الصفحات

2017/01/24

قراءة في ديوان "الجسر" للشاعر وهيب نديم وهبة بقلم: سامي منصور



"الجسر"
الكاتب: سامي منصور

هذا هو ما اختار الشاعر الأديب المبدع "وهيب نديم وهبة"، عنوانا لآخر إبداعاته وهي ليست الأخيرة كما أتمنى.

شاعرنا وهيب غني عن التعريف، بعد أن سطع نجمه في سماء الأدب المحلي والعربي والعالمي.
كتب أستاذنا الشعر فأبدع، وكتب المسرحية فلمعَ، وكتب قصص الأطفال والشبيبة فارتفع، مما حدا بدور النشر الكبيرة أن تترجَم الكثير من أعماله الأدبية إلى العبرية والفرنسية والانجليزية.
أما "الجسر" فهي مجموعة شعرية صدرَت نهاية عام 2016، وفيها نرى وهيبا الإنسان قبل وهيب الشاعر، فهي تزخر بالمعاني الإنسانية الحياتية، وتعالج الضمير الإنساني وتجمع بين الأمل والألم، بين الخيبة والرجاء، بين اليأس والتفاؤل مع أن درجة التفاؤل تفوق درجة اليأس، وفيها خلطَ الوهيب خياله مع الواقع فصار خيالا واقعيا.

رأينا وهيبا الوطني الذي يعتز بعروبته وبأبناء جلدته، ووهيبا الذي يصوّر العنصرية بقلم قاتم، إذ أن العنصرية سوداء تغطي جمال الحياة، ورأينا وهيبا الذي رغم "سكون" التاريخ يحاول المضي قدما:

الْجِسْرُ
-1-
خَرَجَ الصَّبَاحُ مِنْ حَديقَةِ اللَّهِ
باكرًا
نَزَلَ مِنْ  دَمْعِ الْوَرْدِ الْأحْمَرِ
كانتِ الْخُيُول تَعْبُرُ مَرْج السَّنَابِلِ
.. .. ..
قَفَزَ الْمُهْرُ الْأَبْيَضُ كَالْرَّصَّاصَةِ
.. .. ..
عبَرَ الْجِسْرَ عَائِدًا
فِي قَمِيصِ الدَّمِ..
-2-
تَرَكْتُ لفاطمةَ فَوْقَ الْجِسْرِ
شَجرَةَ  الشِّعْرِ وَالْمَطَرِ.. .. .. ..
وَحِكَايَة الْاِغْتِرَابِ وَبَوَّابَة الْفَرَحِ
تَعَالَتْ  صَرْخَاتُ السِّيُولِ
وَطَرَقَاتُ  اللَّيْلِ عَلَى السُّدُودِ
وَصَلِيل السُّيوفِ تَقْرَعُ الْمَكَانَ
وَصَهِيل الْخُيُولِ
تَهِزُّ سَيِّدَةَ الدُّنْيَا “ الْأَرْض"
وَيَنْهَمِرُ الْمَطَرُ
-3-
قَالَتْ فَاطِمَةُ: كُنْتُ قَدْ عَلَّقْتُ فَوْقَ شَجَرَةِ
الدَّمْعِ (يَمَامَةً)..
.. .. ..
حِينَ اِسْتَيْقَظْتُ.. كانتِ الْيَمَامَةُ
مَصْلُوبَةً بَيْنَ الشِّعْرِ وَالْمَطَرِ
رَكَضْتُ حَتَّى آخِر الْجِسْرِ
عَلَّقْتُ سبحة جَدِّي
وَكُوفِيَّةَ أَبِي
وَقَمِيص أَخِي
.. .. .. وَالرّيحَ عَبْرَ الْجِسْرِ
(القصيدة- الْجِسْرُ- ص 7)

ووهيب لا يحاول تخطي الجسور، بل يحاول ربطها لتكون جسرا واحدا تعبره البشرية إلى الأحسن، وينتظر الربيع العربي الذي بدأ من الصحراء، وترقّبه العالم اجمع، إلا أنه قوبل بشتاء قاسٍ أغْرق الربيع وتركه:

غَزَّةُ..
تَرْتَدِي جَسَدَ الشَّهِيدَةِ
تَسْقَطُ (اِلْغَيْن) فِي الْبَحْرِ
(مَثَلَ قَذِيفَةٍ.(
عِزَّةُ
طِفْلَةٌ أحْلَى مِنْ وَرْدِ الدِّفْلَى
تَحْمِل "شَنْطَةَ"
تَذْهَبُ خُلْسَة إِلَى الرَّوْضَةِ..
عِزَّةُ..
تَعُودُ إِلَى صَدْرِ الْبَيْتِ جُثَّةً..
تَلْبِسُ الْأَرْضُ جَسَد اللُّغَةِ
تُنَبَّتُ أَشْجَارُ الرّيحِ فِي عُرُوقِ
الْأَرْض..
يَنْسَكِبُ الدَّمُ.. يَتَوَحَّدُ فِيهَا
تُصْبِحُ أَنْتَ وَالْأَرْضُ وَأَشْجَارُ الرّيحِ
الْوَطَنَ..
(القصيدة- مِنَ الْكَرْمَلِ إِلَى بَحْر غَزَّة- ص 10-9)
                                                                                 
ثم يأخذ الجسر وهيبا إلى العراق حيث يرى الويلات لكنه يظل متأرجحا بين الموت والحياة، بين اليأس والرجاء:

يَدْخَلُ الْبَحْرُ مِنْ نوَافذِ الْعِرَاقِ
عَاصِفًا،  جَارِحًا كَالْرّيحِ
مُثْقَلًا برائحة الدم وَالْحَديدِ
وَصَيْحَاتِ الرَّصَاصِ..
اللُّصُوص يَحْصِدُونَ الأبرياءَ..
الْعَاشِقَةُ تُعَلِّقُ أَكْفَان الْموتَى
عَلَى حَبْل غَسِيل الدَّمِ
(تَتَسَاءَلَ الْعَاشِقَةُ أُمَّاهُ مَتَى أُعَلِّقُ  فُسْتَانَ فَرَحي؟)
(القصيدة- الْبَحْرُ وَالْعِرَاقُ- ص11)

من هناك يعرّج وهيب إلى القدس وكأنه يستنجد بقداستها، لكن الواقع المرّ فاجأه:

أفتَحُ صَدْرِي،  رَبِيعًا سَيَأْتِي أَحَمِلُ قَلْبيِ
أَبْنِي جُدْرَانَهُ مِنَ الاسمنتِ الْمُسَلَّحِ
مَلْجَأ لِقَمَرٍ مَسْرُوقٍ وَرَبِيعٍ آتٍ..
أعبُرُ الخوفَ والرّصاصَ والجنودَ
والحدودَ..
أعبُرُ إلى مكّةَ المكرّمة
(القصيدة- الْقُدُسُ- ص13)
                                                               
لعلّ وعسى.. ولكن حتى من ذاك المكان المقدس يطل الشاعر نحو ارض العروبة، فيرى كأنّ شيئا لم يتغير منذ تلك الأيام إلى القرن الحادي والعشرين:

يعربُ بنُ كنعان العربيّ..
يكتبُ في زمنِ المحْلِ، القحلِ،
القتلِ، الجوعِ، القهرِ، الإرهابِ..
في القرن الحادي والعشرين..
إلى عزّ الدّين المناصرة
في  قناطر عمّان..
إنّ نخيلَ العراق دماءٌ..
عادَ المغولُ..
إنّ بحرَ غزة يرتدي السّواد..
ولا عادتْ خيولُ نجد.. ولا
لمعتْ شمسٌ على السّيفِ اليمانيّ..
ولا..
رقصتْ حوريّاتُ اليمامةِ،
ما بينَ البحرِ وبينَ البحر..
وليلُ كنعان يُشرقُ في عزّ الظّهيرة..
شمسٌ في عينَي النّهار..
(القصيدة- مِن يَعرُبِ بنِ كنعانَ العَرَبيِّ إلى عِزِّ الدّينِ المَناصرَةِفي قناطرِ عمانَ- ص 16)

المقطع الثاني من نفس القصيدة - 16-17-
أسرابُ الفراشاتِ رصاصٌ..
وأسرابُ العصافيرِ شظايا الحديدِ..
تأخذُ شكلَ المكانِ..
وباقةَ الزّهورِ في احتفالِ المقابرِ..
والعاشقُ يرتدي زمنَ الذّهولِ..
والحبيبةُ في انتظارِ الورود..
والوردُ دماءٌ في كفّي العريس..
مِن أينَ يا عزّ الدّين..
مِن أين  يَطلَعُ النّهار؟!

ثم يحطّ وهيب في ارض كنعان، وبيارات يافا و"تل الذهب" ويذكر بحزن تلك الأيام، التي جاءت الهزيمة وأطاحت بسعادة الإنسان.. وفي لبنان يصنع "طفل بيروتي" طائرة من ورق...

طفلٌ لبنانيٌّ مِن بيروت
يصنعُ طائرةً مِن ورقٍ..
ترقصُ في فضاءِ الفضاءِ..
خيوطُها المزركشةُ تلعبُ في الهواء..
تجتازُ المبانيَ والبيوتَ..
فجأةً..
فجأةً تحومُ في سماءِ الحرّيّةِ
أغنياتُ الموتِ والضّجيجِ
وعزْفُ القصفِ وأصواتُ القنابلِ..
تطيرُ ..
تطيرُ إلى سماءِ فلسطين
                                            
طفلٌ فلسطينيٌّ
يصنعُ مِن حجرٍ أصبحَ لهُ
أجنحةً عصفورًا..
يُعانقُ الطائرة..
يقودُها عائدًا إلى بحرِ بيروت
والبحرُ غابةٌ
والغابةُ أفاعٍ تزحفُ..
تهدمُ البيوتَ..

يَشدُّ الطفلُ البيروتيُّخيوطَ
الطائرةِ..
أشلاءُ الألوانِ المزركشةِ
تسبحُ في الفضاءِ
تَشدُّ الخيوطَ..
الرّيحُ تُعاندُ..
يتشبّثُ بأعمدةِ النّورِ المتفجّرة..
القصفُ يعانقُ جسدَ العصفور..
يموتُ.. لا يموتُ..
يفرُّ نحوَ مساكنِ الجنوب..
يهتفُ الطّفلُ العاشقُ دميتَهُ اللّبنانيّةَ..
عصفوري.. يا حجري الفلسطينيّ
الّذي صنعَ لهُ أجنحةً
خذني إلى الجنوبِ.
(القصيدة- حجرٌ أصبحَتْ لهُ أجنحةٌ!- ص 27)
                                                                                          
وتطير الطائرة إلى سماء فلسطين حيث يصنع "طفل فلسطيني" حجرا أصبحَ لهُ أجنحة.. يعانق الطائرة ويعود بها. يا لهذا التعبير المؤثر عن اللاجئين والمهجّرين بين أزيز الرصاص، بين عودة وضياع.
أما في قصيدة (أنتِ أو الوطن) فيتأثر شاعرنا من الاحتلال ويؤثِّر، ويحزن على التآمر الذي أضاع الأرض:

تلكَ حكايةُ الوطنِ
أرضٌ مستباحةٌ..  جسدٌ مستباحٌ..
ونباحُ كلابٍ.. تعوي.. 
(القصيدة- أنتِ أو الوطنُ- ص 29)

وهذا تعبير رائع لما يجري في الوطن، إذ أن الكلبَ ينبُح والذئب هو الذي يعوي.
ويتطرق وهيب إلى حكاية آدم وحواء وطردهما من الجنة، بتشبيهٍ لِما حدث للناس في الوطن:

فكّرتْ بائعةُ التّفاحِ أن تدُسَّ
السّمَّ..
لم تكنِ الشّرّيرةُ.. أو السّاحرةُ..
أو ملكة العصرِ والأوانِ..
كانتِ المحرومةُ مِن طعمِ التّفاحِ..
خرجَ آدمُ مِنَ الجنّةِ
وحملتِ الشّجرةُ الثّمرةَ..
والشّجرةُ.. واحدةٌ امرأة 
(القصيدة- أنتِ أو الوطنُ- ص 31)

وهذا تشبيه آخر للاحتلال الذي يمنع السلام: "حين فتحوا طريقا للمستوطنة.. قطعوا شجر الزيتون (علامة السلام).. وحين رجع "أبو علي" (البطل في العامية) لجمع الغلال قطعوا يده.. (اليد هي الفعل وهي التي تزرع الزيتون وتفلح الأرض) وعلّقوا رجله بزاوية الحديد.. كتبوا فوق صدره الإشارة "طريق المستوطنة" (رغم القسوة، تعبير في  تغيير وتبديل أسماء الأماكن)

حينَ فتحوا طريقًا للمستوطنةِ..
قطعوا شجرَ الزّيتونِ..
وحينَ رجعَ  “أبو عليلجمْعِ الغلالِ
قطعوا يدَهُ..
وعلّقوا رجلَهُ بزاويةِ الحديدِ
كتبوا فوقَ صدرِهِ الإشارةَ
طريقُ المستوطنة
(القصيدة- أنتِ أو الوطنُ- ص 32)
                                                                                                
القصيدة "بالأبيض والأسود" تعالج أسوأ ما صنع الإنسان لنفسه وهي العنصرية:

كانَ ليلُ وجهِهِ الأَسْوَدِ..
يُضيءُ المكانَ..
ابتسمَتْ لهُ..
ارتسمَت الابْتِسَامةُ فوقَ شفتَيْهِ
كالشَّمْسِ،
أشرقتْ بالعِشْقِ في العَيْنَينِ كالقمرِ
وسْطَ السَّوادِ
وحينَ خَرَجا،
كانَ ذراعُها كأَفْعَى تلتفُّ حَوْلَ عُنقِهِ
بشدَّةٍ،
وذراعُهُ حولَ حديقةِ خَصْرِها يحضِنُها
بحنانٍ..
توقَّفا قليلًا ثم ابتَعَدا،
تاركَيْنِ خلفَهُما رائحَةَ العِشْقِ
تفوحُ في أرجاءِ المكانِ،
وكان البابُ الشاهدَ الوحيدَ
أنَّها إنسانٌ وأنَّهُ إنسانْ
وأن ريشةَ الخالقِ رسَمَتِ الطَّبيعةَ
بالأَلْوَانْ.
(القصيدة- بالأبيَضِ والأسْوَدِ- ص 44) 

هذا غيض من فيض مما تفتَّحَت فيه قريحة وهيب، وهيب الإنسان المحِب الراقي، الفنان الرسام النحّات، شاعر الحب والوطن والإنسانية، وإلى المزيد من العطاء يا وهيب.

إشارات:
·        "الجسر" مجموعة شعرية للشاعر الأديب "وهيب نديم وهبة" منشورات مؤسسة "الأفق" حيفا.
·        صدرت في نهاية عام 2016
·        لوحة الغلاف: بريشة "صبحية حسن"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق