الصفحات

2017/07/02

إلى أين رحل الحمام يا محمد الكامل ؟ وقفة مع ق ق ج (ضباب) لمحمد الكامل بن زيد بقلم: عبدالقادر صيد

إلى أين رحل الحمام يا محمد الكامل ؟
وقفة مع ق ق ج (ضباب) لمحمد الكامل بن زيد
بقلم: عبدالقادر صيد
ـ ملاحظة : القصة في آخر المقال
  إذا تصفحت قصصه وجدت نفسك  أمام الحرف الرشيق الذي تحرر من شحوم البلاغة المفتعلة ، و من كبرياء الإحالة و غرورها ، حيث لا يحيلك إلى غير عالم محمد الكامل بن زيد .أنت أمام الحرف الذي لا يتناص إلا مع نفسه ، إنه الكبرياء الأدبي في أسمى تواضعه لا يقدم لك طبقه بغلاف فاخر، و إنما يعرض عليك مادته الأدبية خاما، دون تأثيرات ، و لذوقك بعد ذلك الحكم .
و كاتبنا لا يتعامل مع قرائه على أنهم مبتدئين يجول بهم عالمه من شارع ضيق إلى آخر ، بل يتحمل  هو مخاطر تلك الجولة أولا، ثم يحمل معه قارئه على متن طائرة مروحية ، و يريه تلك المواقع بسحرها و عبيرها ، فيتعرف القارئ على السر الذي هو أهم من الحدث الذي يصنع القصة.
 أهمس في أذنيك :احذر عندما تقرأ له ،ففي نيته أن يراوغك بحرفه ،أن لا يفشي لك سره من القراءة الأولى ، إنه كحصان طروادة ، تتسلل إليك مضامينه عندما يراك بدأت تتخفف من سلاح الانتباه ..
  يتبنى دائما طرحا يربكك ، بل و يستفزك ، يخرجك من لامبالاتك ، لا يقنع  منك بدور المتلقي ،و إنما يريد منك أن تكون مشاركا ، و ينجح كعادته كل مرة في مهمته، أقل أساليبه في ذلك حذف بعض الأحداث الرابطة التي تعمل فكرك بمتعة حتى تفهم النص .
    ارتأينا في هذه الوقفة أن نقترب من قصة قصيرة جدا منشورة  ورقيا و إلكترونيا ،اختار لها عنوانا هو  (ضباب ) ،و هو لم يتعب في إيجاده لأنه متداول و غير مركب ،و جاء نكرة ليفتح الباب أمام الذهن لكل الاحتمالات الواردة و غير الواردة . و هو من العناوين غير  القابلة للاستنفاذ ،تماما مثل الظل و المرآة و الصدى و القبر، و غيرها من تلك التي يحس الأديب أنها تبوح له وحده بسرها دون غيره من المشدوهين، تلك الأشياء التي حيرت الطفولة و الإنسان البدائي و بقيت ترجيعاتها حتى وقتنا الحاضر.لا بد من الاعتراف بقرابة العنوان من كل نفس ،لأنه و لا أحد ينجو من ضباب في زاوية ما من زوايا حياته .
 كان من المنتظر أن يكون الضباب حليف الولد ،و لكن ما إن تنتهي من قراءة القصة ، حتى يزاح عنك الضباب ، و تعرف أنه لصيق بذلك الشيخ الذي ذهب بصره أو كاد ، و تستفيق إلى أن الكاتب كعادته لا يريد أن يهادنك ..
  تبدأ القصة بالأب ، الذي يبدو في موقف البطل ،و لا سيما و هو مقرون ببندقية قديمة و ما تحمله هذه اللفظة من الجلال و الهيبة، لكن ما يكاد يمر وقت قصير حتى يزاحمه البطولة  ابنه، إن لم نقل يرث بطولته حيا ..إنها مرارة أن يعيش الابن أفول أبيه ، أو يضطر أن يوقع على هذا الأفول هو بنفسه في عبارة (سحبه من يده) ، و لكن يخفف منها محاولة إخفاء الابن هذه الحقيقة بتدليس بريء ، عادة ما تكون هذه الوضعية مصاحبة لمكابرة الأب و تعنته في قبول مرحلة عمرية معينة أو سيرورة حتمية، تماما كما نرفض التفاوض مع مرض مزمن بغيض .
  لماذا يتم استهداف سرب  من الحمام الذي يضاف إليه العبور فوق سماء المدينة؟ هل يراد العبث بكائنات جميلة ترمز للسلام ؟ كان من الممكن أن يختار الأب الأرانب مثلا ، أو الغزلان . هذه زاوية مظلمة ليس للسارد الوقت الكاف لشرحها ، و أعتقد أن الكاتب يرى أن تسليط الضوء عليها لا يخدم قصته .
  لفت انتباهي أن الكاتب مكثر في الحديث الفني عن أبيه ، بل و عن أمه أيضا،   و القضية متروكة للنقاد و لاسيما القريبين منه ، هي دعوة سافرة مني لتناهب نصوصه.
  يضعنا نصه هذا أمام أربعة أصوات :صوت السارد ، صوت الأب ، صوت الابن ، و صوت الطبيب .
   يرافقنا الصوت الأول الذي هو صوت السارد إلى ما قبل الجملة الأخيرة لتختم بصوت من يرشح لأن يكون بطلا في آخر المطاف ، و هو الولد ،يعني لا يتخلى صوت السارد عن السلطة ، حتى يسحبه الولد ليقول كلمته الأخيرة .
  و يمكن أن نلاحظ بكل يسر أن السارد غير حيادي منذ البداية حين يصف البندقية بالقدم ، و الحمام بالعابر، ناهيك عن كونه أول ناطق .
   في حين أراد الكاتب أن يبرهن أن ما يتفوه به الشيخ قريب من المنولوج لأنه يحاول  إقناع نفسه داخليا و بعيدا عن أرض الواقع بمدى مهارته ، و ما إجابة الابن غير الموافقة لكلام الأب إلا دليل على ذلك ، فلا سؤال و لا إجابة إنما هي جمل جاهزة من الطرفين .
  وما يريد الكاتب إبلاغه من القيم الإنسانية  هو ذلك الألم الذي يتحمله عليك شخص تكون أنت عزيز عليه ، و شفقة منه لا يجرؤ على إخراجك من فانتازيا (الأنا) التي تكون فيها سجينا لمدة ستين سنة ، ويبدو أنه في حالة (ضباب ) محكوم عليه بالسجن المؤبد .
أن تكون الطلقات النارية بدون جدوى ، أمر محبط ، يقتل فينا مسوغات الحياة ، ألسنا كلنا مشروع طلقة نارية نحاول أن نحاكي من خلالها تلك الطلقة التي أخرجتنا من أصلاب آبائنا ؟ !
  و لا يخلو النص من السخرية المُرة ، و ذلك حين ينتقل الجاني أو المذنب إلى ضحية تدعو إلى التعاطف ، إنه ضحية لعبة الزمن التي لاتستثني شيئا .
  نجد أنفسنا أمام ثلاثة وجهات للنظر : وجهة نظر الشيخ الذي ما زال يعيش على وقع أمجاده ،و لا يريد أو لا يستطيع أن يسمع صوت الجيل الجديد ، و لا صوت الطبيب ، و وجهة نظر الابن الذي يمثل على استحياء البذرة  التي تتماطل في مصارحة الشجرة بأنها تصد عنها النور ، و أما وجهة النظر الثالثة فهي للطبيب الذي يمثل الحكمة ، و كان بإمكان المؤلف لو كان في غير ق ق ج أن يستعين بتوصيفات  و تسميات للشخصيتين ، و بالخصوص بالنسبة للأب حتى يزيد الأمر وضوحا .
  يبدو الطفل يائسا ، و متجذرا في اليأس إلى أبعد درجة  حتى ترك نصح أبيه،أو ربما لا يريد أن يضحي نفسيا بصفة البطولة التي يتقمصها أبوه . لا يريد أن يخدش الأسطورة، و يأبى الكاتب أن يضع المجهر على الصراع ، لا لأنه اجتماعي و محسوس لدى كل القراء ، و لكن لأنه نفسي يختلج بين جنبات الابن.ما زال الأب يوعز جدواه في اليد ، لا في البصر ، لذلك لم يشعر بالتغير شيء عندما ضعف بصره ضعفا معيبا قال :
ـ  ستون عاما وأنا أصطاد .. ما خابت يدي أبدا ، و لعل العفوية التي قال بها هذه الجملة تصف مدى عمق المأساة . و الملاحظ أنه لم يمدح بندقيته رغم قضائها معه وقتا طويلا ، لعله النكران في أسمى صوره ، كثيرا ما نرمي الأداة بعد وصولنا إلى الهدف .
  كما لم يسلم الطفل من صفة الدكتاتورية ، حين "سحب"أباه ، و لم يطلب منه بأدب الرجوع إلى المنزل ، لعلها وراثة ، أو ردة فعل طبيعية .
   لابد أن نستشعر المأساة بكل أبعادها ، فالأب عاجز عن مجرد  معرفة صوت  السرب العابر الذي يمكن إصابة عدد كاف منه ببساطة ، ما يثبت تضرر حاسة السمع  أيضا ، و هو ما يؤكده الحوار الأحادي ، و الذي يظهر فيه الابن بمظهر الأكثر تعقلا .
  إنها شفقة الابن على تاريخ أبيه ، و يمكننا أن نتعسف فنورط صديقنا من خلال (كلمة) ستون سنة ، إذا زعمناها مفتاحية ، فندعي للقصة إسقاطا سياسيا ، و لكن هذه المسلك لا يضيف شيئا فنيا للموضوع غير الغبطة بسبب مشاركة الكاتب في بعض انشغالاته، لذلك سنتركه عائدين  إلى المفيد .
 و أختم بما بدأت به :
ـ إلى أين رحل الحمام يا محمد الكامل ؟
نص القصة القصيرة جدا
ضباب
عندما أطلق طلقة من بندقيته القديمة نحو سرب الحمام العابر لسماء المدينة، جزم أنه أفلح في إصابة إحداها وما صراخ ولده الصغير القادم من حقول القمح إلا دليل قاطع :
- أصبتها يا أبي.
كان في صوت ولده الصغير نبرة فرح عارمة مما جعل جسمه يقشعر وينتفض زهوا :
- ما زال فيّ ما يفرح ..ما زلت قائما ..
ثم وهو يرفع بندقيته مرة أخرى :
- ستون عاما وأنا أصطاد .. ما خابت يدي أبدا
الطفل وهو يخرج حمامة ميتة من جوف الأرض القريبة ..كان يدعو الله ألا ينكشف أمره ..فطبيب العيون أول أمس رسم عن والده معالم سوداء ،ولم يشأ أن يخبره ،بل أخبر الابن..
- أنت ..الضوء
لم يفقه الكلمة ساعتها ، لكن حدسه أبان له أن عليه أن يقود السفينة إلى مرساها ..وأنّ عليه فعل الكثير والكثير ..
وبعد أن تأمل والده مليّا .. سحبه من يده واتجها صوب المدينة :
- أبي ..هيا بنا نعود ..فقد رحل الحمام .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق