الصفحات

2016/04/01

أحمد طوسون يكتب: العصيان.. صلوات الحياة والتحرر من الخوف!.. قراءة في رواية " صلاة إبليس" لأحمد قرني


العصيان.. صلوات الحياة والتحرر من الخوف!.. قراءة في رواية " صلاة إبليس" لأحمد قرني



بقلم: أحمد طوسون


يشتغل أحمد قرني في روايته "صلاة إبليس"[1] بشكل واضح على المفارقة المكانية في المكان الواحد بالمناشي/ المكان الذي تدور فيها أحداث الرواية وتنتمي إليها شخصياتها، البلدة التي يمكن اعتبارها قرية صغيرة تعبر عن الأرض وأسئلة الوجود التي يطرحها الإنسان على نفسه منذ هبوطه عليها بعد معصيته الأولى، تماما كما هبط الجد إلى أرض المناشي، (فى حكايات المناشي التي تروى لم أجد سببا لنزول جدنا من أرض الخور إلى بر المناشي, الحكايات تجمع أنه كان مضطرا ,هبط مرغما )[2]، (تظن أن الرب هو الذى طرد جدنا من الخور لأنه عصاه ,الحقيقة التى ترويها حكايات المناشي أن جدنا نزل من الخور لأنه أحب جدتنا وأرادها )[3] ، ما بين ثنائية أرض الخور ووادي الحلفاء، وبر المناشي، مفردات المكان بأرض المناشي، أرض الخور/ الحلم/الوهم/الجنة، وادي الحلفاء/ أرض الجني والحيات والثعابين/الجحيم، بر المناشي الواقع/القاهر/ دار الشقاء، بما فيه الخزان/السجن/العقاب/التيه. يعيش الإنسان عذاباته داخل الأسوار التي تصنع له أو يصنعها لنفسه.
 هل كان ما يعيشه أهل المناشي زيفا، يشبه الزيف الذي صنعته سلطة جورج أوريل في روايته 1984 للسيطرة على الشعب، لكنه في صلاة إبليس زيف من صنيعة الموروث الشعبي والعقائدي لأهل المناشي.. زيف نابع من الإيمان بمعتقدات وأفكار عاشت وترعرعت في وجدان الجماعة الشعبية ورعتها السلطة السياسية والدينية وسلطة الخرافة لخدمة أهدافها وصراعاتها السياسية والاقتصادية.. (لماذا لا تصدق أن حكايات أهل المناشي وخرافاتهم هي التي جعلتني أبدو كائنا قويا.. ها أنا أبكي مثل أي طفل من أطفال المناشي)[4].. هذا الزيف الذي نعلق عليه شماعة فشلنا ونستخدمه بامتياز كوسيلة لقهر الآخر وكبته جنسيا وسياسيا. أم زيف نصنعه لأنفسنا متمسحين بطاعة الخالق دون مراجعة لمعتقداتنا وفهمنا لأوامر الرب وحكمته؟.
أرض الخور الحلم الذي سكن عقل ووجدان حريش صميدة الغابي.. منذ صعود أبيه إلى هناك (وحده أبي صميدة الغابي الذى صعد إلى الخور لكنه رحل بعد أن زرع حلمه فى رأسي الصغيرة وقتذاك)[5] الأرض التي ترتبط بحلم الخلاص من العوز والحاجة والفقر واستعادة الغائبين، والأرض التي بها مفتاح السلطة لملك المناشي، كما جاء على لسان العمدة فتوح (لكن الذى يسكن أرض الخور ليسوا مثلنا والوحيد الذي يصل إلى هناك كان الجافي ومن بعده عرنيش ,عرنيش ملعون يأكل من طعام الجن هو وزوجته راجية, لا يريد أن يخلي أرض الخور, يريدها أن تبقي مرتعا له ولأصحابه ,يلهو هناك على راحته ليفعل أعماله السوداء ويربط عليها بحلفاء الوادى ,وحده يمد يده إلى نخلات عطية ويتناول رامخها المر, قلت له سأعطيك ما يكفيك يا عرنيش ..ما يجعلك تعيش سعيدا واترك لى أرض الخور ليكتمل ملكى وأرفع من قدرى وأكون سيد المناشي وما عليها بحق)[6]
فإذا عدنا للمعنى المعجمي لخور الجافي، سنجد أن الخور لغة مصب الماء في البحر.. الخور من الضعف والتلاشي، أما الجافي صاحب الخور فهو الخشن الخال من حرارة العاطفة، أو بمعنى أن يظهر الرسم على غير طبيعته[7].. أنه مجرد خداع، زيف لا أصل له.. إنه البحر الذي لن نجد فيه إلا الماء الذي صببناه هناك.. فلا عجب أن أبطال صلاة إبليس يجدون فيه جنتهم وملاذ خلاصهم لأنهم لا يملكون إرادة الفعل وكل ما يملكوه هو حلم الهرب من مواجهة الواقع إلى الخور.. (لو كان باستطاعتى لحملت سفيرة معى وذهبنا لنعيش هناك فى أرض الخور بعيدا عن أبيها حامد الردينى الذى يرفض زواجى بها لأننى ابن مفرح البرادعى , فى الخور سيكون الناس سواسية كما يردد حريش الغابي ,  حتى عنتر النوبي يمكنه أن يتزوج عزة لبيب القمص, قال حريش إنه رأى هناك فى الخور عنتر النوبي يقرأ أشعاره التى كتبها فى عشق عزة القمص , قالت حسنية الحفافة إنها ستصعد الخور خلف ابنها عنتر وقالت عزة القمص فرحة  "هناك حين أراه سيرد لى جسدي الذى نفق, سأعود جميلة كما كنت وجسدي الناشف ستدب فيه الحياة من جديد, سيعود جسدي الفائر إلى سيرته الأولى طريا ناعما ليسكنه عنتر بسلام, لم يكن بيدى ولم أستطع أن أقدم جسدي زادا لغيره, سأعود كما كنت فاتنة المناشي ووجهها الصبوح)[8] .. إنها عين الأمنيات الضائعة التي ترسم أرض الخور في مواجهة العجز الذي يعيشونه في مواجهة أحلامهم البسيطة في الحب والحياة الكريمة والمساواة، بينما أرض الخور في عين جوان جني الخور الصغير الذي امتلك القدرة على الفعل والإمساك بلحظته الراهنة حتى ولو على حساب معصيته للشيخ عرنيش، ومخالفة طبيعته لكونه بلا جسد، أرض الوحشة والوحدة.. أرض خراب لا تسكنها إلا العفاريت والحيات والأفاعي السامة، بينما الجنة الحقيقية هناك في أرض الإرادة والفعل، إن الجنة هي إرادتنا.. لقد استجاب لمشاعره ولامس جسد سفيرة حين اشتهاها.. (لماذا أبقى وحيدا فى الخور رفيقا للعقارب والثعابين بينما الحياة هنا مليئة بالصخب ..الحياة فى بر المناشي لها طعم آخر)[9]  فهل عمد الكاتب حين تسمية أرض الحلم بخور الجافي إلى فضح أبطاله، وتعريتهم؟
 يبحث شخوص أحمد قرني عن جنتهم بعيدا عما في أيديهم، متعلقين بحلم بعيد، سواء أكان حقيقة أو وهم، هو أشبه بالمخدر الذي يجعل شخوص النص يتعايشون مع الألم دون علاج حقيقي لمشكلاتهم.. لذا الفعل الإيجابي الوحيد من الجماعة الشعبية سيكون في مواجهة الحكومة حين تحاول الاقتراب من أرض الخور لوضع يدها عليها.. لأن هذه الأرض هي الحلم الذي يجعلهم متمسكين بالحياة.. الحلم الذي يجمع الغائبين ويعيدهم، حتى لو كان وهما لن يسمحوا لأحد من الاقتراب منه وسيقفون في وجه لودر الحكومة لمنعها من الاقتراب من حلمهم/ وهمهم.
إذن هم يمتلكون في الحقيقة القدرة على الفعل!
هذا الفعل الجمعي الإيجابي القادر على فرض الإرادة الشعبية لا نجد له صدى في مواجهة المظالم التي يتعرض لها أفراد الجماعة الشعبية إلا إذا مس الظلم الشرف، كما حدث من تكال شيخ الخفراء بعد اغتصابه لذوات.. فيقتل تكال وتلقى جثته في الترعة.. ورغم أن الجريمة تتعلق بالشرف لم يملك زوج تكال الجهر بالقدرة على الفعل بالثأر لشرفه، لأن الذهنية الجمعية لناس المناشي تدربت على الهروب من مواجهة الواقع، فيكتفي باصطحاب زوجته والهروب بها من القهر السلطوي للعمدة ورجاله، وقهر التقاليد المجتمعية التي ستدين ذوات رغم اغتصابها عنوة، والعيش بالقرب من ترعة المناشي قريبا من أرض الخور.. أرض الحلم الذي يتخلصون فيها من عذاباتهم.
هو نفس الهرب الذي مارسه عنتر النوبي حين لم يصعد إلى منبر الجامع ليصبح خطيبا بعد أن وقع أسيرا في إطار الصورة التي رسمها له مجتمع المناشي كابن لحسنية الحفافة، ولم يستطع كرها، والذي عاد ومارسه بالسفر هاربا من مواجهة السلطة الدينية والمجتمعية التي لا تقبل ارتباطه بعزة القمص لاختلاف دينهما وتخليه عن عزة التي أصبحت أسيرة الدير!
عنتر الذي يمثل نموذج الشاعر المثقف خضع لموروث المناشي القاهر واستسلم له، ولم يمتلك إرادة العصيان ليقف في وجه هذه المأثورات البالية، فما بالنا بشخصيات أخرى لم تنل حظا من التعليم وعاشت يتلاعب بها الفقر والمرض والقهر السلطوي والديني.
أرض المناشي محكومة بالخرافة التي يروج لها عرنيش الجافي والعمدة فتوح، فتغييب الإرادة الناتج عن الخرافات التي يؤمن بها أهل المناشي هو سبب العجز الذي يعيشونه، وما الجني الذي يخوف عرنيش به أهل المناشي إلا صنيعة السلطة والمال، هي أرض لا تعطي فرصة للحب كما تقول سماح: (كم أكره أرض المناشي التى تمنعنى عمن أحب, ليتك لا تتردد سنغادر هذه الأرض لنهزم فتوح ونهزم عرنيش الجافي ونهزم خوفنا من الخور ووادى الحلفاء)[10].
فالحب يولد القدرة على الفعل.. يشعرنا أننا كائنات من لحم ودم وليست زيفا.. هذه الحقيقة عرفها جوان.. (الجسد هو الحقيقة، هو القدرة والفعل، أنا بلا جسد أصبح عاجزا)[11].. (أعطني جسد مرعي البرادعي وأمنحك كل شيء)[12].. حريش أيضا كان واعيا لجسده لذا حرص على الاستمتاع بجسد سماح ومعانقته.. هذا الوعي بالجسد لم يقف حائلا ضده الوازع الديني الذي جعل مرعي البرادعي لا يستطيع ملامسة جسد سفيرة وتركها ليصبح جسدها مرتعا لجني الخور.. تردد مرعي البرادعي بين شهوة الجسد، والخوف من المعصية أضاع سفيرة.. التشدد في مواجهة احتياجات الجسد البريئة كالقبلة والعناق، صنع من مرعي بعد وفاة سفيرة قاتلا سكن بيت عرنيش الجافي وقام بتعليق رؤوس ضحاياه في شوارع المناشي.. لم يفهم مرعي البرادعي أن الله خلقنا ويعلم ضعفنا وضعف أجسادنا.. لم يرتكب المعاصي الصغيرة فوقع في الآثم الأكبر وهو القتل.. إنها ثقافة تشيع في مجتمعاتنا لا ينقذنا منها إلا الحب.. لكن السلطة تقف في وجه الحب الذي جمع بين حريش وسماح.. (أنت تخشى أن يصعد حريش الخور، حينها ستكون بداية وليست نهاية، سيتجرأ أهل المناشي على صعوده، لن يهابه أحد بعد اليوم، ساعتها ستتقوض مملكتك)[13] .. لأن الحب يجعلنا نبحث عن الأحلام التي يمكن تحقيقها وليست الأمنيات الضائعة التي يبحث عنها أهل المناشي بأرض الخور، لذا يحرص العمدة فتوح على مساومة حريش بنصف فدان ليظفر هو بسماح وجسدها.. لم يكن جسد سماح إلا رمزا لقدرته بالسلطة والمال والخرافة على إخضاع أهل المناشي لإرادته. فالحب والملك لا يجتمعان[14] كما يعي العمدة فتوح، (لكن حلم حريش في كنوز الخور وحلمه في جسد سماح)[15] هو الخطر الذي تخشاه السلطة.. لأن حريش لم يتردد أمام جسد سماح كما فعل مرعي البرادعي أمام جسد سفيرة.. و(الصعود إلى الخور هو السبيل إلى قلب سماح)[16] إنه يمتلك إرادة الحياة وهو أخطر ما تخافه السلطة وتخشاه.. (الملعون يريد أن يقسم أرض الخور على أهل المناشي كلهم)[17].
إن عصيان أهل المناشي لما ترسخه الخرافة من معتقدات هو الصلاة الغائبة، وهو سبيلهم للتحرر من الفقر والعوز والخوف والقهر الذي تمارسه السلطة.. سلطة العمدة الذي لم يصل إلى منصبه إلا بمساعدة العجوز والد سماح في حربه مع بيت خروشه، لكنه في النهاية تنكر لجميله ويريد سماح كسبية له، العصيان هو صلوات الحياة لأهل المناشي، القادر على هزيمة الخرافة التي تسكن العقول والقلوب، إنهم يمتلكون إن أرادوا هزيمة جني عرنيش الجافي كما هزم العجوز والد سماح جني الجافي.. ( العجوز خفير العمدة الذى تردد المناشي كلها اسمه وتتحاكى بقوته وظلت سيرته حتى الآن على ألسنة الناس التى تروى أن العجوز ربط جني الخور فى نخلة الردينى؟ وظل هكذا مربوطا ,كان الجنى قد اعترض طريقه وحاول إخافته لكن العحوز أقوى خفراء العمدة سيطر عليه ولف الحبل حول رقبته وظل الجنى يعافر معه لكنه استطاع أن يربطه فى نخلة الردينى)[18]. أما صلاة إبليس/ صلاة جوان جني الخور الصغير حين تعبد لملذاته في جسد سفيرة، فهي صلاة آثمة لأنها تخالف الناموس في هذا الكون وترسخ لمعتقدات الخرافة.



[1] صلاة إبليس- أحمد قرني الطبعة الأولى 2015 دار النسيم للنشر والتوزيع
[2] المصدر السابق ص 157 و158
[3] المصدر السابق ص 159
[4] المصدر السابق ص 90
[5] المصدر السابق ص 17
[6] المصدر السابق ص56
[7] معجم المعاني الجامع
[8] صلاة إبليس – الرواية ص 141
[9] المصدر السابق ص 123
[10] المصدر السابق ص49
[11] المصدر السابق ص125
[12] المصدر السابق ص127
[13] المصدر السابق ص93
[14] المصدر السابق ص66
[15] المصدر السابق ص66
[16] المصدر السابق ص 62
[17] المصدر السابق ص 60
[18] المصدر السابق ص 40


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق