الصفحات

2016/08/19

شعرية الإيحاء ... والنص الموازي للواقع (2 / 2) بقلم: د. شعبان عبدالحكيم محمد

شعرية الإيحاء ... والنص الموازي للواقع (2 / 2)
تأملات بطل أحمد طوسون للمكان الذي تدور فيه الأحداث، وصدى هذه الأحداث على نفسيته، والتي أدت به إلى افتقاد الذاكرة.
ميدل ايست أونلاين
بقلم: د. شعبان عبدالحكيم محمد

بناء دائري لا يخضع للتراتب

تجاوزت الرواية الحديثة تقنيات الرواية الكلاسيكية في بناء الأحداث والشخصيات والزمن والمكان، فبناء الأحداث في الرواية الكلاسيكية يخضع للتسلسل والمنطقية، ومبدأ السببية، أما في هذه الرواية – كرواية حديثة - فلم نجد أحداثا متوالية بصورة منطقية.

عنوان الرواية يشي بذلك "تأملات رجل الغرفة" إنها تأملات البطل للمكان الذي تدور فيه الأحداث، وصدى هذه الأحداث على نفسيته، والتي أدت به إلى افتقاد الذاكرة، ومرحلة افتقاد الوعي بالذات والواقع، وبالأحداث المحيطة به، فالرواية ليست رواية حدث بقدر ما هي استجلاء ما يوحى به هذا الحدث من ضياع وتشتت، وقهر سياسي واقتصادي.

الرواية في أحداثها لا تخضع لمبدأ التسلسل والسببية، حدث ينتج عنه حدث آخر كنمو طبيعي له، تبدأ الأحداث بوصف حالة عايد المرضية، تعرض لحادث أليم لا يتذكره، أعتقد أن هذا الحادث هو نتيجة ما أصابه من آثار التعذيب الذي عانه في الغرفة إياها، ونقل على أثرها للمستشفى، التي هي جزء من السجن، أو امتداد له - وكما ذكرنا من قبل - توازي المجتمع المصري، ويتوالي السرد بعد ذلك، فيقوم بالتحقيق معه محقق في غرفة تابعة للمستشفى وأسئلته توحي بأنه سجن سياسي:

"تهم سياسية تحيط به؟ هل يعرف شيئاً عن السياسة؟ الأحزاب ... التنظيمات السرية؟ منظمات المجتمع المدني؟ المنظمات الدولية؟ الأمم المتحدة؟ هل غادر البلاد من قبل للعمل أم للسياحة؟ أي هواية أخرى؟ القراءة؟ كتابة الخواطر؟ هل تحب الفنون؟ هل تعرف شيئاً عن شبكة المعلومات الدولية؟"... إلخ ص 17

بعد ذلك يُنْقل إلى غرفة أخرى بها اثنان من زملائه (محمود ويحيى) نفس الظروف، بل والمرض افتقاد الذاكرة وتناول الدواء (المخدر) والحلم الموؤد، الذي أدى إلى القبض على يحيى ووفاته، لتنتهي الرواية بدفن يحيى، وما بين البداية والنهاية لا نجد سوى ضياع المقيمين في المستشفى، جولاتهم المحدودة في المبانى المرفقة بالمستشفى داخل السور العالي، تخفيف المعاناة عنهم بإدخال الصحف إليهم، ووضع شاشة عرض في كل حجرة تعرض عليهم الأفلام التي تريدها إدارة المستشفى. استغلال الممرضين لهم وسرقة طعامهم وحاجاتهم، زيارة لجنة للمستشفى، لبحث حالة المرضى، ولكنها لا تقف على الحقيقة بالضبط لتمويهات رجال الأمن، وهذا الحدث يستدعي زيارات بعض الحقوقيين للسجون، ودور الأمن في تضليل الرؤية على هؤلاء. دخول الإسعاف للمستشفى، وما يوحيه ذلك من اعتداء على الجماهير خارج هذه الأسوار.

البناء في الرواية بناء دائري، لا يخضع للتراتب، أو المنطقية والسببية، والأحداث تتجاور فيما بينها لتصنع نصاً ذا إيحاء بحياة القمع والبطش، فمثلا علاقة عايد برفيقه محمود ويحيى لا نجد لها إيقاعاً خاصاً. فهما يعيشان معاً بأجسادهما، كما قال محمود لعايد: الق بكل ما مضى خلف ظهرك. أهم شيء هو أنك معنا هنا. ص 33

كان لا يصطحبهما معه فى تجولاته المحدودة داخل سور المستشفى ... إلخ، وعلاقة عايد بسلوى لا تسير في أحداث متتالية، دخلت عليه ذات يوم فانتشى بعطرها. وشعر بإنسانيتها، ورحلت بعد ذلك، وأصبحت ذكرى يتمنى رؤيتها، وعلاقته بريم لا تقوم على أحداث تسرد بقدر ما هي تأملات في هذه المرأة الرمز كما سنوضح ... إلخ، حتى في النهاية لا نجد سرداً لجنازة يحيى بقدر ما هو إدانة للنظام القمعي المتوارث من سنين.

نجد عايد يتأمل في شواهد القبور التي تجمع بين سنوات عديدة متجاورة ومتداخلة... 1850 - 1887 - 1911 - 1923 - 1945 - 1948 - 1953 - 1967 - 1975 -1977 - 1981 - 2000 - 2001 - 2003 -2004 - 2005 - 2006 - 2007 - 2018 ....إلخ (ص 122) مجرد تواريخ بلا دونت بلا أسماء، تواريخ لا حصر لها. خوف وقهر وهزائم. لن تتذكرهم صفحات الوفيات ولن تعرفهم سجلات الموتى. فالكاتب يوحي بأن سجلات القتل والإبادة متجذرة منذ فترة طويلة. وستستمر بدليل كتابته لشاهد بتاريخ 2018 ... إلخ.

لم تحفل الرواية الحديثة بذكر سمات البطل ليكون ذا ملامح خاصة ومهابة متفردة، ليكون رمزاً لعصر، أو شاهداً عليه. فالشخصيات تقنيات فنية، تبلور دلالة النص الروائي، وتتداخل مع المكان ومع الزمن، وقد وصفها رولان بارت بكائنات من ورق، لأنها ليست مقصودة في حد ذاتها بقدر ما هى ترسيخاً لرؤية ما للكاتب. وتكاد الشخصيات تنقسم إلى قسمين: شخصيات مقهورة في المستشفى (أو قل في السجن) عايد، محمود، يحيى، سهام، ريم، سنية.

القاسم المشترك لهذه الشخصيات كما ذكر الكاتب "كل نزلاء العنابر فقدوا هويتهم. لم يخطأ أحدهم ويتحدث عن زائر، لا تسمع سوى خوار أبقار تتداعى. ولا زائر وحيد يطرق أبواب المستشفى 65 كل النزلاء بلا أهل أو معارف أو أصدقاء. هل فقد الناس خارج أسوارنا ذاكرتهم أم طمسونا من حساباتهم ..." (ص66)

إنهم يتفقون في افتقاد الهوية والضياع، ويكادون يشتركون في الصفات والمعاناة التي مرَّ بها عايد، التي جعلت كل فرد لا يشعر بمن حوله، ويعيش هذه الوحدة والاغتراب المقنع، فعايد مع توالي الأيام في هذا المكان انفصمت عرى العلاقة بينه وبين رفاقه:

"وبات واضحاً تجاهله لكل ما حوله، فلا تربطه علاقة بالأشخاص ولا بالأشياء، ولم يعد أحد قادراً على تحديد ما إذا كان يشعر بوخز الإبر وألم القساطر والمناظير ومرارة الأدوية مثل باقي المرضى، أم أن جسده أصبح يستعذب الألم ويحن إليه ... وكان يقضى بعض الأمسيات في الكافتيريا ولا يصطحب معه يحيى ولا محمود ..." (ص 37).

هذه الشخصيات المحبطة التي تفتقد الحاضر بل والغد اللهم في الحلم الذي يكون ثمنه غالياً، كما رأينا مع شخصيتي خضر ويحيى. وقد أثرت الأحداث – وكذلك المكان - في صنعهم بهذه الصورة.

شخصيات الممرضين والممرضات، وهي شخصيات بدون أسماء، لأن الكاتب يريد من الشخصية دلالتها، فهي نماذج لشخصيات نفعية، وهي التي ساعدت على صنع الطبيب بهذه الصورة، وقد استغلوا وجودهم في نهب إمكانات المستشفى فأخذوا أكل المرضى وعلاجهم الذي باعوه خارج المستشفى، يضاف إلى هذه الشخصيات شخصية حسين الذي تبدل وسار مع رجال الأمن (فكل هذه الشخصيات شخصيات نفعية).

الطبيب الذى يقوم بترسيخ سلطته فى البداية كان قريباً من الجميع، ولكنه بعد ذلك أدرك اللعبة، فلم يعد يجلس مع الممرضين، ويعلم أن بقاءه ببقائه، والعكس، وأملى عليهم تمثيل مسرحيات لبقائه، وللشعور بولائهم ولإيهام المرضى بالعمل من أجلهم، فادعى تقديم استقالته، ونزل الممرضون والممرضات فى مسيرات لعودته، وحباً لهم وحفاظاً على صحة المرضى كان رجوعه ... إلخ.

وهناك شخصيات ظهرت بدون أي وجود فاعل كشخصيات: الدكاترة الثلاثة الذين عاينوا حالة عايد فى أول الرواية، شخصيات العاملين فى المستشفى، شخصيات الوفد الذي زار المستشفى للوقوف على حالات المرضى ... إلخ.

لعل أكثر الشخصيات ثراء وعمقاً في الرواية الشخصية هي شخصية "ريم" وهي شخصية نامية حية، إنها رمز لمصر، هذه الروح التي تسري في الجسد سريان الكهرباء في أسلاكها، حتى في رسمها جاءت الكلمة معبرة عن هذا الشعور، فيصف أول لقاء بينهما في قوله:

"يسمع وشوشات خطواتها التي لا تلامس الأرض، تقترب أقدام ناعمة تشبه خطوات قطة. القشعريرة تسري بجسده. ريح صغيرة تدغدغ أحاسيسه، اقتربت منه بحذر ولهفة. مسحت براحة يدها فوق شعره. تلك اللمسة التي خدرت جسده كله، دار بوجهه ناحيتها، كانت هي ريم االتي تفحصته أول مرة بالكافتيريا، لم ينس عينيها. كان مرتاباً في كل شيء. من هذه العيون التي تعريه. جلس على مقعد خالٍ. بين زورقتهما كان زورق صغير ينتظر وينادي عليه. هرب بعينيه بعيداً إلى النوافذ الزجاجية. خاله شعور أنها تهويمات وأحلام الغرقى. كان يثقله الشعور بالاغتراب عن المكان". (ص 55)
       
       
       

لم يستطع المواجهة لأنه خجل من نفسه، فلن يفعل شيئاً من أجلها، فهرب منها، لا كرها ولا صدوداً ولكن نفسيته لم تعد تستطيع تحمل فوق ما في طاقته، وظلت هذه العلاقة الدافئة بينهما يشوبها الإجلال والاحترام، بعيداً عن النزوات الممتعة:

"اعتاد نظراتها التي تبدو حانية، مشفقة، مشتاقة. وأحيانا غاضبة، هادرة كبحر عاصف، لكن ما تأكد منه أن عينيها دائما ترصدانه أينما كان. تحاصرانه باللوم والعتاب على شيء لا يعلمه ولم يفعله لم تهرب منى يا عايد؟ لم يعرف بمَ يجيبها، هل تعرف أنه يهرب من الجميع، حتى من نفسه التي لا يعرف عنها شيئاً. تأمل عينيها الحزينتين ...." (ص 56)

وإضفاءً للواقعية على الحدث جعلها معه في نفس المكان، ولكنه لم يجعلها تعاني معاناتهم. لأن الوطن لا يُسْجن. وظلت ريم رمزاً للخصب والنماء حتى نهاية الرواية:

"اتساع زرقة عينيها لم يمنع زخات المطر من السقوط، لم يشعر حين سألها إن كان يعرفها. كانت أقرب إلى النشيج. بدا صوتها الناعم كعزف ناي حزين. وربما تفر هاربة من دموعها ..." (ص 57 )

وعادة ما تجيىء المحبوبة الوطن منتظرة من محبوبها فك أسرها، وتجاوز محنتها، وهذا ما نجده في "ريم" في هذه الرواية:

"قالت إنها انتظرته طويلا. خاطبت الغمامات البيض. استعطفتها ألا يغيب عنها، كل يوم تلبس فستانها الأبيض وترنو إلى النافذة وتنتظر، لم تكن تعرف له اسما. لم تكن تعرف له موعداً، لكن يقينها قال لها: إنه آت .. لا بد من انبلاج الفجر البعيد بعد طول الظلمة ..." (ص 58)

ويظل هذا النداء والأمل في الغد، وهو حزين، لقد عاش صامتا معذبا:

"يرنو ويبعد، يلامس الطريق فتأخذه المتاهات بعيداً، تريد أن تصرخ فيه .. تناديه لكنه ما زال حبيس أسره، يعلق انكساراته على مشجبه ويسير، عند المصلى يتوقف. شجن الصباح كان ثقيلا وكثيفا. نداء قديم يستدعيه ... " (ص 59 )

هذا النداء قادم من وراء الذاكرة الممحاة يسكن أعماق النفس العطشى وسط صحراء التيه.

***

الزمن والمكان تقنيتان فنيتان فى الرواية، فلم يُنظر للمكان كخلفية للأحداث، ولا للزمن كوعاء وقتي للأحداث، يُراعى فيه المنطقية والإقناع، فالمكان – هنا – المستشفى التي هى السجن، أو امتداد له، المكان مشكل للحدث وللشخصية، مكان موبوء بالطبيب الذي لا يزاول عمله بإتقان وممرضين ليس همهم سوى مصلحتهم، والعمل على تغييب النزلاء، وسلب قوتهم وعلاجهم الذي يبيعونه في الخارج، وتلميع الطبيب، والعمل الجاد لإبقائه في الصورة المدهشة والتي تضفي عليه الهيبة والإجلال، كل هذا عمل على افتقاد قيمة الوقت، وشعور عايد ورفاقه بأن المكان تحول لسجن، وأن الزمن لا قيمة له، ولا محدودية للوقت، فكل الأوقات سواء، وكل الأيام سواء، فلم يعد عايد – ورفاقه - يدرون كم مرَّ من الوقت.لا فرق بين ضحى وعشية. بين ليل ونهار ترى أشباه الرجال، لا توجد علامة يسترشد بها ليعرف أن يوماً مرَّ، وآخر يتولد هناك فى رحم السماء ( ص 21).

لقد أدى إحباطه إلى التمرد على المكان وعلى الزمن:

"يذهب ليضيىء نور الغرفة ثم يعود ويغلقه. يضيىء ويظلم. يضيىء ويظلم. انهال على زجاج النوافذ بكفيه. برأسه. بساعديه. بالسطل المعدني. بكل ما استطاعت يداه أن تنالاه، حتى هشم زجاج النوافذ فتناثر على أرضية الغرفة خيوط دم. حتى زر الكهرباء فقد السيطرة عليه وأصبح التحكم في إضاءة الحجرة آلياً كما ظن، لأن المصباح الكهربائى ظل مضاء طيلة الوقت". (ص 23)

الزمن لا قيمة له، لاحدود له، لقد "كان من الصعب عليه الإمساك بالزمن. تركاه في غرفة مظلمة يتسلل منها ضوء أبيض يشبه سحابة كبيرة لا تكشف عما خلفها، أما هو فكان يشبه مومياء داخل تابوت أغلق منذ آلاف السنين، في انتظار أن يكتشفها أحد". (ص 13)

المكان فيه الموات، غرفة مغلقة، أو مباني يحوطها أسوار عالية "الجدران حولهم متعددة، كل جدار خلفه جدارن أشد صلابة وقسوة". علاج مخدر، وأكل بقدر، في سجن، أشار إلى ذلك في تبولهم في سطل، وهذا لا يحدث إلا في السجن، كل هذا يشعر النزيل بالموات الروحي فقد كان عايد "ينتحي جانبا ويحملق من خلال خصاص النوافذ إلى العتمة اللامتناهية يبدو وكأن خوفاً ما يرج كيانه، خوف لا سبيل إلى مواجهته إلا بهذا الهدوء والصمت ...." (ص 37 )

إنه يعيش في سجن كما قال الكاتب: "ولم يعد أحد قادراً على تحديد ما إذا كان يشعر بوخز الإبر وألم القساطر والمناظير ومرارة الأدوية مثل باقي المرضى، أم أن جسده أصبح يستعذب الألم ويحن إليه ..." (ص 37)

علاقات ممزقة بين الأفراد، سجن بفظاظته، يُفرض على كل النزلاء: "قائمة طويلة من الأوامر والنواهى لا نهاية لها تدوى بها مكبرات الصوت كل يوم، ثم تعود وتفرض خروقات لها أو تضيف التزامات عليها دون ضابط " (ص 36)

كل ذلك صنع حياة من اللامبالاة والاغتراب للنزلاء، فعايد "اعتاد على عدم الاحتفال بالعاملين ولا بالأوامر ولا بالنواهي. الذي بينهم طاعة عمياء لا تفرق بين كبير وصغير طاعة مصحوبة بصمت مقهور" (ص 36).

حياة لا قيمة لها مع الإحساس بفقدان الوقت وجمال المكان "لا يعرف كيف خامره هذا الشعور. أحس بأن شيئاَ ينسحب من داخله ويسحب الحياة معه، زادت نبضات قلبه، وبدا كمجنون يقطع الحجرة ذهاباً وإياباً مرات ومرات". (ص 38)

لم يحدد الكاتب مكان الأحداث (فى أية بقعة مصرية) وهذا يعطي المكان فسحة ليجعله غير مختص بمكان ما في هذا القطر، أو في الوطن العربي، وهنا لجأ إلى لعبة الإيهام فكتب عن القتلى في سجن بغداد، ليوحي بأن ما حدث كان في العراق، ولكن استقراء المكان في الرواية يشي بأنه مكان غير محدود، وفي هذه البقعة من الوطن العربي.

***

يجنح الكاتب لاستخدام اللغة التصويرية التي تصور المواقف، في يعبأ باللغة التقريرية ولا باللغة التسجيلية للمشاهد، فمن بداية الرواية نجد هذا الملمح متأصلاً، وهذا الملمح الفني يستقطب العمل كله من بدايته لنهايته، فهو يصور المشهد من جميع جوانبه: الأشخاص والمكان والحدث، ونقف على بعض أمثلة لتأكيد رؤيتنا:

"بدا كل شيء يشبه صمت الموت. الجدران ببياضها المشوب بصفرة مؤلمة. زجاجة المحلول التي رقدت باستسلام فوق الحامل المعدني بعد أن فقدت عافيتها وأصبحت ممصوصة، وتوقفت قطراتها عن التساقط البطىء. السرنجات التي تركها الممرضون عارية بجواره على الكومدينو. الأدوية، كلوحة سريالية تتناثر على أرضية البلاط قطرات قانية لدم متيبس. جو لا يوحي بوجود هواء في الحجرة. حين حاول فتح عينيه بدا كأنه ينظر إلى مرآة صدئة مقشورة لم يتبين فيها شيئاً. باستسلام أرخى جفنيه. شعر كأن جحافل من النمل تسير ببطء فوق جسده. في أذنيه يدوى شيء يشبه الريح الصغيرة، حاول أن ينبه حواسه وأعضاءه فلم تستجب. وربما عاد في غيبيوبة جديدة. على وجهه مزيج من الرعب والألم ولفائف الشاش الأبيض تغطي آثار الجفوت والمقصات المغمورة بالمطهر". (ص 9 : 10)

السرد يصور للمكان في كآبته وما به من محاليل وسرنجات وحامل وشاش. المكان الذي يفتقد النظافة والجمال, وللحدث قيام الممرضين بعملهم في صورة آلية لا حباً للعمل ولا رغبة فى إجادته. المريض نفسه وشعوره بالانقباض لعدم راحته النفسية للمكان. كل ذلك من خلال اللغة التصويرية التي يجيدها الكاتب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق