الصفحات

2017/08/18

لست أنا من يتكلم.. بقلم: عبدالقادر صيد

لست أنا من يتكلم..
عبدالقادر صيد
لست متأكدا من طبيعة العلاقة التي تربطني بقارئي ،بل لست أدري هل أتخندق في حنجرة أحدهم مترصدا لبحة الكآبة التي ترافق أولئك الذين ينبشون عن السعادة في رموش أشباههم ؟ المصيبة التي لا أقدر على مجابهتها هي أن لا أكون متموقعا في أي مكان ، لا بد أن أبعد من خلدي هذا الافتراض ، يرضيني أن أكون عينا لامعة لقط متشرد في ليلة مخيفة ، يختبئ وراء عمود كهربائي مبلل، يرميني الذاهب إلى عمله بنظرة لا مبالاة ثم يمضي ،وددت لو سحقت مع مدادي، و رششت مع المادة الرمادية على تلافيف دماغ قارئ مغرض .. يغريني كثيرا أن أتصوّر هذا .
  حينما يقرر أحد رفع القلم ، فإنه يجتر أسطورة رفع أحد العظماء للمسدس باتجاه رأسه ،على الأقل أن صاحب المسدس يجد التعاطف مع شخصه ، و قد ينشر خبره في الصفحة الأولى في  أكثر من جريدة ، أما صاحب القلم فلا مفر له من العلاقات المعقدة حتى تنشر طلقاته معزولة عن دماغه المنفجر، بأي صفة كانت و بأي ترتيب يراه المشرفون على الصحيفة ، مراعاة لأمزجة الزبائن المدمنين على أعمدة سجنت عقولهم .
  غطسة الكتابة هي بالنسبة للكاتب لحظة الافتضاح الاختياري ، و بالنسبة للقارئ ابتسامة الاستشفاء القهري ، وبالنسبة للأهل فرصة تجرد شجرة العائلة من ورقة التوت الشفافة ، ينتظرها الموتورون ،ليدقوا طبول الحرب على الورود المتبرجة بحياء ، و ليغرزوا مسامير الصلب على سيقان حروفك التي تتقاطر دما مرتوية من أوردتك المتمردة على قلبك الجزوع .
   ما هو الإحساس الذي يشعر به شخص حينما يخبره الطبيب أن الجنون ليس بعيدا عنه ؟ هو يعلم أن الطبيب يلطف العبارات متجنبا مجابهته بأنه يضع قدما واحدة على عتبة التطويح في سحابة اللامعقول ،لا تسأل عن القدم الأخرى فهو لا يعرف أين دفنت إلى اليوم ، و لا لماذا بترت  ،ربما هي مشلولة جراء جلطة إثر ارتفاع ضغط الحبر ، يضيف له الطبيب أن الأحلام التي يشاهدها ما هي إلا إرهاصات لفنتازيا كسر زجاج المألوف..المألوف يعني أن تكون معنا هنا ، تُسمي أشياءنا بمسمياتها ، و غير المألوف تعرفه جيدا ، و لا داعي لتصديع رأسك به .    
  معهم الحق أولئك الذي ينظرون إليّ من ثقب الباب و أنا أغتسل بالحبر الأسود، ثم يصفونني فيما بينهم بالمتحذلق ، و يهمسون :
ـ كيف يدّعي هذا الأحمق أنه أحاط بما لم نحط به؟ أو كيف يدعي أنه قادر على وصف أشيائنا الخاصة ؟إنه مغفل ؛يزعم أنه يتجسس علينا ، و في حقيقة الأمر نحن من يتجسس عليه ، نفعل ذلك رسميا ، و برخصة منه ..
ثم بعدما يثرثرون كثيرا ، يصلون إلى الخلاصة قائلين :
ـ من أعطاه الحق لينطق باسمنا؟ ما أوقح تطفله و ادعاءه !
 أبدو في هذه الوضعية مقززا كرسوم متحركة مقرفة .
  أحترم كثيرا أولئك ، الذين يطوفون على منشوراتي ، فيرتشفون منها ، ثم يرشون بشفاههم في حركة سحرية لطيفة على لوحاتهم الجميلة لتزداد لمعانا ، أولئك هم من ضلت نسائم الصباح عنهم ، و اتتني ، لأنها تفضل أن تمنّ على دميم مثلي  لسابق معرفتها أن جمالها سوف يخاصمني ، فأضطر لإخراجه للناس ممزوجا بخيوط حرير الفجر.
  عندما أكتب بالفحم على ثلج الصفحة ، فإنني أطلب الدفء لأناملي المرتعشة خوفا من زهايمر جبار آت لا محالة .. أعتذر من التعالي الذي أحس به في لحظة ذروة النشوة، فهو أمر شخصي ، له علاقة بعُقد لست مضطرا إلى شرحها لكم رغم قرابة الحبر.. هل يمكن للحبر أن يصبح ماء ؟ بما أنه ليس كالدم ، فيمكنه أن يصبح كذلك ، بل ذلك هدفه ، حتى تبعث فيه الحياة من جديد ، و يشابه لون الروح الشفافة ، تُمحى حروفه و تسقط بدله دموع العظام .. ما الريح أخشى على أوراقي ، فهي مبللة بريق القلم اللاصق ، و إنما أخشى عليها النظّارات الفاخرة التي تنظر إلى الحرف من فوق بازدراء ..كم تبالغ هذه النظّارات في تأويل بعض مستنقعات الحبر بأنها غسيل للملابس الداخلية ! و للناس الحق في تصديقهم ..
   أطمع أن أمشي على الأوراق اليابسة دون إحداث ضوضاء و خشخشة مزعجة لحاملي مقالي ، الذين لا أملك إلا أن أصفهم بالكرام .
   ما زلت أعتقد بقداسة الشاطئ الذي بيني و بين أعماقهم مع علمي بأنه ليس شاطئ الأمان،و على الرغم من أنني أتنقل بين أمواجه برجلي الحافيتين ، حتى لا أزعج المصطافين النائمين ، إلا أنني أوصف عند الكثير منهم بالمشاغب ،ربما سمعوا فرقعات عظام أنامل قدمي ، فحسبوها تكسر طبقة الجليد الرقيقة .
  هل تصدق أنني ما زلت أتزحلق و أنا في عقدي الخامس ، نعم ما زلت أتزحلق على أوراقي ،  لا أبالي بهتافات المتفرجين ضدي ، عزائي الوحيد أنني أرتدي قناعا ، فلا مناص من هذا الأسلوب لجلب الاهتمام ، تماما مثل موظف سام مولع بفن التهريج ، يدخل الركح و يخرج دون أن يكشف هويته ..لقد استوعبت منذ زمن بعيد  أن بعضهم يقنع بأن يضحك مع الكاتب ، و إنما يطمع أن يضحك عليه و لو ضحكة بريئة خفيفة ، يصر أن يطبق حرفيا أن العين تعلو الورقة ،لابد أن أكون رياضيا ، و أتقبل منهم كل شيء .
   كم مرة نمت و تركت أوراقي مبعثرة ، فمرت فوقها السحلية ، و تركت عليها آثارها ، فلم  أستطع محوها ، فأكملت عليها بمعاني قريبة ؟ ! فلم يميز الأقربون بين الأسلوبين ، ترى هل ستصبر حروفي في الالتواء مثل عمر تخبط ذيل السحلية المبتور؟
و الآن هل سأحمل المسدس ؟ أستغفر الله ، أقصد القلم لأكتب حتى أبدو متحذلقا ، أم أتركه لأملأ  كل شهر الصك البريدي لسحب أجرة الشهر الذي لم أعمله بعد .  
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق