الصفحات

2016/09/12

ساق البامبو.. قراءة انطباعية بقلم: علي قوادري

ساق البامبو.. قراءة انطباعية
 بقلم: علي قوادري


رواية “ساق البامبو” للروائي الكويتي سعود السنعوسي الفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية (بوكر) في دورتها السادسة للعام 2013تفضح ماسيأتي منذ أن تقرأ هاته الفقرة :
لم أكن الوحيد من الفليبين الذي ولد من أب كويتي، فأبناء الفليبينيات من أبناء كويتيين خليجيين وعرب وغيرهم كثر . أولئك الذين عملت أمهاتهم خادمات في بيوتكم، أو من عبثت أمهاتهم مع سياح جاؤوا من بلدانكم بحثا عن لذة بثمن بخس لايقدمها سوى جسد أنهكه الجوع . هناك من يمارس الرذيلة لإشباع غريزته، وهناك مع الفقر، من يمارسها لإشباع …معدته والثمن في حالات كثيرة، أبناء بلا آباء..
رواية ساق البامبو
سعود السنعوسي ص/18
من هنا يرسل الكاتب أو خطاباته مدينا مجتمعا بكامله، ويفضح كواليس فضائحه دون مساحيق بلغة مباشرة تقريرية تكاد تنفجر غضبا..لينقلنا في رحلة تراجيديا لبطل لم يختر مصيره بحبكة قوية ومسرح رغم تداخل الأحادث والشخصيات فالكاتب بقي ممسكا بالخيوط بمهارة وتمكن..
العنوان كعتبة أولى للنص، يبدو غامضا وغريبا، من حيث أنه يستل الأسئلة ويشد انتباه وتركيز القارئ لماذا البامبو والتي لها تسميات كثيرة حسب البطل؟ البامبو كالبطل بلا ساق ولا جذور، من هنا تبدأ الرحلة..
مباشرة يتراءى اسم المترجم للرواية، فيعاودنا سؤال آخر لماذا الترجمة ؟ بالاستعانة بقوقل، يجيبنا الكاتب نفسه:
استخدمت تقنية الترجمة لكي أوحي بأنها سيرة ذاتية مكتوبة بقلم فلبيني. بطريقة ما وضعت رواية داخل رواية، إنها مجرد لعبة روائية لإثارة القراء ليس إلا.هذا رد الكاتب سنعود السنعوسي في حوار أجرته معه جريدة الشرق الأوسط..)


رحلة البحث عن وطن داخل الوطن:
ساق البامبو رواية تصور ثقافتين لبلدين مختلفين تماما ؛بلد الأب وبلد الأم
.يسافر بنا البطل بين عائلتين ؛عائلة دفعها الفقر وهوس الأب المجنون بالديكة لتحطيم ابنته الكبرى وارسال الصغرى للعمل في الكويت، لتحب راشد وتنجب بطلا باسمين مختلفين وموطنين مختلفين وديانتين مختلفتين ولكنهما في الأخير يذكرنا بعظمة الله..عيسى هنا وهوزيه هناك..يشبه لحد كبير ابنة خالته ميرلا البنت غير الشرعية التي يذكرها وجهها الآوروبي بماضي أمها والذي من أجله كرهت كل الديكة كما تقول وهي تقصد الرجال..يكرهها جدها مثلما يكره البطل..
استطاع الكاتب أن يكتب على تيمات مختلفة بأسلوب سردي شيق، تاركا الأحداث تتطور من خلال الحرية التي اكتستها شخصيات العمل والمختلف في حيثيات كثير لتوثق وتسجل أحداثا عديدة وترصد أفكار وعادات مجتمعات مختلفة، ولعل أهم التيمات التي ترصدها السيرة الذاتية لبطل لم يختر قدره، ولم يختر والده ولا موطنه هي :
1/الفقر:
لولا الفقر والحاجة لما رمى الحظ بجوزافين نحو الكويت في بيت كبير تحكمه الجدة غنيمة بقوة وبصلابة شخصيتها وفي تحكمها الكبير بالعائلة وبمصائر أبنائها وبتمسكها بسمعة عائلة الطاروف المعروفة في الكويت ذاك المجتمع الصغير، وحلمها الكبير أن يصبح لابنها حفيدا يحمل اسم العائلة الذي حسبها تم استعمال التعاويذ من أجل محوه..هي رحلة شابة فليبينية للبحث عن عمل أحسن ودخل أفضل لإعالة عائلتها وحتى لاتلقى مصير أختها الكبرى الخالة آيدا والتي رمى بها الأب بسبب مراهاناته في الديكة لامتهان الدعارة لتعود بابنة غير شرعية حكم عليها المسقبل أن تكره كل الرجال وتصبح سحاقية وتهجر أمها عارية من ابنتها إلا من الماريخوانا والشراب..في المقابل تصبح أختها زوجة لشاب كويتي هو راشد، كاتب ومثقف ينجب منها عيسي أو هوزيه فيكون مصيره الرفض والترحيل مع أمه ويكون مصير الأب الاستشهاد تاركا ابنا منفيا ورواية لم تنته..
2/شخصيات مختلة
كثيرة هي تلك الشخصيات التي صورها الكاتب وكان موفقا في رصد سيكولوجياتها وعقدها وموتيفات/دوافع انحرافها كالأب ميندوزا الذي نكتشف بعد موته أنه لقيط كحفيدته ميرلا، بالإضافة لحالته التي عاد بها بعد مشاركته في الحرب والتي دفعته للافلاس بعد تتبعه رهانات صراع الديكة..ثم هناك البنت الكبرى آيدا بسب ضغوط الأب الشجع تصاب بنوبة جنون وتنتهي بالادمان..وفي المقابل للبيت هناك العجوز اينانغ والتي تموت مباشرة بعد موت ابنها..
3/التقاليد في مواجهة الواقع
في بلاد الأب يواجه البطل حالة عدم الاعتراف من العائلة ليس بسبب الدين ولكن بسبب عادات وتقاليد المجتمع الكويتي ؛ليبقى الابن غير معترف به خوفا من عدم امكانة تزويج البنات ..التاريخ هنا يعيد نفسه..فهو كما جاء على لسان أم البطل تلتمس الأعذار لزوجها (ليس بيده القرار لأن مجتمعا كاملا يقف وراءه) كما كانت أم جابر والسائق راجو وراء خروج عيسى من بيت أبيه..
4/تداخل الاديان والثقافات
كثيرا مايحيلنا الكاتب في روايته للتثاقف، فيمضي بنا في رحلات سريع للتعريف بشخصيات أثرت في بلدانها ويوظف شخصيات فنية وسياسية كخوسيه رزال في النسيج الكلي للقصة ..وأحيانا تصبح السياحة متاحة من خلال التعريج على الديانات التي تؤثث بلدان آسيا بدءًا بما شاهده من تعميد في الكنيسة وصولا لمعبد بوذا من خلال صديقه تشانغ بائع الموز والأحاديث حول يسوع وبوذا ثم صديقه الفلبيني ابراهيم سلام في الكويت من خلال حديثهما عن النبي محمد (ص)وانتهاءً بدخوله المسجد في رمضان، معرجا لطقوس تلك الديانات وتأكيدا أن لافرق بين البشر جمعاء..
يناقش أحيانا فكرة الايمان والاسلام في حواراته الكثيرة مع أصدقائه وأحيانا في مناجاته، ففي هذه الفقرة يصور لنا تداخل الأديان كما تداخل دمه بين الكويتي والفليبيني، بين راشد المسلم العربي وجوزافين الخادمة الفقيرة والمسيحية
(كنت أمام ابراهيم أجلس.كان صامتا كما كنت أنا أيضا.في أذني اليمنى صوت الأذان يرتفع.في أذني اليسرى قرع أجراس الكنيسة.في أنفي رائحة بخور المعابد البوذية تستقر.انصرفت عن الأصوات والرائحة، والتفت إلى نبضات قلبي المطمئنة، فعرفت أن الله ..هنا..)ص 300
وفي مشهد آخر ينتقل بنا لآلات موسيقية تعزف ألحانا تقول بصمت ما لا يقوله الكلام، خلافا للملابس ووسائل الحياة والمعيشة..
5/آفات أخرى
لقد كانت الرواية عبارة عن لوحة ساهمت في رسم قيم المحبة كما رسمت مرض الكراهية في مجتمع بلد الأم وبلد الأب، وقد تميز الرسم برصد الكثير من الآفات التي تنخر المجتمعين كالشذوذ عند ميرلا والرجل الكويتي المخمور الذي كان يطارد عيسى طاروف لولا تدخل راشد ..ضف لذلك إدمان الخمور والزنا وحالات الولادة غير الشرعية، وعادات أخرى سيئة كالنظر للآخرين عند الكويتين..مأساة البطل أو تغريبته الأولى والثانية كانتا مرآة تعكس اكتشافاته الكثيرة لخبايا المجتمعين..
ساق البامبو رواية تستحق أن نقرأها؛لما تحويه من سرد جميل وتشويق مذهل حيث كان لتقنية اختار المترجم دورا في تميزها، بالإضافة لشخصياتها المتنوعة والمختلفة في كل شيء..رواية تطرح الأسئلة على لسان شخصيات في عوزهم وفقرهم وضحكهم ورقصهم وسياحتهم وعملهم، وفي معيشتهم وفي علاقاتهم الذائبة في صهريج بلوري يحمل ألوان الوطن وعقائد الدين وهموم وأحلام المستقبل..هي رواية المسكوت عنه في الحبيبة الكويت وفي مناطق عدة ..رواية المقهورين والمظلومين، كما هي رواية الأغنياء والظالمين، رواية تعرج بنا في مسالك وعرة من الدهشة والتعرف والانفتاح على آخر يبحث عن كينونته وذاته بين بلدين وثقافتين وبشرتين..بطل هو في الأصل ابن الشهيد الكويتي ولكن وجهه الفليبيني يبقى حاجزا بينه وبين أن يرتمي في أحضان عائلته..بين تعنت الجد الذي لم يتقبله في الفلبين وبين تعنت الجدة التي لم تتقبله في الكويت..هي أزمة الوجهين وجه هوزيه/عيسى الكويتي الأصل والفلبيني الوجة وميرلا بوجهها الاوروبي..
إنها رواية كويتية تعيد رسم خارطة السرد العربي، رغم كلاسيتها، فالكاتب هنا يعلن عن تشبع ابداعي مميز، وحرفية ترسم هندسة البناء بجدية، وإضافة نوعية للمدونة السردية الكويتية والعربية..هي الانفصام الذي تركته مقابلة كرة القدم في فصلها الأخير بين نشيد الكويت ونشيد الفلبيبن..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق