الصفحات

2017/07/15

مذكرات مجاهد من الأوراس بقلم: عبد الله لالي



قراءة في مذكرات المجاهد الوردي قصباية:
مذكرات مجاهد من الأوراس
بقلم: عبد الله لالي
" بدأت مسيرتي المهنية في التعليم الحرّ سنة 1947 م ، وقد تشرّفت ولله الحمد أن كنت معلّما ومربيا لأولئك الطلبة الذين أصبحوا رجالا مجاهدين أبطالا ، معظمهم قضوا شهداء في سبيل الله من أجل تحرير الوطن " ـــــــــــــــــــــ مذكرات المجاهد الوردي قصباية صفحة 24 .
هذا الكتاب انتظرناه طويلا وتطلعنا إليه بشَغَف ، كنّا نسمع أنّ المجاهد والمربّي المثقّف الشيخ الوردي قصباية ( سليماني )[1] كتب مذكراته ، أو أنّه في طور كتابتها ، ووددنا لو قرأناها قبل صدورها هذا العام بسنوات..
ذلك لأنّ صاحبها علم من أعلام الجهاد بحق ، رجل قدوة جمع بين العلم والجهاد والخلق الزكي ، رجل يصدق فيه قول الفرزدق:
-يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضى مِنْ مَهَابَتِهِ * * فَمَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ
وتمنَّينا أيضا لو أنّ هذه المذكرات صدرت في حياته ، فيُحتَفَى بها وبه وهو أهل لكلّ اختفاء وتكريم ، وهو سليل المدرسة الباديسيّة ، ونبتُ الأرومة الأوراسيّة الذي لا يعرف الانحناء ولا الذُّبُول..
صدرت المذكرات في حلّة قشيبة ومظهر جذّاب يليق بالمؤلّف وما ألَّف ، صدرت عن دار علي بن زيد للطباعة والنشر في السّداسي الأوّل من عام 2017 م، على نفقة بلديّة المزيرعة مشكورة ، وبرعاية ومتابعة وإشراف ابنه البار الصّديق العزيز سليم قصباية..
وقرأتها في زمن قياسي ولولا بعض مشاغل الحياة لقرأتها على نَفَس واحد ، عندما تقرأها تشعر بذلك الصّدق والصّفاء والإيمان العميق الذي يعطّر صفحاتها ، قرأتها وكلّي أمل وشوق لو أنّها تطول وتمتد ولا تتوقف عند صفحاتها الثلاثمائة ( 315 ) التي صدرت فيها ، تمنيّت لو أنّ الشيخ الوردي قصباية ( سليماني ) تعمّق في التفاصيل أكثر ، وسرد علينا كلّ دقائق حياته أثناء الثورة ، ولكن الرّجل الزاهد الرّجل المتعفف الـمُخْبِت إلى ربّه خشي أن يذكر شيئا يُظن أنّه فخر ، واستعراض للعمل أمام العباد فيذهب أجره وجزاؤه عند الله تعالى ، فكان يختصر كثيرا من الأحداث والمواقف لاسيما ما تعلّق منها بأسرته وأهله ، ظنا منه أنّها أمور شخصيّة لا تعني النّاس.. ولكننا والله نرى أنّ حياة كلّ مجاهد وأدقّ تفاصيلها هي ملك للأمّة والأجيال بها تفتخر وبصفحاتها المضيئة تقتدي..
تلميذ جمعيّة العلماء:
الجميل في هذه المذكرات أن نكتشف أنّ المجاهد الفذ والشخصيّة المعروفة على مستوى ولاية بسكرة ، وأثناء الثورة التحريريّة هو تلميذ نجيب ومخلص من تلاميذ جمعيّة العلماء ، حيث التحق بالمعهد الباديسي بقسنطينة عام 1947 م ولكنّه لم يتمّ دراسته لظروف أسرته الصّعبة، كما ذكر أنّه تلميذ للشيخ خير الدّين والشيخ نعيم نعيمي وهما من رجالات جمعيّة العلماء البارزين ، وعن شيخه نعيم النعيمي يقول في ص 66 :
" وصلنا إلى المكان قبل طلوع الشمس بقليل وتوجد بالمكان نخلات طائشة بها نوع من البلح الرديء والمسمّى: ( الصيش ) وأذكر أننا تسابقنا أي منّا يكون له الحظ في الحصول على ذلك البلح وبمفاجأة ودهشة كبيرتين رأينا الشيخ النعيمي ملتفا في برنوسه مستندا إلى جذع إحدى النخيلات فاعترتني الهيبة التي تعتري طالب العلم لما يرى بغتة شيخه المعلّم، فناديته: الشيخ النعيمي يا للفرحة ويا للفرصة السّعيدة.. ".      
ثمّ هو بعد ذلك دَرَّسَ في المدارس التّابعة لها ، وسار على نهجها وتمسّك بمبادئها إلى آخر لحظة في حياته..
وفي مذكرات الشيخ المجاهد الوردي قصباية عدّة محطّات هامّة فيها كثير من الجرأة والصّراحة، ينبغي الوقوف عند بعضها والتّعرّف على تفاصيلها..
المحطّة الأولى:
قبل البدء في سرد مذكراته كتب المؤلف تنبيها هاما ، ذكر فيه أنّ هذه المذكرات كتبها عام 1983 م لكنّه لم يستطع التّوسع فيها أو ذكر تفاصيل أخرى ، واعتذر للقارئ بكل شجاعة قائلا:
" حاليا نحن في سنة 1916 م ، ومذكراتي كتبتها خلال سنة 1983 م واحتفظت بها متريّثا علّني أعيد كتابتها في تفصيل محتواها بصفة أوسع وأشمل وأوضح بما أتحققه من بعض الإخوة الزملاء من المجاهدين والمناضلين الذين تلاقينا أو تعايشنا مع بعضنا في أيّام وسنوات الثورة التحريريّة ، ولكن للأسف لم تسمح لي ظروفي الخاصة ، مع حالتي الصّحية المتدهورة أن أتلاقى أو أناقش إلا أفرادا قلائل من أولائك الزملاء ، الشيء الذي جعلني أكتفي بما تذكّرته وكتبته خلال 1983 م ".
هذا أوّل اعتراف بكل صراحة وصدق في المذكرات ، وهي شجاعة كبيرة من مجاهد عظيم لم يعهد منه إلا الشجاعة والجرأة ، إذ يعترف أنّها قديمة جدا مضى عليها أكثر من ثلاثين سنة ، ولم يُضِف إليها ولم يتحقق من بعض تفاصيلها من غيره ..
كان يكيفه السُّكوت والاكتفاء بما جادت به ذاكرته ، ويذهب النّاس في تأويل بعض الأحداث ، وتفسير الوقائع مذاهب شتى ، لكنّ المجاهد الوردي قصباية رحمه الله تعالى أبى إلا أن يكون واضحا صريحا مع القارئ والباحث ومع الأجيال القادمة ..
وتحدّث المجاهد الوردي قصباية عن بداية عمله في الثورة ، حيث أنّه كلّف بالدّعوة والتوجيه والتنظيم داخل اللجان الشعبيّة ، كما كلّف بحلّ المشاكل الاجتماعية التي لها علاقة بالشرع والدّين ، وبإعداد نماذج وأمثلة لكتابة رسائل ومحاضر واستدعاءات، فاهتدى إلى اختراع رموز خاصّة بالثورة تستعمل بين المجاهدين لا يعرفها غيرهم ، وفي ذلك يقول  ص 32:
" فقمت بمجهود فكري معتبر في هذا الموضوع حيث اخترعت إن صحّ التعبير نماذج وأمثلة حسب المطلوب واقترحت عريضة مكتوبة بخطّ يدي بأن يشار إلى رؤساء اللجان بالأرقام ولا تُذكر أسماؤهم ، ويشار أيضا إلى حامل البريد ( الاتصال ) بالحرف لا بالاسم ..." وذكر مثالا على ذلك فقال:
" إلى الأخ رقم 10 يتصل بكم الأخ ( ك ) سلمه كذا وكذا والمطلوب منك أن تأتينا إلى المكان المسمّى ( القط )..."
ومن هذه المبادرات والاحتياطات الأمنيّة الذكيّة ، بدأت الثورة تشكّل تنظيمها الهيكلي المعقد ، الذي مكنها من بناء جيش منظم وحكومة قوية كانت نواة لدولة لا الاستقلال بعد ذلك.

موقف والده من الثورة:
ومن الأحداث الرّائعة أيضا التي استوقفتني في المذكرات هو حديثه عن موقف والده الحاج الغزالي رحمه الله من الثورة في بدايتها ، إذ كان مترددا وحذرا ، رغم أنّ جميع أبنائه انخرطوا فيها منذ بدايتها ، بل كانوا يترقبون اندلاعها قبل ذلك بزمن طويل..
وعرض المؤلّف رحمه الله موقف والده بكل جرأة وشجاعة مرّة أخرى ، وبيّن سبب ذلك الموقف ، عندما قال ص 37:
"  وأشير هنا إلى أنّ والدي الحاج الغزالي رحمه الله كان شبه متذمر من انضمام أخي سي خالد إلى صفوف جيش التحرير لأنّه كان في ذلك الوقت ما يزال متشككا في أنّ جندي جيش التحرير مجاهدا حقّا ينال ثواب المجاهد وهذا الشّك كان يراوده رغم تقواه والتزامه الشّديد ... " إلى أن يقول " والنّقاش بيني وبين والدي في هذا الموضوع طويل لا حاجة إلى ذكر تفصيله المهم أنّه اقتنع بحقّنا في الجهاد وسمح لنا أن نلتحق بجيش التحرير نحن أولاده الأربعة ..." 
ومرّة أخرى أقول إنّها شجاعة نادرة وصراحة كبيرة أن يعطي مجاهد كبير هذه الحقائق الواقعيّة عن بداية الثورة والصّعوبات التي عانى منها رجالها ، من داخل صفوفهم وعائلاتهم ، وأهليهم ، يبين لنا ذلك أنّ الثورة انبعثت من رحم تلك المعاناة وتلك الشدائد ، وكانت سببا في تغيير مسار أمّة كاملة نقلتها من حالة العبوديّة والذّل إلى حال الحريّة والعزّ..
وهذا يقودنا إلى حديثه المرير عن الخلافات التي وقعت في بداية الثورة ، وأثر ذلك على الجنود والشعب ، وكيف نجح الشعب الجزائري في تخطّي ذلك بالعناية الإلهيّة أو بما يشبه المعجزة الرّبانية..
والأمر في الحقيقة طبيعي في البداية بسبب اختلاف الأفكار وتباين المشارب والتوجّهات، وانعدام الثقة أحيانا ، أو ضعف النّفس البشريّة في بعض الحالات.. 
وقد وضع المجاهد الوردي قصباية لهذا الأمر عنوانا واضحا ، له دلالته القويّة فقال ص 75:
" ( الخلاف المحرج ) :
ربّما كانت سنّة جميع الثورات بأن يحدث خلالها بعض الخلافات بين ثوراها في وجهات النّظر على كيفيّة الوصول إلى الهدف المنشود فقد لاحت بعض بوادر الخلاف في صفوفنا منذ أواخر سنة 1956 م واشتممنا رائحتها وصبرنا على مضض وكلّ مجاهد فينا يستخير الله سبحانه أن يوحّد صفوفنا لنجاح الثورة .."   
ويتحدّث المؤلّف عن هذا الخلاف بشكل عام تاركا البحث في التفاصيل للمؤرخين ، لكنّ الأمر الطريف ربّما والجديد في الأمر الذي يعتبر إضافة في هذه المذكرات ، هو تصريحه بأنّه كان في الجهة التي كانت تؤمن بأولويّة العسكري على السياسي، بينما كان هو يؤمن بأولوية السياسي على العسكري ، وهو ما جاء به مؤتمر الصومام ، وهو جوهر الخلاف كما قال الكاتب ، وبكلّ صراحة وشجاعة نادرة يقول كذلك ص 77:
" في خضم هذا الخلاف كنت وسط مجموعة من جيش التحرير المؤيّد لفكرة إشراف القيادة العسكريّة على القيادة السياسيّة ومتحالفة على محاربة الجهة الأخرى ، وأنا أومن بمبدأ الثورة الشعبيّة والمقتضية طبعا بأن يكون الإشراف على الثورة للقيادة السياسيّة ... "
ويقول أنّه عمل جاهدا داخل مجموعته لإقناع أفرادها بالانضمام إلى الطرف الآخر ، الطرف الشرعي ، الذي صار فيما بعد هو الممثل الحقيقي والوحيد للثورة ونجح في ذلك نجاحا كبيرا ، بعد مغامرة خطيرة  كادت تكون وخيمة العواقب لولا لطف الله وتوفيقه..  
منتهى الجرأة ( التفكير في الانتحار ):
أمر غيب حقّا أن يفكّر مجاهد مؤمن تلقى تربية دينية راسخة ، ونشأ على التسليم المطلق للقدر ؛ أن يفكر في الانتحار ، والأغرب أنّه يعترف بذلك ويسطره في مذكراته ، إنّه يريد أن يعطينا الصورة الحقيقية لهؤلاء المجاهدين الذين كان لهم شرف تحرير الوطن ، إنّهم ليسوا ملائكة وليسوا مثاليين بشكل خيالي ، إنّهم بشر عاديون يخطئون ويصيبون ، يضعفون ويثبتون ، ولكن كانت لهم ميزة واحدة لم تكن لغيرهم ، هو أنّهم آمنوا بالحريّة وآمنوا بأنّ " الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم " .
يقول المجاهد الفذّ الوردي قصباية عن قضيّة الانتحار ص 79: 
" ولا أخفي هنا أيضا أنّ هذه الأزمة الشديدة بلغت بي إلى درجة أن فكّرت مرّة في الانتحار لكن الحمد لله فقد تذكّرت حكم الله سبحانه في المنتحر وتلك الآيات القرآنية الرّادعة فاستغفرت الله واستلهمته الصّبر والفرج..."
وهذا يقودنا إلى التعرّف على الصّفة الأساسيّة التي يتحلّى بها المجاهد الوردي قصباية منذ صغره ، وهي وقوفه عند محارم الله ، والتزامه بأحكام الحلال والحرام ، وسنسوق على ذلك مثالا حيّا:
عند حدود الشرع:
اقترح أحد المجاهدين نصب كمين لمجموعة المشوشين التي جاءت لتلقي القبض على صاحب المذكرات الشيخ الوردي قصباية ، وذلك بغية أخذ البغلة التي كانت معهم واستعمالها في نقل المجاهد الوردي قصباية - لأنّه كان مريضا – إلى موقع آخر فيه الجهة التي يواليها من جبهة التحرير الوطني ، لكنّه اعترض على فكرة الكمين بشدّة ، ودار بينه وبين رفقائه هذا الحوار الرّائع ، الذي ينبغي أن يسطر بأحرف من نور ص 83:
" قلت لا أوافق لأنّ هذا يحتّم أن تقتل منهم أو يقتلوا منّا وهذا حرام ولا أسمح به أبدا. وقال:
أنا ضامن بأن لا يموت أحد.. القضية تتمثّل في مباغتتهم بإطلاق الرّصاص في الهواء ليفرّوا وأختطف منهم البغلة فقط.
ولكنّي رفضت أيضا هذا الرأي وبكلّ إلحاح .."
موقف حازم وحاسم يوضّح لنا عدّة أمور منها:
1-             التزام المجاهد الوردي قصباية بحدود الشرع ( الحلال والحرام ).
2-             يبين لنا الوعي الكبير الذي يتصف به كثير من المجاهدين في تلك الفترة ، وأنّ الخلاف حول كيفيّة تحقيق الهدف لا يلغي أخوّة الدّين وأخوّة الوطن ، ولذلك قال في موضع آخر أنّهم رغم الخلافات الشديدة ، فإذا جاء العدوّ الفرنسي توحّدوا جميعا في مجابهته.
3-             الطابع الديني لثورة أوّل نوفمبر الخالدة ، إذ كان معظم قادتها الأوائل يضعون هذا الأمر نصب أعينهم وبيان أوّل نوفمبر ( في إطار المبادئ الإسلاميّة ) خير دليل على ذلك.
4-             روح التضحية التي كانت من الأسباب الكبيرة في نجاح الثورة.
المرء بأصغريه:
لما حوّل المجاهد الوردي قصباية إلى ناحية أريس وكان ملازما ، ليتولّى المسؤولية عنها بمكان الشهيد علي النّمر الذي استشهد في معركة بطولية نادرة ، استغرق انتقاله إلى أريس حوالي أسبوعا ، ورافقه في رحلة الانتقال المجاهد مبارك إبراهيمي وكان حسن الهندام حسن الهيئة، عكس الملازم الأوّل الوردي قصباية الذي كان ضعبف البنية يرتدي ثيابا شعبية كما يصف نفسه، فظنّ من استقبله من المجاهدين أنّ المسؤول الجديد هو مبارك براهيمي ، وفي ذلك يقول رحمه الله تعالى ص 125:
" ناديت المساعد المذكور خارج الجماعة الشعبيّة وسلّمت له رخصتي فقرأها واستدار نحو رفيقي مبارك إبراهيمي وقد كان يفيض حيويّة ونشاطا وكان جميل الهيئة والهندام منضبط الحركات ، عسكري البدلة ... " ثم قال : " ابتسم الأخ مبارك براهيمي ثمّ أشار له أنني الملازم، التفت إليّ المساعد بدون أن يحييني لأنّ هندامي على ما أظنّ لم يعجبه فقد كنت ضعيف البنية ملتفا في قشاشيب صوف وحازما رأسي بعمامة كاكيّة اللون.."  
نجاة سي الحوّاس من موت محقّق..
ومن الأحداث الكبيرة والمميّزة التي ذكرها المجاهد الوردي قصباية –رحمه الله تعالى – في مذكراته روايته لقصّة نجاة العقيد أحمد بن عبد الرزّاق ( سي الحوّاس ) قائد الولاية السّادسة ، من كمين خطير ، كان من الممكن أن يودي بحياته ، وكان المجاهد الوردي قصباية سببا في نجاته بطريقة غير مباشرة ، ذلك أنّ من يُسمَّون بالمشوشين استولوا على أحد مراكز القائد سي الحواّس بمكان يسمّى ( تارقة ) ، وكان سي الحوّاس ذهب إلى تونس للتسلّح ، ولابدّ في طريق عودته أن يمرّ بمركز ( تارقة ) ، فنصبوا له كمينا هناك لإلقاء القبض عليه أو قتله..
وفي أثناء عودته كان المجاهد الوردي قصباية قد كتب رسالة حملها ثلاثة من المجاهدين كانوا في الجهة المضادة للجبهة وأرادوا الانضمام إليها ، وأثناء انتقالهم بتلك الرّسالة متّجهين إلى الجهة التي فيها القائد رمضان حسوني ، التقوا بقوّات سي الحوّاس فألقى عليهم القبض واستنطقهم عن وجهتهم وهدفهم ، فأخبروه بالحقيقة ، لكنّه لم يصدّقهم ، فأروه الرّسالة غير أنّه بقي في شك منهم ، وأراد استكمال طريقه نحو مركز ( تارقة ) ، فأخبره أولئك الثلاثة أنّ ذلك المركز استولى عليه المشوّشون منذ أكثر من شهر..
وبعد حوار طويل اقتنع بكلامهم وسلّمهم أسلحة جديدة وصاروا معه ، واتخذ كلّ الاحتياطات اللازمة حتى لا يقع في كمين المشوشين ، ولكنّهم نصبوا له كمينا آخر متقدّما إلا أنّ سي الحوّاس استطاع النجاة منه بواسطة استبسال أحد أولئك الثلاثة الشجعان في الدّفاع عنه..
الاعتراف الرّائع..
الرجال مواقف ولا يظهر الرّجل رجلا إلا في الشدائد والمحن ، ولكن لكلّ فارس كبوة ، والشجاع من يعترف بخطئه ويواجه الأمر بكلّ رباطة جأش..  
في إحدى المعارك وقع تهاون من أحد المجاهدين ففاجأهم العدوّ من حيث غفلوا وتهاونوا ، ورغم أنّ المعركة كانت بالمقاييس الظاهرة لصالح المجاهدين ، إذ استطاعوا النجاة بأنفسهم ولم يفقدوا إلا مجاهدا واحدا ، وقتلوا من العدو 17 جنديّا ، إلا أنّ المجاهد الوردي قصباية رحمه الله لم يفوّت الأمر واعتبر ذلك تقصيرا منه ، لأنّ العدوّ دخل عليه من ثغرة فرّطوا فيها وطلب المحاسبة ، يقول المؤلّف في مذكراته ص 142 :
" ولكنّني أنا شخصيّا غير راض بهذا الانتصار وشعرت بإحساس مسؤول وكأنّني السبب في استشهاد مجاهد وجرح آخر حيث لم أبتعد بالمجاهدين من ذلك المكان الخطر ولم أتخذ الحيطة اللازمة حين سمحت للمجاهدين بالنّوم.."
هذا من النّادر سماعه من رجال عايشوا النّار والدمار ، وضحّوا بكلّ ما يملكون من غال ونفيس من أجل الحريّة ورفع راية الوطن خفّاقة ، أمثال هؤلاء يعزّ عليهم الاعتراف بالخطأ والتقصير ، وحُقّ لهم ذلك ، لأنّ من يقدّم نفسه وأهله وماله سخيّة بها يده ، لا ينبغي أن نلومه على هفوة أو ننتظر منه الاعتراف بزلّة ، لكنّ الرّجل الفذّ كما يمتلك قوّة مواجهة العدوّ يمتلك أيضا قوّة مواجهة النّفس بخطئها – حتّى وإن كان هيّنا – ويرى ذلك درسا للأجيال القادمة ينبغي أن تستقي منه القدوة الحسنة ، والحكمة المفيدة..
شجاعة امرأة أوراسيّة:
هي قصّة لو كتبها أديب مبدع لحظيت بأشهر الجوائز الأدبيّة ، ولاُعتبر كاتبها أديبا من الطبقة الأولى الذين يشار لهم بالبنان ، ولقيل عنه أنّه واسع الخيال بديع التصوير ، ولكنّ القصّة ليس فيها خيال ولا زخرف القول الذي يجنح بصاحبه خياله إلى آفاق تخترق كلّ حجب التصوّر..
هي امرأة فذّة من نوادر النّساء اعتقلها المحتلّ الفرنسي في مركز من مراكزه العسكريّة بنواحي وادي عبدي ( شير ) ، لأنّ زوجها كان مجاهدا في الجبل ، ثمّ أطلق سراحها وكان معها أبناؤها الثلاثة الصّغار ، فقادت اثنين منهما بيديها ، وحملت الثالث على ظهرها منحنية به، فلمّا رأى الضابط الفرنسي ذلك المنظر العجيب كأنّما رقّ لها حاله ، فاستوقفها ، وسألها بحضور أحد العملاء ليترجم بينهما ، من اللسان الشاوي – كما قال المؤلّف – إلى اللّسان العربي ، وكان بينهما هذا الحوار العجيب الذي ننقله عن المؤلّف كما هو لرهبة المشهد وجمال الصورة وشجاعة المرأة الشاوية التي تتحدّث بالفطرة الإنسانيّة البسيطة:
" الضابط مخاطبا المرأة:
-       أين زوجك ؟
المرأة: زوجي في الجبال مجاهد من أجل حرية وطنه أو فلاق كما تقولون !
الضابط: هل يراك أحيانا ؟
المرأة تسكت برهة.. ثمّ تجيب: ربّما زارني مرّة أو مرّتين في جَمْع من زملائه المجاهدين ولم يمكث معي سوى نصف ساعة.
الضّابط: هل هو شريكك في هؤلاء الأطفال ؟
المرأة : طبعا .. ! وهذا لا يحتاج إلى سؤال !
الضابط: إذا كان كذلك فلماذا لا تطالبينه بالرّجوع إليك ويعاونك على تربية أطفالكما ! لماذا يتركهم لكِ وحدك ؟ أخبريه إذا كان خائفا منّا نعطيه الأمان وحتّى سلاحه يسلمه لأصحابه ولا نطالبه به كما لا نطالبه بالانضمام إلينا، المهم أن يتعهّد بعدم محاربتنا ونحن نتعهّد بتركه يعيش لك ولأولادك.
المرأة تحدّق طويلا في وجه الضابط وتقول:
-       من غير شكّ أنّك أنت الآخر متزوّج ولك أولاد في بلدك فرنسا إن كنت فرنسيّا ؟
الضابط: نعم هذا صحيح أنا متزوّج ولي طفلة جميلة اسمها ( جوليات ) صورتها مع أمّها دائما في جيبي وإنّهما يسكنان بمدينة ( ليل ) بفرنسا.
المرأة بعفويّة الحرّة الشريفة: إذًا..فلماذا لا ترجع أنت إلى زوجتك وابنتك وبلدك ويرجع زوجي إليّ وإلى أطفاله ونعيش كلّنا في هناء وسلام.
الضّابط وبدون شعور يحيي المرأة تحيّة عسكريّة ويقول: نعم يا مدام هذا هو الحقّ وكلامك هو الذي يثبت في الأخير "[2]     
حوار تقشعرّ له الأبدان ، وترجف الأفئدة .. امرأة أوراسيّة جزائريّة بسيطة تعطي ضابط فرنسا المثقّف والمتمدّن ( !! ) درسا في ( الحريّة والعدالة والمساواة ) شعار الثورة الفرنسيّة الذي يتشدّق به رجال الفكر والثقافة والسّياسة في فرنسا ، ويدوسون عليه في الجزائر وفي كلّ المستعمرات الفرنسيّة السابقة.
أنا لا أستطيع أن أمسك دموعي حين أقرأ جواب هذه المرأة الذي يهزّ أركان النّفس:
" إذًا..فلماذا لا ترجع أنت إلى زوجتك وابنتك وبلدك ويرجع زوجي إليّ وإلى أطفاله ونعيش كلّنا هناء وسلام "
الأمر في غاية البساطة اتركوا أرضنا ، تحيون بسلام ونحيا بسلام .. !
 مشهد أخوي مؤثر:
ويروي لنا المجاهد الوردي قصباية قصّة وداعه أخاه عندما أراد السّفر إلى تونس للعلاج، وكان موقفا يزلزل الجبال ، ويحرّك المشاعر المرهفة. طلب من أخيه أن يخلفه في رعاية زوجته وابنيه إذا هو استشهد ، وكأنّما كان يوصي بوصيّته الأخيرة ، واللَّطيف في الموقف ذلك الأدب الجمّ الذي كان يتحلّى به الرّجال في ذلك العهد ، إذ يخاطبه أخوه في رقّة ولطف بصيغة ( سيدي ) بتخفيف الياء ، وهي لفظة كما يقول المؤلّف يخاطب بها الصّغير الكبير احتراما له..
ومن عجائب الأقدار أنّ أخاه ( خالد ) الذي كان يظنّ أنّه سيخلفه في أهله ؛ يصطفيه الله إليه شهيدا ، ويعمّر هو ويرزق أولادا آخرين ، ويكون له في زمن الاستقلال حياة أخرى طويلة عريضة ، يقدّم فيها للوطن تضحيات أخرى في مجال الثقافة والفكر والعطاء السياسي والاجتماعي ، ويبلغ الواحدة والتسعين من عمره رغم كلّ المعارك التي خاضها والأخطار والصّعاب التي مرّ بها ، والأمراض التي لازمته طويلا منذ شبابه ، فلا نامت أعين الجبناء.. !
الضّرس:
الله يمتحن عباده الصّالحين بالشّدائد والمحن ، ويوالي عليهم المصائب والابتلاءات حتى يمشون على الأرض وما عليهم من خطيئة كما أخبر بذلك الرّسول صلّى الله عليه وسلّم ، وقد نال المجاهد الوردي قصباية من ذلك النّصيب الأوفر ، فقد كان من بدء نشأته ضعيف البنية ، مبتلى ببعض الأمراض التي أرهقت كاهله.
وهو في طريقه إلى تونس حيث الغربة وفراق الوطن والأهل والأحبّة وأخطار الطريق ؛ ابتلاه الله أيضا بضرسه ، إذ اشتدّ عليه ألمه ولم يجد له مَخلصا ، إلا بعد عمليّة تقليديّة رهيبة غير طبيعيّة يتحدّث عنها الكاتب بشكل دقيق فيقول:
" وفي غمرة هذا الألم طلبت من أحد المجاهدين أن يحاول قلعها بآلة حديديّة تسمّى ( الزرّاديّة ) نستعملها في تصليح الأسلحة وجذب المسامير والبراريم وقد تعاون ثلاثة من المجاهدين في عمليّة القلع ، أحدهم شدّ رأسي بين فخذيه بشدّة ، الثاني شدّني من يدي وجثم بجسده على فخذي والثالث شدّ الضرس بالآلة وخلخلها ثمّ جذبها بقوّة فاقتلعها بلحمها الدّائر بها حتّى أغشي عليّ ، رشوني بالماء وقام شبه ممرضنا بحقني بحقنة الدّوخة ، أفقت بعد دقائق لأجد الممرض يشجعني ويجفف دماء فمي، هذا وأزيز الطّائرات فوق رؤوسنا تغدو وتجيء في السّماء بانخفاض ..."[3]     
وبعد معاناة شديدة وطريق صعب ، وأخطار جمّة ومعركة رهيبة لاجتياز الحدود التونسيّة الجزائريّة ، تمكّن المجاهد سي الوردي قصباية صاحب هذه المذكرات ومَن معه مِن اجتياز الخطّ الكهربائي الشّائك ( شال وموريس )، وهناك تلقى العلاج اللازم لمدّة تزيد على ثلاثة أشهر ، وبسبب عدم تعافيه بشكل نهائي بقي يجاهد في الخطوط الخلفيّة إلى ما بعد الاستقلال.
المذكّرات ثريّة بالمعلومات والحقائق الواقعيّة التي تفوق الخيال في بعض الأحيان ، كتبها صاحبها – رحمه الله تعالى – بتلقائيّة وصدق وشحنها بكلّ مشاعره وأحاسيسه وأفكاره التي رسخت في ذهنه عن الثورة التحريريّة المباركة.
كان المجاهد الوردي قصباية هو مثال الجزائري المتديّن الوطني ، الذي لا يجد أيّ تناقض بين الدّفاع عن الوطن وبين التمسّك بأصالته وتاريخه ، وهو خير مثال أيضا على مقولة ابن باديس التي أُثرت عنه:
( نحن أمازيغ عربنا الإسلام ) ، فكان الصورة المثلى للجمع بين الانتماء القومي والانتماء الدّيني ، وهو من النماذج البارزة التي تدلّ بكلّ وضوح أنّ الأوراس كانت قلعة الإسلام الأولى وخطّ الدفّاع الرئيس عن العربية لغة القرآن.
هذه المذكرات تمثل جانبا هاما من تاريخ الجزائر ، يحسن بالجامعات أن تبرمجها ضمن الكتب التي تدرس في مذكرات الطلبة ، فتؤخذ منها الحقائق التاريخيّة ، وخصائص الهويّة الوطنيّة ، وطريقة تفكير الرّعيل الأوّل من المجاهدين والشهداء الأبرار ، ففيها الزبدة وخلاصة الخلاصة عن ثلّة من الأوّلين الذين شَرَوا أنفسهم في سبيل الله تعالى ، فرحم الله المجاهد المثقف ، رجل البندقيّة والقلم الشيخ الوردي سليماني المعروف بلقبه الثوري قصباية ، ورحم الله كلّ من قال: آمين..  


[1] -  هو من مواليد 15جانفي 1925 م بتاجموت بلدية المزيرعة ولابة بسكرة ( الجزائر ) وتوفي بتاريخ 17 أكتوبر 2016 م . لقب قصباية لقب ثوري أما لقبه الأصلي فهو سليماني.
[2] -  صفحة 157 / 158 من المذكرات.
[3] - المذكرات ص 196/ 197 .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق