الصفحات

2017/07/08

العجوز والخريف.. قصة بقلم: هدى مشالي



العجوز والخريف
بقلم: هدى مشالي 
جلس علي المصطبة الموجودة بجوار داره القديم المتهالك الذي بدا مسنا وهرماً مثل صاحبه نظر إلي الشروخ المتجاورة في الجدار والتي تشبه التشققات التي تعلو وجهه بعد أن حفر الدهر بقسوة عليهما معاً علامات الشيخوخة , تنهد وقال : لقد سقطت أوراق الشباب الخضراء من فوق شجره العمر وحل الخريف المجرد لكل اخضر وجميل لتسير أيام العمر في خطاً مثقلة بطيئة  اسند رأسه علي جدار البيت في استسلام لقدره المحتوم , ورفع عينيه إلي السماء ولم يكن القمر قد نهض بعد فبدا السحاب له كأنه أمراه ممده مرسومه بالقطن في الجهة الغربية من السماء تتوسد ذراعها اليمني وتفرد جسمها مثل حوريه بحر لكن بلا ذيل تنهد وتذكر زوجته التي رحلت وتركته غارقا في بحور الوحدة والأحزان وبدا الشجر ساكن كأنه مرسوم , هبط المساء وهو مازال جالسا في مكانه والغبش طوي كل شيء فلا يستطيع معرفة الأشخاص إلا من أصواتهم أو طريقه مشيتهم,وشق لحظات الصمت التأمليه صوت أجش يقول : السلام عليكم . أعتدل في جلسته ورد . وعليكم السلام يا سيدي .. فر من شروده الحزين ونظر إلي الشاب الطويل النحيف التي لا تتفق جهرة صوته  مع قوامه الخيزرانى ولا طراوة كفه مع مقاطع كلامه ثم قال للشيخ وهو يجلس إلي جواره ألا تعرفني يا عمي فأجاب متلمسا العذر. العتب علي النظر يا بني ولكن ملامحك تبدو لي مألوفه ضحك واقترب منه أكثر وقال : أنا احمد بن الشيخ عوضين الذي سافر مع ابنك إلي القاهرة لدخول الجامعة , تلاحقت أنفاسه في فرح عندما سمع أخبار عن ابنه الذي هجر أباه وقريته وقال: هل تعرف شيء عنه يا بني أجابه في خزي: لقد انقطعت أخباره منذ سفره في بعثه للخارج , تنهد في أسي وعاد يسند رأسه علي حائط الدار وقد عادت أنفاسه تسكن صدره  في هدوء وقال: لقد كبرت يا احمد و غيرت الرجولة الصارمة الكثير من ملامحك , ووقعت عيناه على قطعه الأرض التي يملكها و التي تحمل طرح هزيل و قال : كل شئ ينمو , نهيأ الجو الدافئ لتسلم النباتات الصغيرة و نأخذ منها أشجار , كما ندفئ الأطفال بالأقمطه و اللفائف لنأخذ منهم رجالاً  ..  أه   ..  لقد فعلت كل هذا و لكنى لم أخذ شيئا , و تنهد و تنفس بصعوبة قائلا : على العموم فيك الخير يا أحمد ,  قال احمد : لا تجعل اليأس ينهش أحشائك  و تحسس خطوات الأمل ,  أنك كنت مثلي الأعلى في الطفولة , لقد كنت الفلاح الأمي العجيب الذي لا يقرأ و لا يكتب لكنه يعرف كل شئ , أول فلاح في القرية أدخل جهاز الراديو في داره وباع من أجله أشياء كانت عزيزة عليه , يسمع نشرات الأخبار في كل محطة و يعرف مواعيدها على التحديد ,  و يستمر إلى جانب أي شخص يمسك جريده و يتسمر إلى جانب أي شخص يمسك جريدة ويعلق على الأنباء كأنه أذاعه , ويتكلم عن أسعار القطن وعن كل الأمور الحياتية بطلاقه ولباقة , لقد كنت أحب الذهاب إلي مقهى القرية لأسمع كلامك العذب المنمق , والفلاحين ينصتون في شوق وانتباه إلي حكاياتك الطريفة0  أعتدل الشيخ في جلسته وأخرج من جيبه علبه الدخان وتبسم وهو يلف السيجارة , لقد أشعل احمد بداخله الذكريات الجميلة وشعر بنسايم الشباب تنعش شيخوخته الواهنة , وأحس كأنه يستنشق عبير الزرع وأنفاس الربيع لأول مرة , اخذ نفس عميق من سيجارته المتوهجة وأشار إلي احمد بالدخول إلي الدار وإحضار عدة الشاي , اعد احمد الشاي وقدمه إليه , وربت علي كتفه في حنان , وأشار إلي الشجرة الكبيرة المجاورة للبيت وقال : أتتذكر يا عمي عندما تسلقت هذه الشجرة وعند وصولي إلي قمتها أخذت ابكي واصرخ , وخلعت أنت جلبابك , وصعدت إلي الشجرة وحملتني علي ظهرك وأنزلتني بكل طيبة وحب , تبلورت دمعه في عين الشيخ هاشم وقال : يااه .. يا احمد أمازلت تذكر , قال : بالطبع , وتقدم الليل ومرت عدة ساعات والشيخ هاشم مستمتع بحديث احمد العذب , ولكن هبت رياح باردة , نظر احمد إلي السماء فوجد سحاب ينذر بشيء من المطر , والأشجار سوداء جاثمة في الليل تشيع في النفس غموضا قلقا , امسك يد الشيخ هاشم وادخله إلي فراشه , واستأذن في الرحيل , وفي اليوم التالي : ذهب احمد إلي الشيخ هاشم , وانشرح الشيخ عندما رآه , واستأذنه احمد في الذهاب معه , وتعانقت أيديهم في مودة وحب , ووصلا إلي مقهى القرية , ورحب الموجودين بهما والتفوا حولهم وتجاذب الجميع أطراف الحديث , وانسابت الكلمات من فم الشيخ هاشم كحبات الرمان الشهي وشعر باهتمام الجميع لحديثه , وطالت الجلسة والشيخ هاشم يشعر بالثقة والمتعة وهو وسط الناس الذين أحاطوه بالحب والاحترام , اقترب احمد من الشيخ هاشم وقال هامسا : لقد حان ميعاد سفري , امسك الشيخ يده في حب وقال : اشعر أن ربيعا جاء بعز خريفي موسوما بالريحان والعنبر . طرق الباب بدفء وانسابت عبر شقوق القلب أنامله تغزل وهجا وتعيد طراوة أيام يبست وتعيد السكن إلي المهجر .  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق