرار فحسب،بل من أجل بلورة مداركه وكيفية فهمه للأحداث والقضايا الوطنية والعالمية. والقدرة على المبادرة والتناول الفوري للأحداث المتسارعة اعتماداً على وسائل الإعلام المتنوعة،فالمراكز الأسبق في الدخول إلى الساحة الإعلامية التي تغطي الأحداث يتاح لها فرص تحديد هذه الأحداث وقولبتها أمام الرأي العام الذي يجهل دقائق الأمور في تلك الحالات،وبالتالي تأطير المواضيع المتصلة بها ووسمها بما يخدم مصلحة المركز وتوجهاته في جميع الأحوال،والقدرة على استغلال النظام الانتخابي،خصوصاً المتعلق بالرئاسة. ولعل هذه الميزة قد تكون الأهم بعد التمويل في نجاح المراكز الفكرية الكبيرة أو المرموقة،فالتأثير في السلطة التنفيذية يتم في المقام الأول بسبب الانتخابات الرئاسية التي تُجرى دورياً كل أربع سنوات. وفي سياق السعي إلى التأثير في السلطة التنفيذية تستخدم المراكز التنفيذية مجلسي الكونجرس(النواب والشيوخ) أيضاً بسبب الصلاحيات التي يعطيها الدستور للكونجرس ووجوب أخذ مشورته وموافقته على التعيينات الرئيسة في السلطة التنفيذية.كذلك تهتم المراكز الفكرية بمجلسي الكونجرس لتمتعها ب"قوة المحفظة"،أي صلاحيات المجلسين في تخصيص النفقات الفيدرالية وتمويلها،ورصد الأموال للمشروعات وجمعها عبر الضرائب،والموافقة على المقترحات والسياسات المالية والميزانيات التي تقدمها السلطة التنفيذية أو عدم الموافقة على ذلك. وأخيراً تستغل المراكز الفكرية في هذا الإطار وجود الحماية والرقابة التي يفرضها القضاء الفيدرالي على مشروعات القوانين والسياسات والمواقف التي تتصل بالسلطة التنفيذية،خصوصاً من حيث دستورية هذه الأمور من عدمها»(1).
      وقد اعتمدت المراكز الفكرية الكثير من الأدوات،بغية تجسيد أهدافها،وكسب النفوذ،والتأثير في التوجهات والسياسات المنتهجة من قبل الحكومة،ومن أبرز الأساليب التي اتبعتها العمل على مساعدة مرشحي الرئاسة الأمريكية،من أجل إدراكهم لأبعاد وموضوعات الشؤون الداخلية والخارجية عند استهلالهم لحملاتهم الانتخابية،وتقديم مئات الأشخاص من الفئات المتوسطة،والعليا للعمل في هيئات الإدارات التنفيذية الجديدة وأجهزتها،كي يؤثروا بأفكارهم ورؤاهم،ويسهموا في صنع القرار،وكذلك تسعى إلى توفير تدريب مستمر لموظفي الإدارات التنفيذية،ولأعضاء مجلس الكونجرس، والعمل على تثقيفهم،وتزويدهم بالمعلومات ذات الصلة بالشؤون الداخلية والخارجية،ويشمل التثقيف كُلاً من السلطتين التنفيذية والتشريعية،وكذلك الجمهور الأمريكي والعالمي،كما أن المراكز الفكرية تستثمر أساليب أخرى متنوعة كالتوظيف عن طريق توفير مناصب شغل لكبار المسئولين والخبراء والمستشارين،وتحرص على الظهور على الساحة السياسية«كي تعطي الانطباع لصانع القرار والرأي العام بمدى أهميتها وخبراتها وضلوع أشخاصها في تناول مسائل الشأن العام وتحليلها بما يمنحها المصداقية سواء استحقت ذلك أم لا،وكذلك القدرة على التأثير. وتشكل وسائل الإعلام المختلفة وشبكة الإنترنت الأدوات الرئيسة في هذا المسعى.فحين تتناول الوسائل الإعلامية الدراسات والأبحاث الصادرة عن المركز أو يقوم منتسبوه بالإدلاء بآرائهم في الموضوعات المطروحة على شاشات التلفزة أو الراديو فإن هذا دليل علني على ما يتمتع به المنتسب من خبرة،وما تتصف به المؤسسة التي ينتمي إليها من قدرات. فإذا أضيف إلى ذلك الكتابات والمقالات التي ينشرها هؤلاء في الدوريات والمجلات وأعمدة الصحف الرئيسة فإن هذا يُسهم في رفع منزلة المركز أمام صانع القرار.كذلك تعتمد المراكز الفكرية على شبكة الإنترنت التي تؤمن لها عبر مواقعها وصلاتها على الشبكة سرعة تسويق أفكارها ومواقفها من أحداث الساعة،كما تتيح لها قدرة واسعة على طرح الموضوعات،وتقديم الخدمات والمعلومات،إضافة إلى بناء وإيجاد شبكات الخبراء من مختلف التوجهات من داخل الولايات المتحدة وخارجها»(2).
     ويرى الكثير أنه من كثرة حرص المراكز الفكرية على الظهور والانتشار،تحولت هذه المراكز من هيئات للفكر الموضوعي،إلى مؤسسات تسعى إلى بيع الأفكار وتسويقها،حتى أضحى تسويق الأفكار أهم من الأفكار نفسها.وكما يشير المؤلف فإنه من الاستحالة قياس مدى تأثير المراكز الفكرية بدقة،والمقياس الأفضل لذلك التأثير هو مدى ترجمة صناع القرار للأفكار والتوصيات المقدمة من قبلها.
      وتوصل المؤلف عند معالجته لقضية تمويل المراكز الفكرية في الفصل الرابع من الكتاب،إلى أن المصدر الأهم للأموال التي تحصل عليها المراكز الفكرية ،هو ما يأتي من مختلف الهيئات الخيرية والمؤسسات الوقفية،التي هي في أغلبها من نتاج جهود كبريات الشركات«التي تستفيد بإنشائها من الإعفاءات الضريبية  التي تمنحها حكومة الولاية أو الحكومة الفيدرالية على دخل الفرد أو الشركة تشجيعاً لتكريس الأموال في خدمة المجتمع.
      كذلك وبالرغم أن الهدف المعلن من المنح والهبات عادةً هو صالح المجتمع إلا أن الأمر بالنسبة إلى الأفراد والشركات يتجاوز ذلك بالضرورة،إذ يصبح دفع الأموال وسيلة للدعاية للفرد أو الشركة،إضافةً إلى أن من تُمنح له الأموال سواء كان مركزاً فكرياً أو مؤسسة أكاديمية قد يُفصِّل الدراسات والأبحاث والتوصيات التي يقوم بها على قياس الجهة المانحة مروِّجاً لتوجُّهاتها العقائدية أو مواقفها العملية التي تتناسب مع مصالحها.مع ذلك فإن الهدف الحقيقي للجهات المانحة يبقى دوماً التأثير في صانع القرار السياسي في السلطة التنفيذية لإتباع سياسة معينة، أو المشرِّع كي يصدر القوانين والتشريعات التي تخدم المصالح الاقتصادية والتجارية للمموِّل،أو الرأي العام للقبول بما يُطرح عليه عبر تثقيفه في الشأن محط النقاش والتداول»(3).
       وقد اتبعت المؤسسات الوقفية،والهيئات الخيرية جُملة من الأساليب كي تحافظ على قدر كبير من فاعليتها وتأثيرها،وتحقق أهدافها، وتوجهاتها على الساحة الأمريكية،ومن  الأساليب الهامة التي انتهجتها:
 تقديمها للمنح السياسية الطابع علناً للمراكز والهيئات التي تدعم أفكار التيار المحافظ،والسعي من أجل تعزيز قوة المراكز الفكرية، والبحثية المحافظة وذلك في كل القطاعات الاستراتيجية بالولايات المتحدة،بالإضافة إلى التركيز على دعم نشاطات المراكز عن طريق الضخ المالي، والتركيز على مشروعات محددة أو دراسات معينة،و تعمل على توفير تمويل تشغيلي طويل المدى يُسهم في دعم النفقات الإدارية، ومصاريف البنى التحتية للمراكز والتنظيمات المحافظة،وهو ما مكنها من الاستقرار والديمومة، وتحقيق خططها الموضوعة،وذلك عن طريق المتابعة المستمرة للقضايا التي تهمها، والشؤون التي تتخصص فيها.كما أنها تدفع بسخاء للمراكز الفكرية والبحثية الهامة،وتمول برامج التحول الاجتماعي والسياسي،وتقدم منح مالية عن الموضوعات الشاملة،التي تتنوع في معالجتها لأكثر من موضوع أو فئة اجتماعية،ومن المراكز التي انتهجت هذا الأسلوب:مؤسسة التراث،ومعهد المشروع الأمريكي.
       كما تخصص المراكز مبالغ ضخمة،بغرض دعم إصدار الدوريات،والمطبوعات المتخصصة،وتركز على المجلات ذات الطابع الأكاديمي،وتعتمد على المراكز والهيئات التنظيمية التي تُقدم لها الأموال،وتحفزها على التمكن من استخدام أساليب التسويق والاتصال،وتعمل على إيجاد وسائل الإعلام التي تنشر الأفكار المحافظة،وتذيعها،وتستعملها كوسيلة للتأثير على الجماهير،وهي تسعى دائماً إلى تعزيز التفاعل والتفاهم والمبادلة بين المراكز والمؤسسات والهيئات الفكرية،بوساطة تشجيع وجود شبكة تضم خبراء،وبرامج تدريب،ولا تقتصر على ذلك فحسب،بل إنها تشهد امتداداً إلى القيام بمشاريع الأبحاث،والدراسات المشتركة، وتدعيم التبادل،وتقوم بتقديم أموال لجماعات الضغط(اللوبي السياسي)،وذلك بغرض استمالة الشخصيات الفاعلة على مستوى صناعة القرار.
المراكز الفكرية الأمريكية والشرق الأوسط:
    بعد أن قدم المؤلف لمحة عن مؤسسة التراث،وذلك كنموذج لأهم المراكز الفكرية الأمريكية،يرصد رؤية تلك المراكز للشرق الأوسط،ويستفيض في مناقشته لهذه القضية من جوانب عدة،وذلك في الفصل الأخير من الكتاب،الذي يُعد في نظرنا أهم فصول هذا السفر القيم، ففي البدء قدم لنا الدكتور باسل رؤوف الخطيب مراجعة تاريخية للاهتمامات الأكاديمية والعلمية للمراكز الفكرية،والتي انصبت على الشرق الأوسط،حيث إنها بدأت في الجامعات الأوروبية والأمريكية العريقة،وعُرفت باسم«الدراسات الشرقية»oriental studies ،وأُطلق عليها فيما بعد اسم«الاستشراق»orientalism ،وقد ظلت هذه المؤلفات لزمن طويل«عبارة عن مؤلفات مختلفة في مجالات مثل الفلسفة والحضارة واللغويات والإثنية واللاهوت.وكان الكثير من هذه الجهود مكرًّساً للكشف عن النصوص المرتبطة بهذه الموضوعات أو ترجمتها أو تفسيرها أو إعادة تفسيرها بهدف معرفة ملامح الثقافة الخاصة بالمجتمع أو المجتمعات المعنية في المنطقة.لكن الملاحظة الأساسية في هذا الصدد أن الاهتمام بالمنطقة كان جزءاً من الدراسات الخاصة بقارة آسيا عموماً التي كانت تتشكل من منطقتي الشرق الأدنى(الشرق الأوسط) والشرق الأقصى.إضافة إلى ذلك،كان واضعو الدراسات خليطاً متنوعاً من الأكاديميين والساسة والعسكريين والرحالة،إضافةً إلى رجال الدين والمبشرين والفنانين والتجار وغيرهم.وكان الواضح أيضاً أن النهج المتبع،باستثناءات قليلة،كان مبنياً على أساس وجود فوارق بين الحضارة الغربية والآخرين،هذا الفارق الذي كان مصبوغاً بالنظرة الفوقية والاستعلائية على حضارات الشعوب الأخرى(الأقل شأناً) ،واستمر هذا التوجه الفكري والأكاديمي حتى منتصف عقد الأربعينيات من القرن العشرين.لكن انتهاء الحرب العالمية الثانية عام1945م الذي أدَّى إلى سقوط الإمبراطوريات الاستعمارية التقليدية كبريطانيا وفرنسا وهولندا وغيرها نجم عنه ولادة العديد من الدول المستقلة في الكثير من بقاع العالم،ومن ضمنها منطقة الشرق الأوسط...،وفي سبعينيات القرن الماضي دخلت الدراسات الاستشراقية،خصوصاً المتعلقة بالشرق الأوسط مرحلة جديدة أثّرت في النهج التقليدي المتبع في الدراسات والأبحاث الخاصة بآسيا والشرق الأوسط تحديداً. ويعود الفضل في ذلك إلى أستاذ جامعي أمريكي في الأدب المقارن(من أصل فلسطيني)هو إدوارد سعيد الذي وضع مؤلفاً بعنوان«الاستشراق» orientalism هاجم فيه التقاليد الفكرية والأكاديمية في الدراسات الشرقية.لقد كان مؤلفه هذا،الذي أثار ضجة كبيرة وثورة على النهج الذي ساد قروناً مضت،مؤشراً على مرحلة جديدة من التفكير والمنهجية في تناول الغرب حضارات مناطق العالم الأخرى وثقافاتها وسياساتها،خصوصاً منطقة الشرق الأوسط.وكان هذا المؤلف في رأي الكثيرين بداية لما سُمي أيضاً"عصر دراسات ما بعد الاستعمار"post-colonial studies   وكان من نتيجة هذا العمل الفكري المميز أن أصبحت الدراسات الشرقية أو orientalismأي الاستشراق،كما رأى سعيد مصطلحاً مبغوضاً ومهجوراً.كما صارت هذه المدرسة الفكرية الجديدة هي المدرسة السائدة في الأكاديميات على الرغم من حملات التجريح التي تعرضت لها المدرسة من داخل المجتمع الأكاديمي،خصوصاً من أنصار الفكر الصهيوني ومؤيدي إسرائيل،مثل برنارد لويس وليونارد بايندر،ومن قبل عدد كبير من المحافظين الجدد داخل المراكز البحثية والفكرية المهمة وخارجها. ولعل الهجوم على سعيد هو ما جعل الهوة تتسع بين المؤسسات الأكاديمية وتلك المراكز،و أبعد الأغلبية الساحقة من الخبراء والمختصين الأكاديميين في منطقة الشرق الأوسط عن مراكز الثقل السياسي في الولايات المتحدة في ضوء تأثير المحافظين عموماً والمحافظين الجدد تحديداً منذ ثمانينيات القرن العشرين في صنع السياسة الخارجية الأمريكية،ومواقف الولايات المتحدة تجاه الدول العربية وإسرائيل»(4).وليس من شك في أن الانتشار الواسع لأفكار إدوارد سعيد،وتقبلها من لدن الأوساط الأكاديمية،ومراكز الأبحاث،والدراسات الجامعية،أدى إلى إعادة النظر في الرؤية التي كانت سائدة عن الاستشراق،ومفاهيمه، كما قاد تدريجياً إلى إعادة هيكلة المنطلقات الفكرية،وأساليب طرح الدراسات الشرقية عامة،وهذا الأمر سبب إزعاجاً كبيراً للكثير من القياديين في المراكز الفكرية،وبالأخص المحافظة منها،فشنوا هجمات عنيفة على أفكار ورؤى إدوارد سعيد،ولاسيما بعد هجمات2001الإرهابية في الولايات المتحدة،وقد راجت بعدها الأفكار الداعية إلى الصراع والصدام بين الحضارات،وقد أتت هذه الرؤى الخاصة بالحضارات«في ظل تأكيد المراكز الفكرية،خصوصاً المحافظة وبتأييد من تيارات اليمين المسيحي واليمين الصهيوني على أن ترابط التقاليد المسيحية اليهودية هو السمة الأساسية للحضارة الغربية.ورافق هذا تدعيم مقولة:إن إسرائيل امتداد للغرب ومصالحه الاستراتيجية،وإنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط،فإسرائيل هي تجسيد واقعي للقيم الغربية في منطقة تضم دولاً عربية وإسلامية تفتقر على النظم والمؤسسات الديمقراطية،وترفض القيم والهيمنة الغربية،وتدعم الأصولية الإسلامية،وتحاول النيل من إسرائيل وبالتالي الغرب عبر مساندة الفلسطينيين وقضاياهم من بين أمور أخرى.من جهة أخرى   في ظل بيئة تشهد تصاعد تأثير المحافظين الجدد في المراكز الفكرية وتأثير هذه المراكز في صنع القرار على مستوى السلطتين التنفيذية والتشريعية في الولايات المتحدة، واستمر السجال بين منظور باحثي المراكز الفكرية وخبرائها و الأكاديميين المتخصصين في مختلف شؤون منطقة الشرق الأوسط. وعلى الرغم من هيمنة المراكز الفكرية المتزايدة على السياسات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط،وتأييد خبرائها الصهيونية وإسرائيل ومعاداتهم العرب والمسلمين،بقيت طروحات سعيد على رغم ذلك سائدة في المجتمع الأكاديمي.لكن هذه الهيمنة أدَّت إلى نجاح المراكز الفكرية عملياً في استبعاد هذه الطروحات من منتجاتها وفي الاستئثار في النصح والمشورة السياسية لصناع القرار»(5).
    إن الحديث عن الحملات الشعواء التي تعرض لها العرب والمسلمون من قبل المراكز الفكرية،يقتضي إنجاز مؤلفات خاصة، وتحبير مجلدات مستقلة،ويُقدم لنا المؤلف بعض اللمحات عن التشويه والتضليل الكبير الذي سعت المراكز الفكرية إلى إشاعته وبثه في مختلف المنابر الإعلامية، والوصول به إلى صناع القرار والتأثير في توجهاتهم، ومن أبرز الذين عملوا على إضرام نيران الحروب الإعلامية التي تشوه صورة الإسلام والعرب،مارتن كريمرmartin kramer ،تلميذ برنارد لويس في جامعة برنستون،الذي هاجم رابطة دراسات الشرق الأوسط،ووصف دراساتها بأنها مليئة بالأخطاء،وبالأفكار التي تعادي أمريكا،وهي تُفرطُ في التفاؤل،كما هاجم أفكار وطروحات إدوارد سعيد،وأما ستانلي كورتزstanley kurtz،فقد وصف أساتذة مركز دراسات الشرق الأوسط،بأنهم يساريون ومؤيدون للإرهاب الإسلامي، ومتساهلون مع المعادين لأمريكا،كما أنه سعى وبكل ما يمتلكه من قوة ونفوذ إلى تأليب صناع القرار الأمريكي ضد دراسات الشرق الأوسط،وذلك على أساس أنها لم تُقدم أية خدمة للأمن القومي الأمريكي،ولم تساهم بالدراسات والأبحاث التي تُلقي الضوء على ما يدور في الشرق الأوسط،وتخدم السياسة الخارجية الأمريكية،وقد شملت هجماته مراكز جمة ،بغرض التشهير بالخبراء الأكاديميين،الذين لا ينتمون إلى اليمينيين أو المحافظين الجدد،ما أدى إلى استبعاد البعض منهم من عملهم في الجامعات المرموقة.
    هذا على مستوى الشخصيات التي تعادي العرب والمسلمين،أما على مستوى المراكز التي تُكن للمسلمين حقداً شديداً،وتدُل على مدى سيطرة وتغلغل اللوبي الصهيوني في أعماق المؤسسات الأمريكية، قيُمكن التمثيل بمنتدى الشرق الأوسط ،الذي هو عبارة عن مركز فكري يميني صهيوني،تتركز اختصاصاته على السياسات الأمريكية في منطقة الشرق الأوسط،وقد أُسس عام:1990م في مدينة فيلادلفيا،من قبل دانيال بايبسdaniel pipes المعروف بعدائه الشديد للعرب وللإسلام في أمريكا،وقد تطور هذا المنتدى تطوراً كبيراً،فتضخمت ميزانيته،نظراً لتمتعه بحرية كبيرة،فلا تُفرض عليه لا قيود قانونية، ولا مالية،وهذا ما مكنه من التأثير بقوة على الرأي العام الأمريكي،ولدى صناع القرار،وكما يرى المؤلف فهذا المنتدى يُعدُ الأخطر نظراً لجملة من الأسباب من بينها أنه ساحة فاعلة لنشاطات المفكرين من المحافظين الجدد،ومن أبرز الذين يؤيدون بكل قوة الصهيونية وإسرائيل في أمريكا،ويُضاف إلى ذلك أن الناشطين به ينتسبون إلى مراكز فكرية لها نفس التوجهات العدائية التي ينتهجها المركز،وبعضهم يحتل مراتب عليا في الدوريات والمجلات المروجة لهذا التيار،والمركز يُعتبر أداةً قوية تُعنى بمراقبة المجتمع الأكاديمي الأمريكي الذي له صلات بدراسات الشرق الأوسط فيسعى أصحابه إلى تضييق الخناق على الأساتذة والخبراء الذين يُقدمون أفكاراً تتناقض مع توجهاتهم،أو تكشف الحقائق التي يعملون بكل جد من أجل إخفائها وتشويهها ونقضها.
      لقد كشف كتاب الدكتور باسل رؤوف الخطيب الكثير من الحقائق العميقة عن الأدوار والتأثيرات الكبيرة التي تنشرها المراكز الفكرية الأمريكية،والتي يتجذر فيها اللوبي الصهيوني ،فيُقدم طروحات،ورؤى، مشوهة،وبعيدة كل البعد عن الواقع، وما يزيد الأمر شجناً هو أن هذا التأثير مستمر «فإذا بقيت هذه الهيمنة، وتواصل استبعاد الأكاديميين المتخصصين في الشرق الأوسط على الساحة الإعلامية بشكل مباشر وغير مباشر،وعن المسرح السياسي في واشنطن العاصمة،فإن مشاركتهم أو إسهامهم في صنع القرار الخارجي للولايات المتحدة يبقى طموحاً صعب المنال على المدى المنظور في أقل تقدير.
    إن معرفة كيفية تبلور المواقف والقرارات السياسية الأمريكية يُسهم كثيراً في توقِّي انعكاساتها على دول الشرق الأوسط،وعلى المصالح العربية والإسلامية،خصوصاً حين يُضاف العامل الإسرائيلي كعنصر حيوي في استراتيجية الدولة الأعظم في المنطقة.لذا،هناك حاجة مستمرة إلى دراسات متعمقة متتالية لكشف حقائق المتغيرات المتصلة بالمراكز الفكرية المعنية بالشرق الأوسط وخلفياتها تمويلاً وإدارة وآليات عمل.عندها يصبح التحسُّب للسياسة المقررة في الولايات المتحدة مطلوباً، وتوقُّع عواقبها المحتملة في المنطقة ممكناً...» (6).
الهوامش:
(1)د.باسل رؤوف الخطيب:المراكز الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية«الظاهرة والدور والتأثير»،منشورات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،الرياض،المملكة العربية السعودية،ط:01،1428هـ/2007م،ص:47ومابعدها.
(2) د.باسل رؤوف الخطيب:المراكز الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية«الظاهرة والدور والتأثير»،ص:53.
(3)د.باسل رؤوف الخطيب:المصدر نفسه،ص:64.
(4)المصدر نفسه،ص:97وما بعدها.
(5)المصدر نفسه،ص:103وما بعدها.
(6)المصدر نفسه،ص:150وما بعدها.
بيانات الكتاب:
العنوان:المراكز الفكرية في الولايات المتحدة الأمريكية-الظاهرة والدور والتأثير- 
اسم المؤلف:باسل رؤوف الخطيب
دار النشر ومقرها: منشورات مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية،الرياض،المملكة العربية السعودية، ص،ب:51049 الرياض11543
سنة النشر:1428هـ/2007م.
عدد الصفحات:158.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق