الصفحات

2017/04/29

قرأة في قصيدة (عراق القيامات) للشاعر علي الغوار بقلم: باسل مولود يوسف



قرأة في قصيدة (عراق القيامات)  للشاعر علي الغوار

  باسل مولود يوسف

تلامس هذهِ المقالة هموم الشاعر علي الغوار الشعرية ؛ المنشغلة بجراح وطن غزاه الأغراب الحالمين بالسطو على مقدراته من خلالاستحضاره للعنة العراقيين المتوراثة ؛ والمتمثلة بمعركة (الطف).
المعركة التي أستشهد فيها سيدنا الحسين بن علي وعدد كبير من أَهل بيتهِ ، فترك أثراً عميقاً غائراً في الوجدان الجمعي ؛ نظراً لما حظى بهِ من استجابة شعرية اسلامية واسعة ؛ تعبيراً عن فداحة الظلم الذي وقع على أبناء بنت رسول الله على يد جماعة ظالة دون أدنى وجه حق، ونال الضرر الأطفال والنساء وكانت جريمة مروعة يشهد لها التأريخ.
          يربط الشاعر تلك الحادثة بظروف العراق الحالية أي ما بعد الأحتلال الأمريكي للعراق ، وما أرتكبتهُ القوات المحتلة ومن معها من جرائم بشعة من قتل وسرقة وإطماس للحضارة والكثير من الجرائم التي لا تحصى ولا تعد، يوظف هذا الحدث، وما ارتبط بهِ، لينفخ في الوجدان العربي بعد هذهِ النكبة التي مازالت في أوج عنفوانها. محرضاً على المواجهة والتحدي والتصدي ويتجلى هذا في أغلب مقاطع القصيدة، خلاصة القول إن العراق يرزح تحت الأحتلال ظاهراً وباطناً حيث بلغ الفساد السياسي والأجتماعي ذروته، والقصيدة صرخة مدوية في الوجدان العراقي، بخاصة التحريض على اليقظة، وخلع عباءة الذل التي تلفهُ وتعتصرهُ وتسوقهُ الى حتفه. وللوقوف على تفاصيل القصيدة سوف نتناول في هذهِ المقالة لغة القصيدة، وأهم التشكيلات التي تضمنتها.
  لغة القصيدة
 لا يتسع في هذا التحليل أن نقدم دراسة لغوية مستفيضة، لذا سنقف عند بعض الظواهر اللغوية والموصولة بموضوع القصيدة، وهو الأنقلابات في قصيدة عراق القيامات.
          ففي دراستنا للأنقلابات، وقفنا على تعبيره عن الأنقلاب بمضامين ومعاني متعددة كالرفض، والغضب، والتحدي، والتمرد، والبطش، والصبر، والحقد، والجراح، والالتحام، والمواجهة،... كما شاع في لغته مجموعة ألفاظ تنتمي الى مرحلة الصراعات الكثيرة في الوقت الحاضر وجعل جذور هذا الصراع الى معركة (الطف) المعركة التي أستشهد فيها سيدنا الحسين عليه السلام، وانتشار مثل هذهِ المفردات وتلك يعد أِمراً طبيعياً لشاعر وظف تجربته لخدمة قضيته الوطنية وللتعبير عن موقفهُ الوطني، ورؤيتهُ الثورية.
          ولكن الظاهرة التي تستحق التوقف في تجربته، وذات الصلة الوثيقة بموضوع دراستنا للقصيدة، هي أستخدامه للألفاظ الشعبية الدارجة في العراق على نحو لافت
فمالك من أَمــــــــة تستغيث
بسوط سلاطينها تجــــــــــلد
فمن يفقس الذل في نفســـــه
فلا التاج يجدي ولا العسجد
أيمشي الحمار على ركبتيه
ليأتلف التبن أم يطــــــرد
         ولم يكن منحى الغوار هذا بُدعاً بين شعراء العراق، فهي ظاهرة مطّردة في الشعر العراقي المعاصر، تتفاوت من شاعر لأخر ولكننا نجدها واضحة عند الشاعر علي الغوار.
         وقد نجد نظيراً لهذا مع تفاوت في الدرجة لدى شعراء التجربة الجديدة في الوطن العربي مثل أبراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وسميح القاسم، ومحمود درويش، وعز الدين المناصرة وعدّه بعضهم من أَهم ماتبّناه الشعراء في مجال اللغة حيث أَعتقدوا أن أستعمالهم لغة الحديث اليومي من شأنها أن يجعلهم يتحدثون بلغة القبيلة، وهي لغة الأنسان الأعتيادي، هذا الأسلوب تبنته حركة الشعر العربي الحديث بوصفها رداً على اللغة الكلاسيكية المليئة بالزخارف اللفظية والتصنع والتأنق في العبارة.
         وأكثر الغوار من أستعمالهُ للغة البسيطة غير المعقدة في تجربته، فقاريء شعره لا يكاد يخطيء نسبتهُ الى الشعر العراقي الحديث حين يواجه تلك المفردات مثل (السوط، السلاطين، التاج، الحمار، التبن، القيثارة، الخنجر) وأستخدام بعض المصطلحات (الشظايا، الهدهد، عجّنو، لصّهم، يثرد، أبليس، السحر) وأستخدام بعض الأفعال والصفات مثل (أفق، أينعت، تساقط، هزّها، أستعبد، الحرُّ، تستغيث، يطّرد، أغني، يرقص فصليت، بهدّم، تغرب، دكّت).
         وأذا كان تشبث الغوار وبعض الشعراء الجدد مثل أبراهيم مصطفى الحمد وعبد الآلوسي وغيرهم بالجذور والأرض، وعناصر الهوية الوطنية وراء هذا الضيع، فأننا لا نستطيع أن نغفل حرصهم على عملية التفاعل مع جمهور المتلقين، فشعر المقاومة والقضية والثورية... كُتب ليلقى في المحافل والملتقيات والمنتديات والتجمعات الجماهيرية وينشر في الدوريات، ويبدو حرصهم على هذهِ العملية حاضراً من خلال الرؤية التي يصدر منها، وكذلك فهمهم للعملية الأبداعية وصلتها بالجمهور هذهِ الرؤية التي تنتمي الى الطبقة العريضة في المجتمع.
         وهذا الأنتماء تحددهِ طبيعة الظروف التي يعيشها الشاعر مع أبناء جلدته، وطبقة الكادحين تحتاج الى لغة بسيطة واضحة الدلالة والمعالم، تتناسب مع حظّها من الثقافة والتعليم، وأحياناً تحتاج الى اللغة البسيطة، التي تشدها وتستفزها في عملية التفاعل مع النص ولم يكتفي على الغوار، في سعيهُ الدائب للتشبث بالجذور، وألتصاقه باالأرض، وحرصه على التفاعل مع المتلقي، بهذا الحشد من الألفاظ البسيطة، بل يظل يلاحق متلقيه بالمزيد من تعبيراته اللغوية الجميلة، التي تستطيع أختزال المواقف والرؤى التي تعيش مع أَغلب الفئات الثقافية.
 الوضوح والبساطة في هذهِ القصيدة :
قد لاحظنا في قرآتنا  كيف سعى الشاعر الى الأقتراب من متلقيه، وتجسير العلاقة معهُ، وكيف راح يلاحقهُ باستخدام الألفاظ الدارجة حينا، والألفاظ البليغة حيناً آخر، مما جعل لغتهُ أقرب الى لغة أهل العصر ومفهومهم، قريبة من الرصانة والمتانة بمعانيها التقليدية، إنها لغة تتقاطع مع اللغة العادية، لتخاطب جمهوراً عريضاً، من أقصر الطرق، دون الدخول في دوامات الحداثة، ومنطق تفجير اللغة.
وفوق جماجمنا عربــــــــدوا
أتعلم ما تحت هذي العمامات
إبليس والسحر والهدهــــــــد
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تكلم فشيطانُهم أخــــــــــرس
ومفتي سياساتهم مفســــــــــد
فلا دولة شيّدت ظلمــــــــــها
تهاوت وأعناقها تحصـــــــــد
         هذا صوت شاعر العراق الأول أَلذي أَعتمد في أغلب قصائده الأسلوب المباشر في التحريض على الثورة وعلى الواقع الفاسد وربما كان الهدف الأول المهم في إتباع علي الغوار هذا الأسلوب إن الشعر عنده مهمة، ومهمتهُ تتحدد بتأثيره على الجماهير وإثارة نار الغيرة الوطنية ولعل  الغوار بذلك هو السبب الرئيسي في بناء نسيج القصيدة بهذهِ الطريقة وهذهِ الكيفية والتشكيل.
         لقد أبدع الشاعر في تشكيلاته الأسلوبية، فهو ينتقل من حركة الى آخرى داخل تجربتهُ، ليتحول الى الادوات الأولى والأليق للتشكيل فحين أراد أن يعبر عن حالة الغدر والخيانة لأنسان هذهِ الحضارة، لجأ الى أسلوب الحوار وهو حوار من طرف واحد هو المتكلم/ الشاعر نفسهُ، الذي أَخذ على نفسهُ مهمة تبصير الآخر بزيف ذلك الواقع المرير (والغدر شيمة الأخساء) وجاءت لغته في سياقات لغوية متوازية، تتكيء على النهي والأثبات والتكرار والمفارقة في صورة ممتدة تسعى فيها إلى تقديم القصيدة بهذا الاسلوب المميز.
أَفق فا الدم الحر لا يرقــــد
وعز المنايا لهُ المرقــــــــد
بلى لا ينام الجريح المضام
وفي جرحه الخنجر المغمد
فأن خانت الكف سيافـــــها
فها ذو الفقار الفتى واليــد
         لاحظ دور المضارع في سبل سياقات النهي، ولاحظ مدى وثوقية الشاعر من خلال هذهِ المتوازيات النحوية، كيف أثرى إيقاعاته الخارجية والداخلية من خلال هذا الأحتشاد الأسلوبي.
ولنأ مثلاً... صورة من صور السخرية من حالة الغدر والخيانة أنهُ التأريخ أو الحقبة من ذلك الزمن، التي ظهر فيها(النفي، والأستثناء  والتوازي النحوي، والمفارقة) بدور في تشكيل القصيدة.
فمالك من أمـــــــة تستغيث
بسوط سلاطينها تجلــــــــد
فمن يفقس الذل في نفســــهِ
فلا التاج يجدي ولا العسجد
أَيمشي الحمار على ركبتــه
ويعتلف التبن أم يطـــــــرد
         وتطوف بنا ونحن نقرأ هذا المقطع صورة معاناة شعب وظلم حكومات، لقد سادت التجربة التظلم والمعاناة المريرة، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قرأتنا، لأنها  هي رفض للظلم، للقتل، للخيانة، لكل أشكال الاستبداد، التي كانت ومازالت تنخر في عظم الأمة وتهدد بنيانها القويم وبدأ الشاعر بهذا الأسلوب وهو الأَولى بهذا الموقف، والشاعر لايستخدمهُ بصيغة واحدة، كما لا حظنا في قصيدة (عراق القيامات).
 ويمكن الوقوف على العديد من تلك الصيغ على أَمتداد ومحاور الموقف والرؤية، فحين أراد التعبير عن الغدر والخيانة في عدة مراحل من التاريخ، لم يجد خبراً من الشرط المكرر المنفي، فلم يجد فترة من الزمن تخلو من الغدر والخيانة والتنصل من الوعود والعهود، فأغلب القيم التي يعتز بها الشاعر فرغت من قيمتها وحقيقتها وجمالياتها.

فمن لحمنا عجّنوا خمرهم
وفوق جماجمنا عربـــدوا
ومن دمنا لصّهم يثـــــرد
ومن دمعنا عتقو خمرهم
وفوق جماجمنا عربــدوا
مفارقة مدهشة يقدم بها صورة الأنسان بأفظع صورة للظلم، والأستبداد، وتميز شاعرنا في نقلها وهي مواجهة الأنسان لتلك الظروف، وهذهِ القصيدة بنية درامية  قامت أساساً على الاستعارة واتسمت بالمفارقة المميزة .
لقد كانت المفارقة في هذه القصيدة من أبرز عناصر النص التشكيلي لها، يتفنن  علي الغوار في توليدها وتفجيرها، حتى غدا نصهُ. مفارقة كبيرة، فهو حاول من خلال الأتكاء على المفارقة الى كشف التضاد والتناقض بين ماهو حقيقة وماهو محض زيف في حضارة وادي الرافدين المتوغلة في عمق التأريخ، ولعل أعتماده على هذا الشكل التعبيري يجعل من المفارقة وسيلة تفهم المتناقضات التي يقوم عليها حضارة وادي الرافدين، لذا فقد نهضت المفارقة بدور كبير في بناء قصيدة (عراق القيامات) وأعتمد الشاعر علي الغوار عليها في التعبير عن موقفهُ ورؤيتهُ، كما منحت تجربتهُ مذاقاً خاصاً ومتميزاً، يثير في نفس القاريء إحساساً بالألم أحياناً والأندهاش أحياناً والانبهار حالات أَخرى.
         وفي نهاية هذهِ الدراسة تبين ما يلي:
من الواضح إن الشاعر علي الغوار كان على وعي بمنطق التنامي في التجربة الشعرية، وهو يرى إن تجربته قد تطورت من البناء التقليدي إلى بناء فيه (فكرة تولد فكرة، وكلمة تذكر بكلمة) وموقف يذكر بموقف، لكي تكون القصيدة متكاملة بتناسلها الفكري والأدبي والفني، كما إننا نجد إن الشاعر حقق هذا البناء في هذهِ القصيدة.
ولكن القاريءسيجد مفهوم الوحدة العضوية غير متحقق ويلاحظ إنهُ لم يجاوز فيها ذلك البناء التراكمي التقليدي، ووجدنا إن هناك تناسباً وتلاؤم أجزاء النظم، كما وجدنا أنه آصر نفسية وفكرية، عمل على تأخي تلك الموضوعات المتعددة في أطار هذهِ القصيدة.
         يبدو إن الشاعر له صلة قوية بالتراث، مع أعتزازه وتقديره لأبداعات أسلافه، قد جعلت من الصعب عليه أن يتخلص من سلطة تلك النصوص المسيطرة، ويمكن القول إن مخزونهُ الهائل من تلك النصوص سهل عليه أحتذاءها، والسير في دربها فبنى الشاعر علي الغوار قصيدته (عراق القيامات) وفق معاييرها البنائية المميزة.

وفي الختام أتمنى التوفيق للشاعر علي الغوار في مشواره العلمي والأدبي، وهذا مامكننا فيه الله من تقديم هذهِ القراءة  التي تناولت جوانب مهمة في بناء القصيدة، ولابد من الأشارة إن كل عمل من صنع البشر لا ينالهُ الكمال المطلق ويشوبهُ بعض النقص، والكمال المطلق هو الله ولرسوله.

تكريت/                                                            باسل مولود يوسف

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق