الصفحات

2016/07/27

فِي قَدَاسَةِ الكَلِمَةِ بقلم: محرز راشدي



فِي قَدَاسَةِ الكَلِمَةِ
محرز راشدي
الكلمة مقدّسة لمنابعها الإلهية، فالخلق والتكوين تمّ بالكلمة، والفصل بين العمى والنّظام يرجع الفضل فيه إلى سلطان الكلام، ومن ثمّ طُويت صفحة التّشويش وتدشّنت صفحة النّور والنّظام والنّاموس الكوني وانبلجت الحياة، واستوى أفق الوجود والانوجاد.
وفي المخيال الجمعي تُعتبر الكلمة بصفة عامّة مقدّسة ، فهي ذات طابع سحريّ يذهب في أقلّ تقدير في اتجاهين اثنين: إمّا في طريق الخير من باب السحر الأبيض، وإمّا في مسرب الشرّ من جهة السّحر الأسود. وبعبارة أخرى، إنّ للكلمة مفعولا وفاعليّة لا يخطئهما لا مركّب الكلم ولا مفكّك الرّسالة، فهي طلسم يبتغي قارئ شفرات فذّا، وهي رقية وتعويذة لطرد الأرواح الشريرة، وهي وسيط يجسّر المسافات ويردم المهاوي والمفازات بين المرئي واللامرئي، بين الهنا والهناك، بين المنظور والمحجوب، بين عالم الشهادة وعالم الغيب.
وفي طابع القداسة هذا بعض من قداسة الأنبياء سليلي العناية الإلهية، والمنتدبين وسطاء بين السّماء والأرض، والموكولة إليهم رسالة التنوير وتسطير الطريق وإضاءة السبيل وهدي التّائهين.
وتواصلت غلالة القداسة، ودارة الإجلال مع المجانين والكهنة والسّحرة والشّعراء، خاصّة في العالم القديم، حيث التّفسير غيبيّ، والفعل غائيّ، وحيث تنعدم العفويّة، وتتموقع القصديّة موقعا مائزا، ويلتحم الإنسان بالطّبيعة وعناصرها، وتسكن الرّوح كلّ الموجودات والجمادات، فالزلّة، والعثرة، والسّقطة...إنّما علامات ورسائل تحمل محمل الجدّ، وليس من سبيل إلى الاستخفاف حتّى بالحصى والحجر فما بالك بالكلمة المحسوبة فخر الآدميّ، وسلاحه الأوّل لترويض المتوحّش، وأنسنةالموحشن، وإزاحة الغرابة، وإشاعة الألفة..ثمّ هي سلاح فتّاك للتّقرب من الآلهة، ولتهدئة الرّوع، وتبيئة أهول الموت وجعله محفلا وطقسا جاريا مجرى الحادث الحياتي..
والكلمة تؤدّى دندنة وترنيمة أناء الأعمال الشاقة، وأثناء الرّحيل، وعبور الصحاري والفيافي..فهي عون للمزارع، وهي العضد والوزير لمن لا وزير له، وهي الصّديق والرّفيق والخليل للوحيد، والمتوحّد، ولمن تقطّعت به سبل الحياة، ولمن يمّم العزلة نهجا، وضرب بعصاه في الطّريق، واستغواه المسير.
والكلمة الشّعرية نشيد مقدّس، وبراق الشاعر نحو السّماء، وعود إلى الأصول، ورجعة إلى الأعماق، ونهل من ماء الحياء الزّلال، وإقامة أنطولوجيّة في خصب الوجود...إنّها تأسيس للجوهريّ، ورسم للطّريق، وإنارة للدّرب، وفتح كوّة العالم المنظور على عوالم المحدوس، وإلقاء نظرة على العالم وأشيائه في انكشافه وتجلّيه، في انكشاف الإنسان والالتقاء به، في بلورة القصيدة محرقة يتحقق فيها اللقاء، وجداريّة يتهجّى فيها الإنسان أبجديّة الجواهر لا العرض والعارض.
الكلمة مفتاح وقفل، الكلمة قصيدة، الكلمة نبوءة ما تحقّقت بعدُ...
·         تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق