الصفحات

2016/12/05

"جسد للبيع " قصة بقلم: محمد نجيب مطر



 جسد للبيع
محمد نجيب مطر
خرج من المسجد بعد صلاة العصر، وجد من ينتظره على باب المسجد، رجل طاعن في العمر، يرتدي ثياباً ثقيلة في هذا الطقس المنعش، سلم عليه فأحس بالبرودة تجري في أوصاله، يغطي رأسه الصلعاء بقلنسوة من الصوف الثقيل الداكن.
بادره الرجل بالحديث : إنك لا تعرفني ولكن أنا أعرفك من زمن بعيد، نظر إلى الرجل بريبة فهو لم ير سحنته في حياته أبداً، أحس الرجل بما يجول في خاطره فلم يغضب واستكمل كلماته في ثقة: أبوك توفيق وجدك حسن كانوا من أصدقائي القدامى ... رحمهما الله، كانا يرسلانك إلى مكتبي وانت طفل لم يتجاوز العاشرة، ألا تتذكر الحاج أحمد خليفة..
تذكر الاسم ولكنه لم يتذكر الصورة، بالفعل يعرف هذا الاسم جيداً، كان والده يرسله إلى هذا الرجل عند الحاجة، ولكن الرجل يسكن في مدينة زفتى البعيدة، فما الذي أتى به إلى الاسكندرية، ريفياً لا يتمتع بكل هذا الذوق في اختيار ملابسه، ثم إنه أكبر من جده ووالده الذين فارقا الحياة من مدة طويلة.
هش وبش للرجل ورحب به، ولكنه أحجم عن دعوته إلى شقته المتواضعة فوق السطوح في حي باكوس بالاسكندرية، فالملابس المتسخة ملقاة في كل ركن منها، والأطباق ببقايا الطعام مكدسة في حوض المطبخ، وكتبه الدراسية و أوراقة متناثرة هنا وهناك.
أكمل الرجل كلامه وكأنه فهم ما يدور بخلده: لا حاجة بنا للصعود للشقة، فلا يمكنني الصعود للأدوار العليا، هيا بنا إلى السيارة لنتجاذب أطراف الحديث ونتناول الطعام في مطعم قريب.
شكره واعتذر عن الدعوة في أدب وسأله : ما هي الخدمة التي يمكنني أن أسديها إليك، أصر الرجل على دعوته وقال له : سأخبرك عما أريد أثناء تناول الطعام.
ولأنه يعرف أن الرجل ميسور الحال، ومشهور بالكرم الشديد، استجاب له على استحياء، فعلى الأقل سوف يعفيه ذلك من تجهيز طعام اليوم، ركب معه السيارة وسأله الشاب عما أتى به إلى الاسكندرية، فأخبره أنه افتتح مكتباً هندسياً للمقاولات فيها.
أقبل الشاب على الطعام بكل همه، بينما الآخر لم يكن يتناول الطعام إلا القليل واستغل الوقت في الحديث.
-       في الحقيقة أنا قادم إليك لأقدم إليك خدمة أنت في أشد الحاجة إليها.
-       الحمد لله لست بحاجة إلى أي خدمة من أحد، الأمور ميسرة والحياة مستقرة.
-       الحمد لله من قبل ومن بعد، ولكنك تعاني مشكلة في دفع مصاريف الدراسة في جامعة خاصة .. وكذلك مشكلة مصاريف المشروع .. و ...
قاطعه الشاب بسرعة غاضباً
-       عفواً إنها أمور شخصية لا أحب أن يطلع عليها أحد، و لا أن يناقشها معي، أنا أتدبر أموري و لا أحتاج إلى أحد.
-       العشرة القديمة وفرق السن بيننا، يجعلني في مقام الوالد الذي لا تغفل عينه عن ابنه.
-       هل ستعرض عليّ قرضاً أسدده إليك بعد التخرج؟
-       لا لن أقرضك أي شئ.
اتسعت عينا الشاب من الدهشة وفتح فمه ليقول شيئاً غير أن الرجل عالجه بقطعة كبيرة من الكباب وضعها في فمه، فبدأ الشاب على الفور في مضغها وهو يبتسم.
-       أعرض عليك عرضاً ولك الحق في قبوله أو رفضه، أنت تعرف أنني رجل ميسور، لكني مقطوع النسب، فليس لي ذرية، كنت الوارث الوحيد لأبي، وليس لي أقارب على قيد الحياة، فكرت في التبرع بأموالي للجمعيات الخيرية .. لكنني لا أثق فيها، فمعظم التبرعات تصل لجيوب القائمين عليها، و لا يصل للفقراء إلا النذر اليسير..
-       أتريد مني أن أبحث لك عن فقراء يستحقون الزكاة أو الصدقة؟
-       لا .. إنني أبحث عن شاب يتقي الله، لديه الطموح والارادة لكي يصل إلى أعلى الدرجات العلمية في تخصصه، يتزوج وينجب أولاداً يربيهم على العلم والإيمان، يرفعون شأن بلادهم ودينهم، فأكسب حسنات وأنا في قبري طالما امتد هذا الخير لأجيال قادمة.
-       هل تطلب مساعدتي في البحث عن شباب بتلك المواصفات؟
-       أنت المقصود بهذا العرض، أن ترث كل ثروتي.
كاد الفرح أن يطيح بعقل الشاب، لكنه كتم سعادته، و كأن الأمر لا يعنيه فلم يبدِ أي اهتمام، ولم يرد عليه، استمر في تناول الطعام بهمة بينما عقله يقلب الأمر، على الأقل سيتخلص من كل مشاكله المادية المزمنة، وسيضمن استكمال دراسته العليا في أفضل الجامعات الراقية في العالم، ولكنه يعلم أن الحياة لا تعطي إلا لتأخذ أكثر مما منحت، لابد أن يكون هناك شرطاً أو شروطاً لهذا العرض.
-       وما هي الشروط؟
-       ليست شروطاً بالمعنى التقليدي ولكنها خطوات لتنفيذ الاتفاق، إجراء فحوصات طبية دقيقة لضمان أن ثروتي ستؤول إلى رجل كامل اللياقة الصحية والنفسية، وسيتم هذا الكشف من قبل أرقى شركة تأمين في مصر.
-       هل هناك شئ آخر.
-       لا، سيكون التنازل عن طريق أوراق رسمية لا يمكن التراجع عنها.
علت الابتسامه وجه الشاب، بعد أن اتفق معه الرجل على بدء اجراءات الكشف الطبي، بعد عشرة أيام تسلم الشاب الأوراق وسلمها إلى الرجل، التي طغت عليه الفرحة بشكل كبير بعد الاطلاع عليها.
أخبره أن آخر كشف سيجريه في الغد على نشاط المخ في معمل خاص، هناك ألبسوه خوذة تخرج منها أسلاك متعددة موصلة إلى جهاز رسم المخ كما أخبروه، وبعدها سلمه الرجل الأوراق وخرج معه ليحتفلا بتلك المناسبة السعيدة، أكلا من الطعام أطيبه، بعدها ودع كلاً منهما الآخر، وقد حقق كلاً منهم مبتغاه.
أحس الشاب بصداع شديد في رأسه، بدأت تهاجمه الهواجس، كأنه يحلم وهو مستيقظ، تراءت له خيالات غريبة عن أناس لا يعرفهم، توجه إلى سيارة يراها لأول مرة، وكأن أحداً بداخله يوجهه نحوها، مد يده إلى جيبه وأخرج المفتاح وأدار السيارة وانطلق لا يلوي على شئ.
لا يدري كيف سار في الطريق و لا كيف وصل إلى هذا القصر الكبير، انفتحت له البوابة ودلف مباشرة إلى غرفة نومه، ألقى ملابسه على عجل، ودفس رأسه تحت الغطاء وراح في سبات عميق.
قام عند الفجر فوجد نفسه في حالة إعياء شديدة، حاول إضاءة النور من الزر الموجود بجانب السرير فلم يجده، مد يده لكي يحضر نظارته الطبية من الدرج المثبت في أعلى السرير فلم يجد الرف، تحامل على نفسه حتى نزل بعد جهد جهيد، وصل إلى زر الاضاءة بجوار الباب.
وجد أن غرفة النوم ليست غرفته، السرير فخم ومستدير ومساحته غرفة النوم تساوي مساحة شقته القديمة، عندما نظر إلى المرآة، وجد صورة الرجل العجوز ولم يجد صورته، صرخ بصوت عالي ولكن صوته خرج كالصرير، تلمس أسنانه فلم يجدها، هبط بسرعة إلى مدخل المبنى، قابله أحد الخدم فسأله هل هو بخير، ولماذا استيقظ اليوم مبكراً.
أخبره أن الحمام سيكون جاهزاً خلال دقائق، وسيجهز له الفطور حالما ينتهي منه، حاول تناول الطعام فلم يستطع حتى أحضرت له الخادمة طقم أسنانه من غرفة النوم.
بحث في غرفة المكتب، لم يجد أي نقود سائلة، استدعى المحامي فأخبره أنه تنازل طواعية عن الثروة لهذا الشاب الغريب، أمره أن يلغي هذا التنازل فأخبره باستحالة ذلك حسب بنود العقد المبرم، سأله عن مصاريف البيت كيف يتم تدبيرها، أخبره المحامي أن هناك وديعة في البنك باسم هذا الشاب الغريب يصرف من أرباحها على تدبير شئون البيت.
أسقط في يده، لا يعرف كيف يصل إلى هذا الرجل الذي سرق شبابه ومستقبله، وتركه كهلاً بائساً فقيراً، لا مستقبل له، سافر إلى مدينته السابقة ليسأل عنه، أخبروه أنه مات منذ زمن بعيد، وأن البيت قد بيع وهدم وبني مكانه برج عالي على شاطئ النيل.
عاد إلى شقته المؤجرة، فوجدها قد أجرت إلى ساكنين جدد، ذهب إلى المستشفى الأخير الذي أجرى فيه رسم المخ، لم يجده وعلم أنه تم اغلاقه بعد خروجه منه، عاد يائساً من كل شئ، فصادف في المنطقة أحد أطباء المركز، أخبره أن ما حدث في المركز هو نقل لكل المعلومات والذكريات بين مخين، بحيث تنتقل مشاعر وذكريات وخبرات مخ إلى الآخر.
علم السر أن هذا الرجل عاش في جسده، وعندما ضعف بحث عن أحد الشباب يكمل حياته في جسده، وترك عقل الشاب الأصلي في الجسد المتهالك للعجوز، وهو بذلك يحقق الخلود لنفسه، لكن الرجل أخبره أن هذا الشاب قد لقي مصرعه في اليوم التالي جراء حادثة سيارة أودت بحياته

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق