الصفحات

2017/02/01

قصص "نونة الشعنونة" للكاتبة سلوى بكر: شخوص على هامش الحياة بقلم: عبد القادر كعبان

قصص "نونة الشعنونة" للكاتبة سلوى بكر: شخوص على هامش الحياة
بقلم: عبد القادر كعبان*

لا تزال الكاتبة المصرية سلوى بكر تنحاز في قصصها بشكل عام لحياة المهمش وواقعه المزري، حيث لا يزال يبحث له عن حياة كريمة وسط الفوضى الجارفة في مجتمع تنقصه يقظة الضمير.
لقد اعتبر النقاد سلوى بكر صوتا للمهمشين خصوصا المرأة، كونها أخذت على عاتقها رسالة للتعبير عن هذه الفئة البائسة وشبه المعدمة في المجتمع المصري لفضح المستور ومواجهة المتلقي بالوجه المؤلم للحقيقة، كما هو الحال في مجموعتها القصصية الموسومة "نونة الشعنونة"، والتي تنقل لنا صورا عن شخوص يعيشون على هامش الحياة.
نشير أولا أن هذه المجموعة كغيرها من قصص الكاتبة تدفعنا للسؤال الآتي: هل تأثرت سلوى بكر بكتاب أدب التهميش؟، ومما يزيد تساؤلنا مشروعية اقترابها نوعا ما من أدب المبدع خيري شلبي الذي لقبه النقاد بأمير المهمشين، كون أن أعماله الأدبية قد شكلت مادة ثرية لصناعة السينما، حيث تحولت روايته الموسومة "الشطار" لفيلم من بطولة نادية الجندي سنة 1993، أما في عام 1995 فقد قدم المخرج داوود عبد السيد فيلما لقصته القصيرة "سارق الفرح" من بطولة لوسي وحنان ترك. أما الدراما التلفزيونية فقدت اختارت من أدب خيري شلبي رواية "الوتد" التي قدمت من خلالها الراحلة هدى سلطان دور الأم في المسلسل، أما رواية "وكالة عطية" فقد قدمها الممثل حسين فهمي في مسلسل أيضا بمشاركة حنان مطاوع وأحمد عزمي.
ما يلاحظه القارئ في قصص "نونة الشعنونة" هو تلك اللمسة بين البناء المعرفي للكاتبة الذي تمزج فيه حالة الشخوص بالواقع، وهي ملكة مغروزة في نفس "صوت المهمشين" سلوى بكر فضلا عن إتقانها للغة التي تكتب بها كقصة "صنعة لطافة"، وهي قصة متميزة وكأنها كتبت لتمثل على خشبة المسرح أين تتجادل النقطة والخط حول موضوع الحرية. كلاهما ينتفض مدافعا عن نفسه وكينونته في الحياة التي لا تكتمل إلا بوجودهما سويا كرجل وامرأة: "تأملها مجددا باعجاب وافتتان، ثم هز رأسه وتبسم وكأنه يرى وردة تتفتح، وبدت له بالفعل جميلة، قوية، مؤثرة، على الرغم من صغرها وضعفها، لكن إلى أي مدى سيمتد تمردها هذا؟ وما الذي سيترتب عليه؟" (1).
وفي قصة أخرى تحت عنوان "التكهن" تصحبنا الكاتبة إلى اكتشاف مشاعر المرأة الواعية والمتخوفة في آن واحد من الوقوع في جلبة فتلفت الأنظار إليها وتجعل من ذلك موضوعا يدفع بالملل على الركاب، وكل ذلك لتضفي على المشهد بعدا سينمائيا لا يخلو من عنصر الإثارة والتشويق: "لا ادري لماذا ارتبكت وقد بدا لي وكأنه رجل ينام على فراشه في البيت، أظن أنني وقعت في مشكلة سخيفة اذ أخذت أتكهن بدوافع سلوكه هذا على النحو التالي: أولا: رجل نائم بالفعل ولا يدرك ما يفعله. ثانيا: شخص وقح يسعى لمعاكسة وضيعة من الدرجة العاشرة. ثالثا: انسان غبي، سيء التقدير، بليد، يتصرف بأنانية بالغة وعلى راحته دون اعتبار لوجود آخرين" (2).
"بحر الأعالي" قصة بسيطة لبكر تذكرنا بأحد أهم الأفلام المصرية التي تناولت نماذج مختلفة للخادمات كدور الممثلة القديرة شادية في دور الأم الفقيرة والخادمة الشقيانة (عائشة) في فيلم "لا تسألني من أنا" (1984)، ومثلت دور ابنتها الفنانة يسرا (زينب). تظل الطفلة في هذه القصة تحلم بالعيش في الشقة رقم خمسة وعشرون لأجل مشاهدة النيل من شرفتها: "بصت دائرة ببصرها على جدران الغرفة/البيت فلما لم تشف غير جلابية أبيها البيضاء، المعلقة على المسمار، وحزمة الثوم المربوطة على مسافة منها، والمعلقة على مسمار آخر، ثم الرف العالي المحطوطة عليه دواء أبيها، ومفتاح الغرفة، شعرت كأنها على وشك الاختناق، فحتى الشباك الصغير في الحجرة، والمفتوح على المنور، لا يستبين من ورائه غير حيطة الطوب الأحمر، ومواسير المجاري الغليظة السوداء" (3).
طرقت قصة "الخصبة والجدبة" بابا آخر من أبواب التخلف والجهل الذي لا يزال يتمسك بعادات وتقاليد أهل القرية وحتى المدن لم تسلم من زحفه في أيامنا، وهذا ما نزال نشاهده من خلال العديد من المسلسلات والأفلام المصرية، أين نجد البطلة تستسلم لغضب زوجها الذي يريد طفلا، فقررت أمها اصطحابها إلى زيارة الحجر المرصود وسط المقبرة، الذي كانت تقصده كل امرأة عقيم إلا وحملت: "كان صمت الجبانة المخيف والشواهد الكثيرة المتراصة المتقاربة كبيوت القرية الطينية قد أحكم الشعور بالوحشة في صدر الابنة وزاد من شعورها بالانقباض فخافت وودت أن تعدو راجعة غير أن أمها قد سبقتها ووقفت أمام الحجر حتى لامسته فصاحت الابنة فجأة من خلفها حتى شهقت الأم رعبا:
- نسينا العيش والملح" (4).
القصص الثلاث الأخيرة في هذه المجموعة بطلها الرجل الذي لا تستبعده بكر في قصصها إجمالا، أين تعكس صورا مختلفة له بين القهر والبؤس والحلم الذي يأبى مفارقته كما يلي: القصة الأولى تحمل عنوان "المشهد" وهي تعكس لنا نفسية البطل المنكسرة والمقهورة وهو يشارك في جنازة رجل لا يحمل له سوى شعور الكراهية كغيره من موظفي المؤسسة، وذلك لهيمنته وتحكمه في تلك الفئة الضعيفة للعمال: "أنت لم تأخذ منها شيئا الى الآخرة، لكنك حصلت والى الأبد على كل الكراهية، وكل المقت من الجميع، هذا ما حملته معك في النهاية حقا، حتى بعد أن تزول وتتبدد وتتحول الى حفنة من الرماد وتنتفي جثتك السمينة المترهلة، التي طالما طالعناها تحمل سحنتك الكريهة، وهي تطل علينا في المؤسسة كل يوم" (5).
القصة الثانية تحمل عنوان "مائدة الرحمن" وهي تتناول سماحة الإسلام في المعاملة مع المسيحي من خلال شخصية جرجس الذي دفعته حالته البائسة والعوز والحاجة للسفر إلى القاهرة لأول مرة بحثا عن العمل، وسؤاله عن عنوان صاحب جنة رضوان دفعه للجلوس إلى مائدة من موائد رمضان دون سابق إنذار بعدما غلبه الجوع والتعب: "...وبرك على الأرض الى جانب الجالسين، وما أن تعالى آذان المغرب من عدة مآذن، حتى هجم على المائدة مع الهاجمين، بعد أن شجعه مقترح الدعوة المسئول بقوله:
- مد يدك طوالي، بسم الله" (6).
في القصة الثالثة "قمر ينظر اليه" يحاول الولد طرد النوم بعيدا عن عينيه وهو يقترب من تلك الثلاث اللواتي يتغزلن بالقمر كل واحدة بطريقتها الخاصة، بينما هو بائع الفل –الولد بعينه- يتخيله نصف رغيف شهي يخرج لتوه طازجا من الفرن: "أخذ الولد يعيد ترتيب عقود الفل على ساعده اللين، وفكر: آه لو أبيع أثنين أو ثلاثة، آكل بعدها شيئا سريعا ثم أذهب الى أمي فأنام" (7).
لا تزال أعمال الكاتبة سلوى بكر بعيدة عن اهتمام أهل السينما والتلفزيون رغم أن قصة "نونة الشعنونة" عرفت نجاحا في التمثيلية التلفزيونية التي قدمتها الممثلة حنان ترك بجدارة في دور نونة (نعيمة)، وهي فتاة عرفها المشاهد من خلال سلوكها الغريب وتصرفاتها الغير طبيعية كونها فضولية تعشق المعرفة مما تسمعه من المعلمة من وراء شباك المطبخ: "وانسابت الدموع، ليلتها، من عينيها بحورا، وهي ساهرة حتى طلع الفجر، ورأت بعينيها لون السماء الأبيض، وحديد الشباك الأسود، لكنها عندما نادتها السيدة، لتنهض، وتذهب الى السوق لابتياع الخبز، كان النعاس قد غلبها، وراحت تحلم بالمدرسة والبنات، وابن الضابط، الذي كانت تصفعه –في حلمها- صفعات قوية" (8).
في الختام، يمكن القول أن الكاتبة سلوى بكر تحاول من خلال هذه القصص أرشفة يوميات شخوصها البائسة حتى تنفض عنها غبار النسيان، وهي تستحق أكثر من وقفة رغم بساطة أسلوبها الذي يعكس عمق مضامينها المكثفة، إضافة إلى ذلك جمالية صورها وكأنها مشاهد سينمائية تنقل لنا تجربة شخصيات هامشية من الواقع.  
 


الإحالات:
(1) سلوى بكر ، نونة الشعنونة ، الهيئة العامة المصرية للكتاب، 1999، ص 116.
(2) المصدر نفسه ص 130.
(3) المصدر نفسه ص-ص119-120. 
(4) المصدر نفسه ص 17.
(5) المصدر نفسه ص 135.
(6) المصدر نفسه ص 147.
(7) المصدر نفسه ص 143.
(8) المصدر نفسه ص 11.
 *كاتب وناقد جزائري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق