الصفحات

2017/06/20

الرواية العجائبية في الأدب المغربي: إصدار جديد للدكتور خالد التوزاني



الرواية العجائبية في الأدب المغربي: إصدار جديد للدكتور خالد التوزاني


    صدر كتاب: "الرواية العجائبية في الأدب المغربي الحديث" لمؤلفه الناقد المغربي الدكتور خالد التوزاني، في طبعته الأولى، سنة 2017، عن منشورات مؤسسة مقاربات للنشر والصناعات الثقافية، التي يديرها الأكاديمي والمبدع الدكتور جمال بوطيب، وبدعم من وزارة الثقافة بالمملكة المغربية. ويأتي هذا الكتاب استمرارا للمشروع العلمي للدكتور خالد التوزاني في رصد العجيب والغريب وأبعاد توظيفه في الأدب والثقافة والفن، من أجل خلق نوافذ جديدة تسعف في فهم العقلية العربية، واقتراح مداخل تنميتها. ويخوض هذا الكتاب مغامرة تحليل رواية "سيرة حمار" للمفكر حسن أوريد التي أثارت جدلا كبيرا بين القراء، كما يخوض الكتاب أيضا مغامرة تحليل رواية "وريخا" للروائي عزيز أمعي التي اقتحمت المسكوت عنه والمهمش في بنية اللاوعي الجمعي للمغاربة.. فضلا عن فصل نظري يؤصل للرواية العجائبية.
    يقدم كتاب "الرواية العجائبية في الأدب المغربي: دراسة نفسية اجتماعية" للمؤلف الدكتور خالد التوزاني محاولة جديدة لمقاربة الرواية العربية برؤية نفسية واجتماعية تأخذ بعين الاعتبار ما يحف تأويل الإبداع عموما من صعوبات وعوائق، خاصة وأن النقد النفسي في الدراسات العربية لم يحقق بعدُ ذلك التراكم الذي يؤهله لادعاء الإصابة أو الإجادة، فالكتابات في هذا الاتجاه ما تزال قليلة، والجمع بين تخصصي علم النفس وتحليل الأدب يعتبر قليلا في صفوف النقاد، ولذلك يُحسَب لهذا الكتاب أن مؤلفه الدكتور خالد التوزاني يملك حداً أدنى من الثقافة النفسية لحصوله على إجازة في علم النفس وله نصيب من تحليل النصوص الإبداعية لحصوله على دكتوراه في الآداب، مما يجعل مقاربته تتسم بالجدة والأصالة والعمق، والنتائج تحظى بنسبة عالية من الصدق الموضوعي، خاصة وأنه لم يكتف بالشرح أو التفسير وإنما تطلّع إلى التأويل والبرهنة وتعميق النظر في ما وراء العجائبي، هذا الأخير يتحول من الإمتاع إلى التحيير، لخلق فرصة للسؤال، فالعجائبية كما تناولها هذا الكتاب تفضح مختلف البنيات النفسية المهترئة والتواصلات الاجتماعية الهشّة التي تكرس السلبية وتُعَمِّقُ ضعف واقعٍ ومنطقةٍ منكوبةٍ على مستوى استخدام العقل والذراع، ومن ثم كانت المقاربة النفسية الاجتماعية باعتبارها اختيارا منهجيا عاملا مساعدا على كشف هذه البنيات واقتراح بعض الحلول، فضلا عن سبر أغوار النصوص الروائية ذات الملمح العجائبي.
     إذا كانت الرواية عملا سرديا إبداعيا "من أكثر الأجناس الأدبية تمردا على التحديدات المنهجية سواء التنظيرية منها أو التحليلية"، فإن التقاءها بالعجائبي قد يزيدها تمردا وانفلاتا، بفعل تحولاتها المستمرة والمتسارعة، ومن ثم يكفي أن يحضر العجائبي في عتبة عمل إبداعي ما ليحيل على الشوق والاشتياق لموضوع طريف وجذاب، فالمرء بطبعه يميل لكل ما هو عجيب وغريب ونادر، لكن العمل الإبداعي أحيانا قد يجعل المتلقي في مواجهة أسئلة لم تتمكن الأعراف والقوانين الطبيعية والأخلاق التي تتبناها الأمة والدين من الإجابة عنها، نظرا لقدرة الإبداع على تكثيف المعاني، من خلال توظيف الرموز والعلامات، "فالمعرفة الإنسانية هي بالضرورة معرفة رمزية، ولا يستطيع أحد أن ينكر أن الفكر الرمزي والسلوك الرمزي يكونان أهم ملامح الحياة الإنسانية، وأن كل تطور حضاري إنما يعتمد على ما يعتري هذا الفكر الرمزي والسلوك الرمزي من تغيير"، ومن ثم كان الإبداع أقدر من غيره على تخزين المعرفة الإنسانية، وإثارة الأسئلة المقلقة والمحيرة والتي تدفع المتلقي للتفكير وإعادة النظر في جملة من القضايا التي تحوّلت بفعل الإيقاع اليومي الرتيب إلى نوع من اليقينيات والبديهيات.
    بناء على تصور موضوع هذا الكتاب ونماذج الروايات المختارة في التحليل، فقد تم تقسيمه إلى مقدمة وفصلين؛ الفصل الأول خُصِّص لمقاربة الرواية العجائبية من التنظير إلى الممارسة، وضم جملة من المباحث، حاول تسليط الضوء على دلالات العجائبي وأنماطه وصلته بالأدب والرواية، واعتباره مدخلا لفهم العقلية العربية، وبما أن الجن بوابة للعجائبي في الرواية المغربية، فقد تم مناقشة حضوره في الثقافة والإبداع، وذلك لتعزيز أرضية نظرية تفيد في جانب لتحليل. أما الفصل الثاني، فخصص لتحليل نموذجين من الروايات المغربية، وهما رواية "سيرة حمار" للمفكر الدكتور حسن أوريد، ورواية "وريخا" للكاتب عزيز أمعي، مع اختتام كل فصل بتركيب أجمل فيه النتائج المتوصلّ إليها، وقد حرص المؤلف الدكتور خالد التوزاني في تحليل النماذج المختارة على التقيد بالموضوعية والتزام الدقة، دون خضوع لإعجاب متطرف أو تحمّس مبالغ فيه لأصحاب هذه النصوص، وعلى الارتباط الوثيق بأفكار الرواية، بغرض إشراك القارئ في تأملها، وتكوين صورة منصفة عن الرؤى المستخلصة منها. ثم أخيرا خلاصة واستنتاجات لتأكيد بعض الحقائق التي خلص إليها المؤلف في ثنايا هذا الكتاب، وكذا الآفاق التي يفتحها البحث في الرواية العجائبية في الأدب المغربي، ثم ذيل الكتاب بفهارس تيسر الاستفادة من العمل.
   ويذكر المؤلف الدكتور خالد التوزاني أن إيمانه العميق بقوة الإبداع المغربي وتميّز الأدباء والكُتّاب المغاربة هو الذي يفسّر انفتاحه في هذا الكتاب على الأدب المغربي المعاصر، رغبة في استجلاء مظاهر التميّز والقوة فيه، واقتراح قراءة علمية بمعايير موضوعية منصفة ترى في النص الأدبي عملا يخدم الإنسانية ويربط جسورا من التواصل الثقافي بين الحضارات. ولا شك أن هذه الرؤية قد أسهمت في تقديم قراءة جادة للرواية العجائبية، باعتبارها أحد الاختيارات الإبداعية المعاصرة الأكثر إثارة للجدل والنقاش.
    من أبرز الخلاصات التي تضمنها كتاب: الرواية العجائبية في الأدب المغربي: دراسة نفسية اجتماعية" لمؤلفه الدكتور خالد التوزاني، أن مفتاح فهم العجائبي هو سعة الثقافة، التي تحرر المرء من الأوهام، وهكذا "يجب أن تكون الثقافة الأداة العقلية للتحرر"، خاصة وأن العجائبي والعقل قد لا يجتمعان عند كثير من القراء والمتلقين، ولذلك لا سبيل لخلق جسر عابر لقارة العجيب في اتجاه العقل سوى الثقافة الشاملة باعتبارها البديل الحضاري والمنطقي لما وراء العقل أو ما وراء الثقافة، حيث يتّحد الشيء وضده، وتجتمع الأشباه والنظائر، وتلتقي الأضداد في وحدةٍ جامعة، لتؤسس لغة العجائبي وأيضا آلة الفهم، ولذلك كان في "سيرة حمار" سعي حثيث للتقريب بين ضفاف الثقافات وتأمين تعارف بين الكائنات وخلق جسور تواصل متين، وتنقية مجالات التدبير الإنساني لشؤون البشر من نوازع الهوى وأطماع النفس التي لا تشبع ولا تملّ.
   كما أسفر البحث في تجليات العجائبي ووظائفه في "سيرة حمار" للمفكر الدكتور حسن أوريد، ورواية "وريخا" للكاتب عزيز أمعي، عن جملة من الخصوصيات التي تطبع الرواية العجائبية في الأدب المغربي، ومنها أن موضوعات هذا النمط الروائي لم تخرج عن هموم الوطن والإنسان، ففي رواية "وريخا" يحضر النفسي والاجتماعي بقوة ليسلط الضوء على بقع الوجع في جسد فئة من المغاربة يعانون من بعض الاضطراب الناجم عن العراك مع واقع مؤلم ومحبط لم ينجحوا في تطويعه، لأنهم لم يغادروا المكان الصعب للعيش بعيدا عن الألم، ولم يفكروا عقلانيا في إبداع واقع جديد سمته المشاركة والمواطنة والتضامن والإيجابية، وإنما ارتموا في أحضان الخرافة والشعوذة والسلبية والاتكالية، وظنوا أن الخلاص قادم من العالم الآخر الغيبي وغير المرئي، ولكنهم في الحقيقة لم يزيدوا الواقع إلا بؤسا بما فعلوا، وخير شاهد هو استمرار خرافة "وريخا" في مثل مناطقهم، التي يقبل الناس فيها على الخرافة دفعا للضرر واستجلابا للخير وطلبا للعيش السهل، ولو كان ينفع الجنُّ الإنسانَ، لَدفَعَ عن نفسه الضرر، عندما ظل يخدم الأرض حولا كاملا ولا يدري أن سليمان عليه السلام قد مات، قال تعالى: "فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلا دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ" (سورة سبإ، الآية: 14)، ومن ثم عبّر العجائبي عن الحاجة إلى اللآشيء أو الوهم الذي يُعوِّضُ المرء ما لم يحصل عليه بالاجتهاد والمكابدة، ثم يحتجّ على واقع مُعاند لا يُسلمُ القياد إلا للقادة من الناس الذين يخلقون من الظروف الصعبة واقعا جديدا ينحتون فيه أحلامهم، ويحفرون في الصخر منجزهم، فلا ينساهم التاريخ.
    أما في "سيرة حمار" فتنتقد الفعل السياسي العفن لبعض المسؤولين الذين يُحَكِّمون الهوى ويُكيّفون القوانين تبعا لأهوائهم ونوازع نفوسهم الآمرة بالاستيلاء على المنافع والمكاسب خدمة لمصالحهم الذاتية، وهي فئة وإن كانت قليلة في الواقع، إلا أن وجودها يترك آثارا سيئة في الجسم السياسي، حيث يختلط السليم بالسقيم، ويتماهى المعافى بالمشوّه، ليظل المتلقي/المواطن مصابا بالدهشة والحيرة المؤدية للعزوف السياسي وفقدان الأمل، كما تنتقد أيضا ارتماء بعض المثقفين في أحضان الغواية والخيانة، عندما يتطلعون إلى اللذة المحرمة أو الامتياز الذي لا يستحقونه، فيصبح وجودهم في المكان غير المناسب وجودا مشوّها أو ممسوخا، وبذلك يقدمون صورة سلبية للآخر حول نخب المجتمع التي يُفترض فيها النزاهة والعدل والكفاءة والمروءة، وغيرها من الصفات التي تمنح لصاحبها المصداقية والثقة.
    كما يحضر في "سيرة حمار" السؤال الفلسفي ماثلا كالمارد يعكر على المتلقي صفو سكونه واستسلامه لخوائه، ليدفعه للتأمل، وتوليد الأسئلة، ولكن السلوك الإنساني عندما يظل ممسوخا بما فيه من أنانية وطمع وغلو في المتع واللذات، لا ينتبه لنوع من الأسئلة المقلقة والمزعجة، فعلى الرغم من قيمة العلم والثقافة في رقي الإنسان، إلا أن بعض المثقفين لا يصمدون أمام الإغراءات وسرعان ما يسقطون، ليشكّل هذا السقوط خسفا أو مسخا، يفقدهم إنسانيتهم، فيعيشون حياة حمارية، لا تعترف إلا بما تغترف من لذات "محرمة"، داخل واقع يغيب فيه التوازن بين الفئات الاجتماعي، ويعكس بؤسا في جوانب من الفعل السياسي الذي مُسِخ وأُفرغ من محتواه النبيل، مادامت السياسة في الأصل مهمة النبلاء وصفوة الناس من الأمراء وأهل الأخلاق الراقية.
      إن الرواية العجائبية متمثلة في نموذجي "وريخا" و"سيرة حمار"، تسعى لتغيير واقع مألوف مليء بالإحباط والجحود والمكر، إلى واقع آخر مغاير للعادي ومخالف للمألوف، سمته الأمانة والصدق والتضحية والإخاء والتسامح والتعايش والسلام وبذل الجهد، وهي أخلاق الأمم الراقية التي تقدس الإنسان، وتسعى لتلبية حاجياته بل وتمكينه من بعض الكماليات، ولا يحتاج هذا الرقي سوى لعقل خلاق قادر على اختراق الخرافة وتدمير بنيات الاستسلام، أي الانتقال من العنّة إلى التخصيب، كما تقول سيرة حمار: "التخصيب أنواع، وأرقى التخصيب هو ذلك الذي يقيمه الإنسان بعقله ليغيّر واقعا، والعنَّة أشكال عدة كذلك وهي كل شكل من أشكال العجز والخنوع والاستسلام".
     يُنتظر من إنسان اليوم كمال المعرفة العقلانية والتشبع بروح الحداثة والتحلي بالمنطق وسلامة التفكير وقوة الخلق والابتكار وروح التجديد والإبداع، مع أخلاق التسامح والصبر والاستمرار، وهو ما يتناقض مع اللآءات الثلاثة: اللآطبيعي، واللآشيء، واللآصمت، وهي بعض الوظائف التي يعمل العجائبي على تحقيقها، في حين لم يكن بعض الناس المنجزين في حاجة إليها، لأنهم يعملون وفق القانون "الطبيعي" للكون، فتسعفهم المعرفة وتطاوعهم المادة لفهم قوة "الشيء" مهما كان صغيرا، ولأن العمل دليل الحياة، فهم يعملون في "صمت" ويتركون الآخر يدرك من بعيد أنهم أحياء ما داموا يتحركون، وينجزون. ولذلك فإن العجائبية تفضح مختلف البنيات النفسية المهترئة والتواصلات الاجتماعية الهشّة التي تكرس السلبية وتُعَمِّقُ هدر قدرات العقل وتعطيل المنطق.
    هكذا، يظهر الوجه الآخر للرواية العجائبية التي تقدم نفسها في البدء بوابة للمتعة والسفر الجميل في رحاب لذة السرد العجيب الذي يُنسي المتلقي بعضا من آلامه وأوجاعه، ولكنها سرعان ما تدفعه للحيرة بفعل ما تخلقه من مفارقات وتناقضات، فالعجائبي لا يستقر في بؤرة أمنٍ أبدا، وإنما يزرع الشك والريبة حيثما حلَّ وانتقل، ليختبر قدرات العقل، فإن لم ينجح هذا الأخير في إيجاد حلٍّ يحقق التوازن، فإنه يُغيَّبُ، ليفسح المجال واسعا أمام الخيال والقلب والحُلم في اليقظة لتحقيق ما عَجز عنه العقل، ولأن الطبيعة لا تقبل الفراغ، فإن الخيال يقدم حلولا لواقع ملتبس، يتحوّل بفعل هذه الآلية العجيبة، آلية التخييل، إلى شلالٍ لتحقيق كل الأمنيات، حيث يكفي أن يغمض المرء عينيه، متخلّصا من واقع حسي مكبِّل، ليحلّق في الأرجاء ويأتي بكل ما اشتهته النفوس، فالحُلمُ هنا مفتوح على مصراعيه، لا يقف أمامه حاجزٌ ولا حتى مراقب، وقد يطول الغياب أو يقصر، تبعا لمستوى الاستسلام لليأس ومدى الابتعاد عن العقل الذي يصبح في هذه الحالة مصدر توتر وقلق وصداع، ومن ثم ندرك كيف سيتحول عشق العجيب إلى إدمان، وكيف ستنتعش الحكايات العجيبة في أوساط اجتماعية كثيرة وفئات عريضة تتحوّل بفعل الخرافة لتصبح جيشا يحارب كل تجديد أو تطوير أو دعوة لتطبيق القانون بما لديها من أدوات السخرية والمسخ والإهمال والنسيان وإلقاء اللوم على الآخرين.
     إن الرواية العجائبية عموما، إلى جانب كونها منتوجا أدبيا تخييليا، تمثل منتجا ثقافيا، يمكن النظر إليه باعتباره نمط حياة لأفراد وجماعات مختلفة في أوقات وأماكن متباينة، فهي "ليست مجرد نشاط متعة أو إمضاء لوقت فراغ، بل تهتم بتكوين أفراد ناضجين ذوي إحساس بالحياة حقيقي ومتوازن"، فهذا النمط من الرواية بقدر ما يخلخل التوازن ويسحب بساط التحكم في الواقع من تحت المطمئن والراضي عن واقع مألوف، بقدر ما يعيد التوازن لمَنْ لم يكن مطمئنا أو كان في نفسه شيء من حتى، وكأنها بهذا المنهج "المقلق" تواجه واقعا جديدا بدأ يلوح في الأفق يُعرف بما بعد الإنسان، ومن ثمَّ، كان السرد العجائبي قائما على المسخ والتحوّل واستحضار الجن والانتقال عبر فضاءات غيبية غامضة..، وكل ذلك بحثٌ عن الأمان في منطقة وراء الغيب ووراء الظاهر حيث الإلهام والخيال والوحي والاستمداد من قوى بعيدة غير مرئية..، لمواجهة واقع ما بعد الإنسانية، وخاصة في ظل تزايد هيمنة الرقميات وتغوّل الآلة، وهو طموح يكشف عن جزء من قلق الإنسان على مستقبله، وأيضا يبرر استمرار تأثير ما فوق الطبيعي في الطبيعي، وغير العقلي في العقلي، ليزداد الغموض في رؤية الإنسان وتصوّره لنفسه، وتُعاد أسئلة معرفة الذات لتُطرح من جديد، ولكن في سياق آخر، تنافسه "ذوات" أخرى، لا تقل "ذكاء" عنه، ويتعلق الأمر ببعض مخترعاته التي لم يعد له سيطرة عليها، ولم يعد له غنى عن العيش دون وجودها، بل وتحكّمها أحيانا كثيرة في تفكيره وسلوكه. ولا شك أن هذا الأفق التأويلي الذي تفتحه الرواية العجائبية يحتاج لتعزيزه والوقوف على مدى وجاهته ودرجة صدقه، إلى تكامل العلوم في مقاربتها للنص، هذا الأخير الذي لم يعد مرتبطاً بالمكتوب فحسب، وإنما كل ما يمكن أن يشكّل موضوعا للنقاش.
        إن الأساس العلمي الذي وجّه كتاب: الرواية العجائبية في الأدب المغربي: دراسة نفسية اجتماعية" لمؤلفه الدكتور خالد التوزاني، هو مبدأ الحتمية السيكولوجية، والذي يتضمن أن كل ما يصدر عن الإنسان إنما يعبر ويرمز إلى مكوناته النفسية وإلى أعماقه اللاشعورية، ولا شك أن فن العجيب نتاج أدبي وفكري يمثل نشاط البنية الذهنية الشعورية واللاشعورية في ارتباط بما هو اجتماعي وعلائقي مع الكون والمحيط، وهو ما يجعل الدراسة بحثا في العمق الإنساني وحفرا في البنيات المشكّلة لوجوده، على أن مفتاح الولوج نحو هذا العمق يكمن في "العجائبي"، ومن ثم لا غنى للباحث من تفصيل القول في هذا المفهوم وسياقات توظيفه ومجمل معانيه ووظائفه، قبل أي خوض في قضايا الرواية العجائبية وموضوعاتها الأساسية، ليأتي بعد ذلك الجزء التطبيقي وهو تحليل لروايتين، علما أن هذا الكتاب يمثل استمرارا للمشروع العلمي للدكتور خالد التوزاني في رصد العجيب والغريب وأبعاد توظيفه في الأدب والثقافة والفن، من أجل الإسهام في خلق نوافذ جديدة تسعف في فهم العقلية العربية، وذلك في أفق تقديم مقترحات الارتقاء بهذه الذات وتطويرها.
    جدير بالذكر أن الكاتب والناقد المغربي الدكتور خالد التوزاني، له جملة من المؤلفات المنشورة منها، كتاب "أدب العجيب في الثقافتين العربية والغربية" صدر عن دار كنوز المعرفة بالأردن، وكتاب "جماليات العجيب في الكتابات الصوفية"، صدر عن الرابطة المحمدية للعلماء بالرباط، وكتاب "الرحلة فتنة العجيب بين الكتابة والتلقي" الذي فاز بجائزة ابن بطوطة للأدب الجغرافي للعام 2016 بالإمارات العربية، كما حاز الدكتور خالد التوزاني جائزة أحمد مفدي للدراسات النقدية بالمغرب، وجائزة الاستحقاق العلمي من مؤسسة ناجي نعمان العالمية للأدب بلبنان.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق