الصفحات

2017/01/20

يوسف الشارونى بين التناغم والتمرد بقلم: يعقوب الشارونى

يوسف الشارونى بين التناغم والتمرد
 يعقوب الشارونى










يوسف الشارونى بين التناغم والتمرد يعقوب الشارونى كنت فى الرابعة الابتدائية ، لا أزال ارتدى " البنطلون " القصير ، عندما كان أخى الأكبر يوسف وأول أساتذتى فى السنة الأولى قسم الفلسفة وعلم النفس بكلية الآداب جامعة فؤاد الأول ( القاهرة الآن ) . وهكذا امتلأ البيت حولى ، منذ بلغت العاشرة من عمرى ، بكتب الفلسفة للدكتور عثمان أمين ، وكتب علم النفس للدكتور يوسف مراد ، والمسرحيات التى كانت قد صدرت فى ذلك الوقت ( 1941 - 1945 ) لتوفيق الحكيم ، الذى تعلمنا منه جميعًا فن الحوار وأسراره . وأذكر كذلك عندما أحضر لى أخى يوسف روايات نجيب محفوظ الأولى ، أنه قال كأنما يتنبأ " إنه أعظم كاتب رواية باللغة العربية ، وقد يحصل يومًا على جائزة نوبل . " ولست أعرف هل يتذكر يوسف أنه قالى لى هذه العبارة ، ولعله قالها ليثير حماسى لكاتب لم أكن قد قرأت له من قبل ، لكننى كنت أتذكرها دائمًا كلما انتهيت من قراءة إحدى روايات كاتبنا الكبير . وعندما حصل أستاذنا نجيب محفوظ على الجائزة عام 1988 ، تذكرت بقوة كلمات أخى يوسف الشارونى ، الذى أدرك بحسه الفنى المرهف أننا أمام روائى مصرى يستطيع أن يضارع أكبر أدباء العالم . * كذلك امتلأ البيت بعدد كبير من أصدقاء أخى يوسف ، مما أتاح لى الاستماع ، فى تلك السن المبكرة ، إلى كثير من المناقشات والآراء ، وقراءة عدد كبير من المخطوطات لأعمال أدبية وفكرية وفى مجال الدراسات النفسية ، مما آثار اهتمامى المبكر بقضايا وآراء متعددة ما كان يمكن أن يتعرف عليها من كانوا فى مثل سنى فى ذلك الوقت . * وكانت الثقافة الموسيقية من بين الخبرات المبكرة التى أتاحها يوسف الشارونى لى ولأخوتى فى ذلك الزمن المبكر من حياتنا . وقد لاحظ عدد كبير من النقاد ، أنه توجد فى كثير من قصص الشارونى " ألحان متقابلة " ، أو نغمة أساسية أو رئيسية ، تعقبها وتحيط بها تداعيات تنتقل بالقصة من الخاص إلى العام ، أو من العالم الخارجى إلى العالم الداخلى ، أو العكس ، ثم لا تلبث النغمة الرئيسية أن تعود أكثر قوة ووضوحًا ، وهو ما اعتدت أن أسميه " تنويعات ومقابلات على اللحن الأساسى " . والحقيقة أن ملاحظات هؤلاء النقاد حول المقارنة بين قصص يوسف الشارونى والأعمال الموسيقية صادقة جدًّا ، وإن كانوا لا يعرفون أن مصدرها هو ثقافته الموسيقية المبكرة ، التى تذوقناها معه ، نحن أخوته ، انطلاقًا من غرفته فى بيتنا الذى نشأنا فيه معًا . * وبهذه المناسبة أذكر أن والدنا ، عندما قرر الإقامة بالقاهرة ، وترك الريف و " شارونة " بصعيد مصر ، استصحب معه بعض قيم الريف ، ومنها الحرص على كثرة الأبناء ، فكنا تسعة ، يوسف ثالثهم وأنا سادسهم . كذلك حرص والدنا على بناء بيت متسع وسط قطعة أرض كبيرة المساحة ، لعلها تبلغ " الفدان " ، بها كرم عنب ونخيل وأشجار سنط ، وحديقة نزرعها ونلعب فيها ، لأن الإنسان لا يشعر فى الريف بقيمته الحقيقية إلا إذا كان يملك مساحة من الأرض الزراعية . فلما جاء إلى المدينة ، كان البديل عن الأرض أن يمتلك بيتًا متسعًا ، أتاح أن يستقل كل واحد من الأبناء بغرفة مخصصة له . وفى غرفة يوسف ، شاهدت مكتبته تتكون خطوة بعد خطوة ، أو كتابًا بعد كتاب ، فكان أول شىء حاولت أن أتمثل به أن أنشئ لنفسى مكتبة ، بل حاول كل واحد من أخوتى أن تكون له مكتبته الخاصة فى غرفته منذ سنواته المبكرة ، إلى أن أصبحت المكتبة تملأ معظم غرف بيوتنا حاليًّا ، وكان هذا من أهم نتائج القدوة التى قدمها لنا الأخ الأكبر ، بعد الوالد الذى كان يمتلك أيضًا مكتبة خاصة ، ونراه دائمًا مشغولاً بالقراءة أو الكتابة . * وعندما كان أخى يوسف طالبًا فى كلية الآداب ، كانت هناك جمعية اسمها " جمعية الجرامافون " لتنمية التذوق الموسيقى . كانت تجتمع فى بيوت الأعضاء بصفة دورية . والحقيقة أننى لم أكن قد استمعت إلى الموسيقى الكلاسيكية قبل أن أسمع من أخى عن تلك الجمعية ، عندما كان عمرى 11 أو 12 عامًا . وذات يوم أعلن لنا أخى يوسف أنه جاء الدور على بيتنا ، وأن أعضاء الجمعية سيجتمعون فى غرفته للاستماع إلى الموسيقى المسجلة على اسطوانات . وأحضر أخى الاسطوانات وجهاز تشغيلها ( الجرامفون أو البيك آب ) ، واستمعنا إليها مرارًا قبل وبعد مجىء زملاء يوسف ( فى الجامعة ) ، ومن بينها السيمفونية الخامسة لبيتهوفن ، وشهر زاد لريمسكى كورساكوف . وقد حفظنا أنا وأخى صبحى ( الدكتور صبحى الشارونى الناقد التشكيلى حاليًا ) مقطوعات كثيرة مما سمعنا ، وأخذنا نرددها فى البيت ومع الأصدقاء . وبدأ يوسف يكشف لنا أسرار القصائد السيمفونية ، وكيف أنها تدور حول لحن أساسى يتردد خلالها ، لكنه يفسح الطريق لغيره من النغمات ، ويكون التناسق أو التناغم أو الهارمونى ، هو الذى يحقق الوحدة والتماسك بين أجزاء العمل الموسيقى ويعطى له أثره الكلى . هذه الثقافة الموسيقية انعكست بوضوح على البناء المتناسق الذى نجده فى عدد كبير من قصص يوسف الشارونى ، رغم اختلاف النغمات ما بين العالم النفسى للبطل والعالم الخارجى ، أو ما وصفه أستاذنا يحيى حقى بأنها قصص " ذات بعدين " ، وهو ما جعل عددًا من النقاد ، كما ذكرت ، يشبهون قصص يوسف الشارونى بالأعمال الموسيقية ، وهم لا يعرفون أن يوسف الشارونى قد تأثر كثيرًا فى هذا بثقافته الموسيقية ، التى بدأت فى الجامعة ، ونقلها بوعى لمن حوله ، والتى طالما حدثت نفسى انها هى التى أوحت إليه بهذا الشكل الجديد الحديث لقصصه . * واللافت للنظر أنه مع هذا التناغم الذى يقوم عليه عدد كبير من قصص يوسف الشارونى ، فان هذا هو الشكل الذى اختاره ليعبر من خلاله فى معظم قصصه عن " التمرد " . إن شخصية يوسف الشارونى ، على الرغم مما يبدو عليه شخصيًّا من هدوء ، حافلة بالتمرد . لقد تمرد يوسف أصلاً على الشكل الواقعى للقصة ، كما تمرد على الشكل الرومانسى ، وبدأ كتاباته القصصية منذ البداية الأولى بالقصة الحداثية ، وبأكثر الأساليب معاصرة فى القصة القصيرة ، حتى أطلق بعضهم على كتاباته أنها " قصص تجريبية " . - أما من ناحية الموضوع ، فان روح التمرد هذه تسفر عن نفسها بوضوح فى شخصيات وموضوعات قصصه ، خاصة فى مجموعته القصصية الأولى " العشاق الخمسة " ، ويظهر التمرد هنا كنوع من الاحتجاج على ما يحيط الإنسان من ضغوط وأوضاع وتحديات . إن معظم شخصيات يوسف الشارونى يبدو فيها روح التمرد بوضوح . انها تتمرد على الواقع الذى نعيشه ، وتسعى إلى تغييره . * ولعل أوضح مثال على ذلك قصته " مصرع عباس الحلو " . إنها قصة إنسان يريد أن يتحرر من واقع يرفضه . إنسان يعيش حياة رتيبة خاملة ، ليس لها هدف ، ثم يتحول نتيجة الحب والطموح إلى إنسان متمرد ، يرتكب الفعل الإيجابى عندما يحاول القضاء على من حاولت ، ومن حاولوا معها ، احباط مشروعه للتحرر ، عندئذ يشعر أنه حصل على قمة تحرره وساهم فى تحرر العالم كله . - ومن خلال هذا التناغم بين العالم النفسى الداخلى والعالم المرفوض الخارجى ، ومن خلال هذا التمرد والاحتجاج والرفض الذى تعبر عنه الشخصيات ، فى بناء فنى متكامل ، نجد أنفسنا أمام أعمال فنية توحى بمواقف إيجابية تعطى الأمل فى التغيير وتحث عليه . إنها احتجاج على الواقع ، قد يفقد فيه البطل الحب أو الحياة أو العقل ، لكن قصص يوسف الشارونى ، من خلال ذلك كله ، وبما يختار الكاتب من ألفاظ وعبارات وصياغة ، تؤكد دائمًا ، ومن خلال الفن ، أنه فى قدرة الإنسان أن يغير دائمًا هذا الواقع إلى الأفضل . لقد وجدت دائمًا ، أنه بالرغم من البناء الفنى المحكم لمعظم قصص يوسف الشارونى ، فإنه يوجد خلف كل قصة شىء يريد أن يقوله . وأوضح هذه الأشياء ، أنه فى قدرة الإنسان أن يغير الأوضاع التى تقيده وتكبله والتى لا يرضى عنها . - نؤكد هذا بمثال آخر ، من قصة " رسالة إلى امرأة " ، فى مجموعته القصصية الثانية . إننا نرى فيها بوضوح صورة أخرى من صور الدعوة إلى التمرد . إنها من أوائل القصص فى اللغة العربية التى عبرت عن حاجة المرأة إلى التمرد والتحرر ، وضرورة هذا التمرد . إن قصة " رسالة إلى امرأة " ، من أوائل الأعمال الأدبية العربية التى توجهت مباشرة إلى المرأة ، لكى تغير من واقعها الذى تستسلم فيه إلى المصير الذى يفرضه الغير عليها .. مصير يرسمه أفراد الأسرة ولا تملك أمامه شيئًا . لقد استسلمت بطلة القصة ، لكن القصة نفسها تؤكد أن فى استطاعة المرأة أن تقاوم وأن تنتصر .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق