الصفحات

2017/01/29

أدخلوها آمنين بقلم: رولا حسينات

أدخلوها آمنين 
بقلم: رولا حسينات

ما رأيك؟؟ قالها وقطرات العرق تنزلق من جبينه لتملأ صفحة وجهه القمحي ولحيته الرقيقة باتت مبللة. قالها ووضع يديه على خاصرتيه وهو يحكم النظر إلى ذلك المجسم الجاثم على الطاولة الخشبية وقد تناثرت حوله الأسلاك والقطع المعدنية والكثير من المفكات والبطاريات مختلفة المقاييس وساعة رقمية دائرية الشكل.. الكثير من الفوضى في المستودع الكبير الذي تعج فيه الكثير من القطع المعدنية ذات الأشكال والأحجام المختلفة وأخيلتها الضئيلة تنبض من النور الخافت المنسل من المصابيح المعلقة التي لا تحيط بالكثير.. ومن فوره قام عن الكرسي رجل ذو لحية كثة سوداء طويلة وعينين خرزيتين والكثير من التجاعيد مصفوفة حولهما بنصف دائرة مع هالة سوداء أسفل العينين أشبه بكيس مائي، وعلى صفحة الجبين المسطر بشقوق مستقيمة تتربع دائرة سوداء فمال وجهه للون السكني، وقد شبك يديه خلف ظهره بانحناءة تدل على رجل قد تجاوز الخمسين ليبين عن قامة قصيرة يسترها قطعتان من الملابس، القميص الطويل والسروال وتغطي رأسه قبعة بيضاء تخفي بضع شعرات سوداء ملساء.. أخذ يقترب بتؤدة، ورغم أن حواسه كانت مشدودة لما هو جاثم على الطاولة الخشبية إلا أنه لم يكن ليحفل بذلك الشاب الذي لقيه قبل بضعة أشهور على حافة الانهيار، حين أنقذه من محاولة انتحار فاشلة، بعد أن أقنعه بالعدول عن قرار إلقاء نفسه من أحد الأبراج وسط المدينة واعدا إياه بأن يقدم له عملا يحل جميع مشاكله، كان هذا الحل كمصباح علاء الدين، وهو يقرُّ بنفسه أن هذا الشاب الطويل القامة قمحي البشرة سيكون ذراعه اليمين في عملياته، والتي سيضمن فيها ولاء منقطع النظير من شاب فقير فقد علاقته بالحياة بفقدانه قشة التعلق بها، وهو كنزه المخبئ في المغارة، صانع مذهل للصناديق الصغيرة المحشوة بذخيرة متفجرة والموصولة بساعة رقمية.. أخذت الأفكار تعزف على وتر عدم المبالاة لغاية في نفس يعقوب وهي أن لا يغتر هذا الغرُّ الساذج بقيمة ما يفعله..تتطاحن القوى المعادية لتنظيمه و له باعتباره قائدا في منطقته، هذا التنظيم الذي يتمدد كإخطبوط في أدمغة الشباب، ولهذا عليه أن يتيقن من حقيقة انتماءه لجماعتهم، و أن يتأنى كثيرا في إظهار اهتمامه به.. صانع القنابل هذا هو بالتأكيد ثروة لا يمكن التفريط بها تحت أي ضغط أو لأي مبرر..وبخاصة بعد المراقبة الشديدة عند الحدود والتفتيش الدقيق لما يحملونه، فالاعتماد على شاب ذكي بمقدرات بسيطة ومواد متوفرة يحول دون الشبهة بهم في هذا المستودع في وسط المدينة، من ذا الذي يفكر أن تنظيما إرهابيا كما يحلو لهم تسميتهم يعيش وسط البيوت ويمشي أفراده في الأسواق ويعايشون أناس المكان البسطاء؟؟ ..نبس عن ابتسامة فاترة وأومئ برأسه وهو يقول:" عمل جيد ولكن.." وقعت كلمة ولكن في قلب الشاب الذي لم ينعم بمعنى للحياة منذ زمن بعيد تعاهدت عليه الأنواء والبشر أن ينقضوا جداره ويقلبوا عليه ظروف التعاسة، فوئدت أحلامه بإنهاء دراسته الجامعية في الهندسة الكيميائية، وإغلاق سبل العمل ومرض أبيه العضال الذي غدا كطاعون ينهش جسده يوما تلو الآخر وساعة تلو الأخرى..وقوضت قبضته وأوهنتها فما عاد له طاقة ليستمر بلا شيء، القيود أحيانا تعطيك حقا ما في الدفاع عن حقك ولكن إن لم تقيدك فعما ستبحث وممن ستأخذ حقك؟؟؟ الشيخ قدري يدرك تماما أن مثل هذا الشاب استثمار لا يمكن التخلي عنه، فأمثال هؤلاء هم من يخصبون تربة عملياته ويراهنون على إنجاحها.. الكثير من الساعات الرقمية والأسلاك الزرقاء والحمراء تضمن توسعا منقطع النظير لتنظيمه المتطرف، البدء فقط بإثارة الفوضى والسيطرة على العقول.. من إثارة الفوضى إلى سباق زرع القنابل، موت الكثيرين من البسطاء لا يعني سوى أنهم يشاركون في تغير الصورة عن الاستقرار لهؤلاء المسيطرين على ساحة اللعب، لا من السيطرة على الأرض وإفناء ساكنيها بأيدي أولادها الآثمة.. ولكن الطريق الأسلم الآن هو عدم التأثر بما أنجزه الشاب ولتبقى آماله معلقة على أمل أن يجتاز هذا الاختبار وأن يربطه بشريط ملون من نعيم الحياة وهلوستها.. لم يكن الشيخ قدري بعيدا عن عيني سعيد الزائغتين وهو يقلب واقعه على هامش الحياة وهذا البئر المعتم الذي سيخرجه من سجن ابن يعقوب، حركات ذراعيه قدميه اللتان لم تعودا كعكازين بل كهشيم وذلك الشيخ لا يعي ما هو فيه، مطه لشفتيه، لكن، مشيته المتأنية وتقليبه لتلك القابعة على الطاولة بعينيه دون أن يحاول لمسها وإشباع رغبته فيها، جهده وسهره ليومين قد باءت بالفشل.."نعم..أنت فاشل، لم تتعدى كونك جندبا أحمقا وحسب.." أخذ صوته المجلجل في جوفه يرفع درجة حرارته ويحكم دورانه في دوامة الهزيمة..هو لا يدري بالفعل ما هي الخطوة المقبلة؟ ولكنه رغم ما فيه من بؤس سيتأنى على أمل معلق فوق أبراج السراب.. علامات الإحباط والذبول قد ظهرت على وجهه والتي تيقن منها الشيخ قدري، بان هذا الشاب قد وهن بما فيه الكفاية ليجعله في مصيدته. مساحة النور المنبسطة على المستودع لم تكن كفاية لتمحو ما يعانيه سعيد ولكن قبضة الشيخ قدري على يديه جعلته يؤمن بأنه قادر على أن يفعل شيئا مفيدا في حياته.. "عملك رائع حقا يا سعيد ولكن عليك أن تجعله أكثر صغرا.." هذه ال لكن هذه المرة لم تجعله مسجونا في دوامته القاحلة بل أضاءت له نورا آخر من شمعة ما لم تنطفئ ذبالتها بعد.. خرجت الحروف متكسرة ضعيفة بحشرجة من تلك الحنجرة التي يتوسطها حجر دائري لا يستطيع ابتلاعه.." وما... ما الذي كنت تريده؟؟!! قالها سعيد بتردد. بصوت حازم أجابه الشيخ قدري:"نريد قطعة صغيرة فيها كافة المواصفات المطلوبة، لا نريد لعملنا لفت الانتباه.." أثارت كلماته الأخيرة الريبة في نفسه ثم قال بلهجة ملؤها الاستهجان:" في عملكم ؟؟!! ألم تقل أنكم شركة للبحث عن الصخر الزيتي في الجبال..؟؟" أخفى الشيخ قدري تردده وأدرك أن حيطته وحذره قد فشلتا وعليه أن يتدارك أمره وعلى عجل قال وهو يتظاهر بعدم الاكتراث:" يا لك من غرٍّ ساذج، أي عمل في الدنيا يحتاج إلى الدقة وكلما قل حجمه زادت قدرتنا على حمله في أكثر الأماكن ازدحاما دون أن يستوقفنا أحد، أنت تعلم أننا لا نملك الكثير من الناقلات هنا ونقطع مسافات طويلة سيرا على الأقدام ونحتاج لحمل الأشياء خفيفة الوزن قوية التأثير.." أتم كلماته ولم ينظر ولو نظرة واحدة لسعيد، متظاهرا بانشغاله في تقليب ما جثم فوق المنضدة الخشبية.." لم يكن أي مما ذكره الشيخ قدري ليثير اهتمامه فاستطرد قائلا:" أنا جاهز لأي شيء، قل ما تريد وسأبذل قصارى جهدي لأنجزه.." ما علمه إياه والده منذ الصغر أن يكون قويا في كل موقف يواجهه لم يكن قادرا فعليا على تنفيذه، لقد خيب آمال والده به عندما عجز عن حمله لأقرب مشفى لمعالجته، ذكرى والده المكلومة لا تلبث أن تتلاشى عن مدى تفكيره حتى تعود ثانية.. صحته التي انهارت والمرض الذي فتت جسده، والفقر الذي يعيشونه وأم عاجزة وهو متمدد فوق الغيم العقيم..لا غيمه أمطر ولا هو قوى على تغير الواقع الأبكم .. طرقه للأبواب الصماء واستجداءه من قلوب انتعل حاملوها نعال القسوة والذهول.. بضع أوراق لا تعني له الكثير، علاج والده يحتاج إلى الكثير لكنه لم يجده..ولو حفر في الرمال فلن تكون هناك زمزم..ولا نقر لعصفور..ما وجد غير طائر الموت قابضا على أبيه وهو ممسك يده وعيناه قد تجمدتا وهما تلقيان عليه الوداع الأخير.. كم من الليالي أمضى وحيدا؟؟ كم من الزمن احتاج لينسى؟؟ وكم مرة أوقفته حشرجات النفس وانقباض الروح؟؟ كم مرة سمعت الجدران الصماء أنينه وصراخه؟؟ وهاهي أمه ستلقى نفس المصير..ذاته الألم الذي يسري بقدميها ويحرمها من للمسير، ولن يستطيع أن يقدم لها شيئا. أطوار الحياة التي يفيق منها ثم يغيب فيها، تقلبه على جمرها فلا يطفو على أي سطح وهو أقرب إلى الهلام الذي يستطيع أن ينغمس فيه إلى القاع دون أن يرى النور.. النور الذي لن يستطيع بلوغه مهما حاول.. مد عنقه إلى الأعلى كأعقاب السجائر التي يدق أعناقها، ويلقي بها إلى حيث تسير المجارير.. السماء الرمادية لم تتبدل ولم تتغير ألوانها.. ربما تميل إلى اللون القرمزي أياما.. ثم ما تلبث أن تعود إلى الرقاد على ظهرها دون أن تفيق على رعد من هنا أو برق من هناك..أي استكانة هو فيها..؟؟ إطراقه التفكير في البعيد لا يمنحه فرصا جديدة ولا يجعله بحار ولو في بحر من سراب.. الصمت الرهيب الذي يصيده فيك الغيب أيها البأس يلوكك بدل المرة مرات ثم يقذفك إلى وحل يزيدك اتساخا كما هي دواخلك الخربة .. في مصيدة اليأس سيكون نُزلك الأبدي فلا تبتئس.. الدوامة التي دارت به في غيب موحل هي ذاتها التي أيقظته من موت مزعوم، هي ذاتها التي أيقظته على لسعة تحرق جلده الكئيب كما هي سماؤه، تلك النقود التي أعادت لأم جيبه المفتوقة.. النور الذي أنار جيوبه المفتوقة، والتي شهد تساقط أحلامه منها إلى الجحيم، لكن الدفء الذي يستيقظ عليه هذا اليوم مختلف تماما، فكل صندوق صغير بساعة رقمية يصنعه لهؤلاء البلهاء يمنحه فرصا للحياة لا تعد ولا تحصى.. سيحمل معه الكثير لشقيقته وأبنائها، لأمه.. سيحمل أمه على بساط الريح ويمضي علاجها وسينبش قبر أبيه، ويرمم عظامه ويحيله جسدا يبث فيه الحياة وخرج من الظلام للنور محملا بالكثير من الثقة والصور الملونة للحياة.. قفز إلى خارج القبر إلى حيث يؤوي إلى مخدع الحياة وفنونه العشق وتأوهاته وأنفاس ما استنشق مثلها من قبل.. لأول مرة بدت أكثر رفقا به ونبضات قلبه تتقافز.. تلك النبضات التي لم تستطع منع توقفها كلما مدت بصرها إلى تلك الغابات المحيطة في البيوت الإسمنتية المتناثرة تارة والمكتظة تارة أخرى.. على مد بصرها وهي تنبش عن أثر لذلك النور الأحمر الذي يمكن لشباك عينها أن تتلقفه وهي تمسح المنطقة الممتدة أمامها، وهي ترصدها من نافذة الطابق الثاني الذي تسكنه أسرتها.. صورته وهو يضع مسدسه على جنبه وهو يرتدي زيه الرسمي.. وقد وضع واقي الرصاص، لا يمكن أن يفارق ذاكرتها الزمنية.. إلى أين تذهب هي وصغيريها؟؟ لا عليك جاءها صوته من بئر حزنها لينتشلها.. ستكونين بأمان وضمها إلى صدره وهي تنزف حزنا.. وهو يمدها مدادا من مشاعر التضحية.. أحفظي نفسك والصغيرين.. ها نحن هنا يا عزيزي وبيننا المدى ولا أكاد أطيق البعاد.. عن أي أمان أبحث وأنت الأمان وأنت السلام وأنت نبض الحياة؟؟!! دموعها تتبخر مع الأبخرة المتصاعدة من الطنجرة على النار والفقاعات الصغيرة تطفو على وجه الأرز الأبيض وهو يعلن نضوجه.. أصوات الصغار تعلو بالضحكات ولعبة الغميضة والشرطي حرامي.. وصوت أمها التي التهم المرض قوتها ومضى يبري قدميها ليتركها عاجزة في سرير خشبي.. وغرفة ترسل إليها نبض الحياة من نافذة مطلة على المدى وصوتها الندي يصفو بآيات من المصحف الكريم تتلوها.. فينقبض قلبها وهي تقول.." بسم الله.. بسم الله.." وصورة سعيد تتأرجح أمامها يهوي إلى حفرة سوداء، وسلمى وصغيريها يهويان إلى ذات الحفرة..والنواح يهيل التراب على جسدها المقيد إلى قدمين عاجزتين، وتطفر الدموع إلى عينيها حتى يغيب الصوت وتبقى الدموع تتدفق في صمت ويدها مازالت قابضة على صدرها.. وصوت الصغار يعلو عند فتح الباب وصوته يهدر إلى أذنيها فتمسح دمع عينيها بطرف غطاء رأسها وهي تستحضر.." قل هو الله أحد.."وتتبعها بما تتلوه ويلج على أذنيه فيسقط منه قلبه ويهوي به إلى بئر عميق.. (19) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)الأنفال.. ومن باب المطبخ تطفر الدمعة من عينيها وهي تسكب الطعام وهي تنظر طلته القمحية وطوله الفارع وهي تذكر زوجها.. كم تشبهه يا سعيد !! والصغيران ليلى وهادي يمسكان بخالهما وهما يصيحان فرحا .."حرامي.. لقد أمسكتك.." وأصوات الثلاثة تقتحم دموع الأم التي تدفن حزنها في قلبها وسلمى التي تفيض ألما من عميق الحزن والأسى..فيطفو على الوجه شبح ابتسامة باهت يرتجي الغد من الأمس.. هضيم حلمهما والكثير من الأكياس المليئة بالألعاب والأكياس والحلوى والأطعمة.. صوت الأم الحزين مكبلا يأتيه وهو يقبل يديها.." يا سعيد من أين يا ولدي؟؟" أنّت بها وهي تمسك بوشاح أبيض حريري.. فيلثم جبينها ودمعة حارقة لسعتها.." لا عليك يا أمي رزق من الله، لقد فتحها الله علينا.. الحمد لله.." "ولكن يا ولدي اقتفي الرزق الحلال، إياك يا سعيد والحرام، يضحكك وما يلبث أن يبكيك ويبكي من حولك.." أمسك يديها وانهال عليهما لثما بالقبل.." لا عليك يا أماه.. اطمئني، ولدك بخير.." قطعت أسراب القطا المهاجرة دمعهما وهي تخفق بأجنحتها إلى البعيد، وسلمى تدلف على الغرفة وصوت خافت لطرق الملعقة على الصحن الذي تحمله.." هيا.. هيا إلى الطعام أمد الله في عمرك يا أمي وترين أحفادك.." " يا رب .." رفع الاثنان أيديهما وهما يؤممان.. " هيا قولي هم... وتناولي طعامك.." يقبل رأسها وتهم بالتقام ملعقة الطعام والصغيران يصيحان.." نريد أن نأكل.." والضحكات تبث الروح في البيت الحزين.. لم يكن لينتظر نهاية مراقبته للطريق الطويل الذي ينتهي إلى الغابة التي تحيط بالبيوت تارة وتنسل مبتعدة تارة أخرى وأعين الناس ترقب فيهم كل نأمة وسكنة.. وهم ما يزالون محافظين على رباطة جأشهم وهو يخفي هاتفه الخلوي ولا يطيق رؤية رقم سلمى.. ويطيل قراءة آيات القرآن، بأن يحفظهم ويبعد عنهم السوء.. صديقه يبث إليه حال زوجته وهي تلد في المشفى الحكومي، وأن والدتها بقربها.. طفلهم الأول سيولد وربما لن يرى أباه..وتطفر الدموع من عينيه..يربت على كتفه ..وهو يهمس"وكلّ الله..ستراه أنا واثق من ذلك.." ..يتم حديثه.."وهي تعاني من صعاب كثيرة فقد أصابها سكري الحمل وارتفاع الضغط وكانت تهدد حياتها بالإجهاض، لكنها تحملت وهاهي بين يدي الرحمة.." ويمد عينيه للبعيد وهو يخفي الكثير من الدمع.. أغارق في بحر الصبر يا صديقي والكثير من الشجون ينتظرك؟؟ على اللاسلكي يأتيهم صوت قائد الوحدة:" عليكم بتوخي الحذر العناصر المشبهة تهدد بعمل إجرامي إرهابي.. المواقع المحتملة وسط البلد في الأسواق التجارية، عليكم بالحرص الشديد وتنفيذ قواعد الاشتباك.. القليل من الصبر يضمن النجاح.." هذا ما كان يردده في نفسه .."الكثير من الصبر أم قليله؟؟!!" تأتيهم أنباء من بعيد عن اشتباه بتفجير ما ويغيبون والأضواء الحمراء والزرقاء وصفير السيارات يهز هدوء الطرقات.. " القنبلة الجديدة أفضل من سابقتها، أحسنت عليك الآن أن تضبطها لثلاث ساعات، ثلاث ساعات كافية لنصل إلى مقصدنا بين الجموع في وقت الذروة..ثلاث ساعات.. أنت تعلم نحن لا نريد أن يكون لنا وقت حتى نغادر المنطقة، نحن لا نريد إراقة دماء أحد من ال.. ربما يكونون واحدا أو اثنين، لكنهم كلهم في سبيل الله.." استوقفته جملته الأخيرة دون أن يتمكن من فهمها.. التقم جيبه النقود ومضى، وهو يرفع قدما وينزل أخرى كهائم يصيد السراب، ما تراه غيّره؟؟ ما الذي مضى به إلى حيث يصدمه الصدى فيرده على عجل؟؟ بعثرة أفكاره ومطر من الأسئلة كالهشيم.. قبل أن يلتقطها.. لما دغل الريبة متشابك في جوفه الأبكم..؟؟ ينبض بخوف..يلاحق أنفاسا تلاشت في الأخيلة أمامه.. ما الذي يحدث؟؟ ما الذي تورط به دون أن يدري؟؟ النقود في جيبه تعطيه الكثير من الفرص..أليس هذا ما سعى إليه؟؟ أليس هذا ما يريده؟؟ فليدع ما يريبه إلى ما لا يريبه.. ويبقي على فرجة الأقدار التي أنالته ما كان يحلم به يوما.. ما لم تكن سلمى لتغمض جفنيها وهي ترقب فتيل الصبر وهو ينوس في قلبها.. لكنهما يرقبان الطرقات وتلك الحلوى الملونة في المركز التجاري بقربهم.. " إنه يا أمي عند ناصية الطريق.. ليس بعيدا.." " إنه بعيد كفاية، أخاف عليكما.. يكفيني خوفي على والديكما.." " لكن يا أمي نريد الذهاب دقائق ونعود.. نعدك بذلك.." أمام تصميم الصغيرين وبكائهما رضخ القلب فيها وأطرقت التفكير وهي تمد عينيها للبعيد.. " لا يكفي أنهما يفتقدان أباهما، فلما لا أمنحهما القليل من الفرح؟؟ مشوار قصير لا يغير شيئا.. بل سيمنحهما سعادة..وهذا ما أريد" أومأت برأسها موافقة.. ارتدت ملابسها وجهزت الصغيرين وهما يطبعان قبلة على وجه الجدة الراقدة في السرير، يسيرون معا مودعين الجدة الراقدة في السرير إلى المركز التجاري.. ما بين القلق والانقباض استصرخت قدميها وصورتهم ينزلقون في الحفرة السوداء لا تفارق ناظريها.. وتُبقي على آيات سورة الإخلاص.."قل هو الله أحد.." وعلى ساقين عاجزتين.. لما ينقبض قلبه هو الآخر؟ لما يشعر بشيء ما قي قلبه؟؟ لما يريده أن يضبط الوقت؟؟ ولما لا يهمه إن فقد اثنين في سبيل الله؟؟ لما يريدها؟؟ كانت كلمة قد سقطت سهوا، يومئ بصمت يقهره..لما أخطأ؟؟ الحقيقة هي ما قالها.. ولما تراه فعل؟؟..يريد أن يكون هناك أناس يبتاعون الدنيا ويبيعون الآخرة.. يريد أن يوقظهم من سباتهم..وليدخلوها آمنين.. طاحونة من الأسئلة تضرب عقله كإعصار.." وأين سيكون هؤلاء هم أكيد ليسوا في الصحراء أو الجبال أو أي من المناطق التي تشتهر بالصخر الزيتي..؟؟" الكثير من الحيرة حمل معه وجملّها بالحلوى والأطعمة الفاخرة.. هو يريد إراحة أخته التي تشتاق لزوجها، صديقه العزيز سليم، الذي لم يكن ليتركه ليذهب لولا نداء الواجب.. هو شرطي قوي وصبور وله القدرة على أن يتخطى المحن وهو طيب القلب مع أخته الوحيدة سلمى.. أخته التي لن تكبر في نظره والصغيران الشقيان اللذان يملئان حياتهم بالنشاط ، ويقلبان ليل شقتهم إلى نهار.. لم تكن رائحتهما التي اشتمها عندما دلف إلى الشقة الصغيرة القابعة في الطابق الثاني، اشتم رائحة أخرى رائحة الغياب..رائحة الصمت الرهيب..رائحة الموت.. الهدوء يصم أذنيه وريح الخوف تنبعث من الجدران، اقتحم الخوف قلبه عنوة، وساقاه بدتا كعكازين لم يستطيعا المسير يزاحم الهواء ليفتح باب غرفة أمه على عجل، فيلتقط أنفاسه المتساقطة الواحد تلو الآخر.. أبصرها وهي تقلب الحياة من وراء النافذة المغلقة ورائحة البرودة تسكن الجدران الرمادية ..إنها قبور الحياة بلا شك.. انتشل سؤاله من بين أنفاسه الهاربة.."أين هم؟؟" جاءه صوتها كوقع الصقيع على حممه البركانية فما زادته إلا عجزا.." لقد ذهبوا يا بني إلى المركز التجاري، يريد الصغيران الخروج.." سقطت إجابتها قبل أن تصل إلى أذنيه وهي تلفحه بلهيب حارق.. " إلى أين؟؟" يسأل بعصبية دون أن ينتظر الإجابة.. يتقافز في الهواء وكأنه يزاحم الزمن بعد دقاته.. لما يظن أن أمرا جللا سيحدث، سيكون الهدف، هناك المركز التجاري.. المركز التجاري الذي يمتلئ بالمشترين الذين اشتروا الدنيا.. نعم، الذين اشتروا الدنيا.. والساعات الثلاث قد التهمها النهار وأبقى على أثارها.. أين هم؟؟ لما تبدو الطريق طويلة؟؟ لما تبدو خالية من البشر؟؟ خالية من الحياة؟؟ لما تقاسم الأبرياء الأيمان.. بأن يكونوا في المركز التجاري، جميع أهل المدينة؟؟ سيارات الشرطة تهوي كما يهوي قلبه إلى هناك.. أيصرخ؟؟ أيسمع صوته الموتى أو من بهم صمم؟؟ أيمتد صوته إلى ما وراء الأسوار الإسمنتية؟؟ منتظرا ماذا؟؟ أن يسمعوه..!! أين هو منهم ليسمعوه؟؟ إنهم يشترون الدنيا.. الدنيا.. الدنيا.. يا ويلي.. ماذا صنعت؟؟ أي أبله كنت؟؟ أي خائن أنا ؟؟ سيفجرون المكان.. ابتعدوا.. سلمى.. هادي..ليلى.. لكن صوته غاب في الانفجار الكبير.. الذي أرقد المكان بمن فيه في سباتهم الأبدي.. غارقين بدمائهم.. لم يكن أمامها وهي تقبض على ساقيها العاجزتين وهي تبصرهم ينزلقون على الحفرة السوداء إلا أن ترقد بسلام.. وهي تودعهم جميعا في الحفرة السوداء... فليدخلوها آمنين..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق