الصفحات

2017/03/22

نبتة الصَّبار.. قصة بقلم: خيري عبدالعزيز



نبتة الصَّبار

(إهداء إلى أمي: نبتة الصبار)
خيري عبدالعزيز

    أنتِ على فراشكِ الآن, في نصف إغفاءة مجهولة الهوية, أغلقتِ البوابة الحديدية الكبيرة, وصمام الغاز, وأطفأتي أنوار الكهرباء الزَّائدة عن الحاجة. جسدك المكدود جَركِ إلى الفراش, اضطجعتِ جوار زوجكِ السَّبعيني, وقد علا شخيره, تهلعين أن يُغادر ويترككِ, فيقيناً تعلمين أنَّ الوحدة عدوكِ اللَّدود, وأنَّه لا غيرها قاتلكِ! أمَّا ذاكَ الذي آبى الحُضور, وضن أن يسقي نبتة الصَّبار؛ فلا يبرحكِ!
    أوصيتي زوجكِ ليلة البارحة؛ أن يُمسد عليكِ تُراب القبر, ويضع على رأسكِ نبتة صبار, ويتلو على روحكِ الفاتحة, في طيات السُّؤال عَلِمَ أنَّ ثَمَّة تعاهد تطلبين, نوبة السُّعال التي كادت تُجهز عليه أجابتكِ, وأخرجت لكِ لساناً بذيئاً, فامتقع وجهكِ, وتملككِ الصَّمت! الصَّمت رداءكِ الأثير, يُغلفكِ ظاهراً, وفي دخيلتكِ تضج أصوات, منولوجكِ الداخلي لا يكف, يتحاور مع ذاك الذي آبى الحضور!
    سنواتكِ السِّتين تُبرهن لكِ في كل لحظة أنَّ للسن حق, فلم تعودين كما كنتِ, ولكنكِ تماطلين, لا تُحبين الرَّاحة, الرَّاحة سبيل الذِّكريات الحبيسة في زنازينكِ البعيدة, لا تفتر تُهاجمك, تنهشك.
   يومكِ يبدأ صباحاً في الخامسة, لينتهي مساءً في العاشرة, تنامين مثل جثة, أنتِ الآن مثل جثة, شيء ما يفارقكِ, تُسبَل له عيناكِ, في كل مرة تتساءلين؛ أهو مارد النَّوم الذي يجلدكِ بعذابات الذي آبى الحضور, أم مارد الموت الرَّحيم الذي تنتظرين؟!! تستسلمين لإرادته, ولا تعلمين الإجابة إلا مع انتفاضة الصَّباح, لمَّا يخترقكِ صياح الديكه, وقتها فقط تتشهدين, وتنهضين, يتملككِ إحساس أنَّك كنتِ تبكين طوال السَّاعات الفائتة, يؤازره أنَّ كل خلية في جسدكِ تنز بالألم! وتذهبين, تُشغلين نفسكِ بأمور شتى, تاركة أوجاعكِ الأبدية, متكورة تنتظر أوبة المساء!
     ولكن الإجابة الآن غير معلومة, ما زال الوقت باكراً على شقشقات الصَّباح, تتركين المارد المجهول يؤدي عمله, يستلب من ذراتك المنهكة أطياف الحياة, عيناكِ صارتا أكثر إسبالاً, وفي الذاكرة تعودين القهقري, القهقري لزمن سحيق!
   مع شهقته الأخيرة اندلعت صرختكِ الأولى بالحياة, ليكون النَّفس الأول مغموساً بيتم الأب, ضربة مُوجعة من القدر لا يُدركها وليد, الأم التي تهدج صدرها من مجهود الولادة أدركتها, انسابت لها دموع جديدة, ضمتكِ لصدرها العجاف, وألقمتكِ ثديها لعل صراخكِ الملتاع يكف, غير أنِّكِ لم تصمتي, كنت تبكين بحرقة, وكأنِّكِ تجاوزت كل حدود المنطق, وتُدركين!
   وفي يد أمكِ تتشبثين, غضة طرية تتطاوح بكِ حصباء الأرض, فيما تغادران البيت الكبير لبيت مُعدم, هو الإرث الذي حاكه الأعمام, ولتبدءا حياة جديدة, تتلاعب بكما فيها نوات الأيام!
   دائماً ما يخرق ذاكرتكِ ذلك الرَّجل, وهو يقف مكفهراً على رأسكِ بالفصل: ناظر المدرسة! الفصل يموج بالتَّلاميذ, تخيركِ دوناً عنهم, ابتسمتِ رغم أن تضاريس وجهه سببت لكِ انقباضاً ورهبة, نظرة حنو من "الأبلة" (مكسورة الجناح في حضرته) لمعت لوهلة, أدركتِ بحاسة ذكائكِ الفطري أن ثَمَّة خطب يتخلق في الطَّريق! تعودتِ نواكب الدَّهر, وامتلكتِ جلداً ثخيناً رغم الرَّهافة. قال بعدما طرق الضَّجيج بعصاته فعمَّ الصَّمت:
-       اذهبي.
   لم يكن ثَمَّة مجالاً للنقاش, وهل تمتلكين حُجة للمقارعة, وأنتِ بالكاد بنت العاشرة؟! لحظتها طفرت دمعة, انسابت على خدكِ الصَّغير المتورد, لحظتها أدركتِ معناً جديداً لليتم!
    وتلقفتكِ أطيان الأعيان, لتعملي أجيرة, وفي مشاتل الأرز لاحقتكِ نظراته, تهامس الصَّبايا, والنِّساء تغامزن, فقد كان "خراط البنات" بالكاد زاركِ! كنتِ جميلة, ولا تدركين! فاتنة, ولا تعلمين! وذات مساء, آتاكِ الشَّاب يطلبكِ للزواج.
  ومن قلب أضواء العرس تصفعكِ جملة الطبيب:
-        أنتِ عاقر؟!
   امتقع وجهكِ ولم تفوهي, استفزتكِ بطنكِ أمام المرآة, أنشبتِ أظفاركِ, خمشتِ بقوة: "لِمَ تعجز هذي البطن عما تفعله بطون النِّساء منذ بدء الخليقة؟!!"
   وآبى أن يأتي ذاك الذي كنتِ تنتظرين!! ذاك الذي كنتِ تأملين أن يروي نبتة الصَّبار, ترغبين أنتِ في السَّفر إليه, وإن كان في العدم.
    أخيراً يُجهز عليكِ المارد المجهول, تماماً, وتُغادرين!!




ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق