الصفحات

2017/09/26

النقد الـمسرحي العربي: إطلالة على بدايته وتطوره بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة

النقد الـمسرحي العربي: إطلالة على بدايته وتطوره 
 بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
  قليلة هي الدراسات والأبحاث التي عالجت بجدية وعمق قضايا النقد المسرحي العربي،فكثيراً ما تساءل المتابعون لحركة النقد المسرحي العربي عما إذا كان الشوط الذي قطعه، قد حقق الأهداف الحقيقية لوجوده..؟،وأين يمكن أن نضع هذا النقد على خارطة النقد العربي؟،وهل يمكن أن نقارنه بالنقد الروائي في الوطن العربي على سبيل المثال؟
             ولعل أبرز الدراسات الجادة والمتميزة، التي قدمت مجموعة من الرؤى عن بدايات النقد المسرحي في الوطن العربي،ورصدت التطورات التي عرفها من مرحلة إلى أخرى،دراسة الناقد والباحث المغربي   الدكتور حسن المنيعي الموسومة ب:«النقد المسرحي العربي-إطلالة على بدايته وتطوره-»،وهي الدراسة التي يسعى من خلالها-كما يذكر- إلى تقديم إطلالة على تطور النقد المسرحي العربي،مع الوقوف على خطاب تلقيه لمشروع تأصيل الحركة المسرحية العربية، والتنظير لها،ويُقدم فيه محاولة لتعريف القارئ بنماذج من النقد الغربي،وبموقف المسرح من نفسه(أي من داخل الممارسة)،كما يُقدم مقالة عن نص مسرحي لتوفيق الحكيم تمت قراءته من منظور(الدراما الغروتيسكية)للتأكيد على أن النقد العربي،والمغربي على السواء،قد خضع لفعل المثاقفة،الذي أنتج جملة من الكتابات العربية النقدية ذات النزوع الحداثي ،حيث إنها تستحضر الكثير من النظريات الغربية،وتقوم بمحاورتها بكامل الحرية،ودون أدنى شعور بالنقص،وهذا ما أدى-كما يرى الدكتور حسن المنيعي-إلى إثراء النقد العربي عموماً،وتطوير أدواته،والاحتفاء بكل عمل فني أصيل.

  النقد الـمسرحي الأدبي العربي(الـممارسات الأولى)
              يضعنا الدكتور حسن المنيعي أمام مقاربة جديدة، ومتعمقة لقضايا النقد المسرحي العربي،حيث يتساءل لدى رصده للممارسات الأولى للنقد المسرحي الأدبي العربي،ماذا كان رد فعل النقد المسرحي تجاه هذا الفن الجديد الذي يسعى إلى خلق علاقات قوية مع المجتمع،وإلى الحرص على أن يظل دوماً في تفاعل مع أوضاعه الحياتية، والسياسية، والاقتصادية؟


          إن الإجابة عن هذا السؤال تطلبت من المؤلف القيام بجرد تاريخي لحركة النقد الحديث في العالم العربي،وذلك للوقوف على أبعادها(حركة النقد) المسرحية،أي أن الباحث المنيعي يرصد نوعية خطاباته التي ترصد الإنتاج الدرامي،وهي عملية صعبة،كون هذا النقد يتموضع في خانات عديدة،ومتباينة لم يعمل الدارسون على إضاءتها إلا من زوايا خاصة،دون التدقيق في تفاصيل النقد المسرحي، لدى كل بلد عربي كما يذكر المؤلف،وانطلاقاً من هذه الملاحظة يقرر أن هذا النقد«ارتبط في الغالب بأوضاع المسرح العربي الذي كان يعيش من حين لآخر حالات تأرجح بين الازدهار، والانحسار،كما ارتبط أيضاً بندرة النقاد المتخصصين،وهذا ما دفع الكثير من الباحثين إلى التأكيد على عدم وجود نقد مسرحي عربي حقيقي في مرحلة التأسيس،في حين ظهر نقد بديل يهتم بالنص المسرحي، من حيث هو كتابة أدبية.في هذا الصدد يعد كتاب(الديوان في الأدب والنقد)لمحمود عباس العقاد، وإبراهيم المازني الذي صدر سنة:1921م، أول عمل نقدي اهتم بتحليل مسرحية(قمبيز)لأحمد شوقي،وبعده بسنوات نشر إدوار حنين مؤلفه الموسوم ب(شوقي على المسرح)في عام:1936م،الشيء الذي جعل الكتابة المسرحية تحظى بعناية فائقة من لدن الدارسين»)1(.
           لقد ألح النقاد في المرحلة الأولى على ضرورة إنتاج حركة مسرحية عربية ترتكز على الاقتباس والترجمة،نظراً لوجود نصوص جاهزة للإعداد المسرحي،وفي المرحلة الثانية تم تعميق العلاقة بالمسرح عن طريق الاطلاع على الكتابات الأوروبية،وتقليد مجموعة من النماذج المتميزة منها.
          وبالنسبة إلى ميلاد النقد المسرحي الأدبي،فالدكتور حسن المنيعي، يشير إلى أنه عندما كتب أحمد شوقي مسرحياته متأثراً بأساليب الأدباء الفرنسيين، والإنجليزيين، الذين ينتمون إلى المدرسة الكلاسيكية من أمثال:(راسين)،و(كورني)،و(شكسبير)، عرف المسرح العربي تطورات،وقفزة نوعية في مجال الكتابة الشعرية الدرامية،بيد أن النقد كان قاسياً مع هذه القفزة،فقد لمس فيها حدثاً يكتسي أهمية كبيرة،ولكنه قد يتعرض لانحسار مع الزمن،كون الأسلوب الشعري الدرامي الذي نهجه أحمد شوقي يتناقض مع أذواق الجماهير،التي لم تكن مؤهلة لتلقي موضوعات شعرية بعيدة عن القضايا الحيوية، والجوهرية،ونظراً لأنها تُحاكي في بنيتها الفنية كتّاب الغرب،وتقوم في معظمها على قصائد غنائية توجه الحدث الرئيس.
          يعتقد مؤلف الكتاب أن هذه الملاحظة«تؤشر إلى ميلاد النقد المسرحي الأدبي، لا الدرامي،الذي يُعنى بالعرض الفني في علاقته بالنص،وهو ما لمسناه في مقاربة عباس محمود العقاد لمسرحية(قمبيز)التي اعتمد مؤلفها-كما يقول-التاريخ موضوعاً،كما دافع فيها عن نزعة وطنية،الشيء الذي يؤكد لنا أن نقد العشرينيات كان أحادي الجانب، لا يتوفر على قواعد،أو مناهج تخول له مقاربة العمل المسرحي من منظور جمالي محض،بل إن مقاربته للأجناس الأخرى قد انحصرت هي أيضاً في النظر إلى مضمون النتاج من زاوية لغوية تاريخية،وذلك بحكم تأثر النقاد بالنقد اللانسوني،أي منذ الوقت الذي عاد فيه طه حسين إلى بلده بعد مكوثه في فرنسا ضمن بعثة جامعية...» )2(.
              ووفق منظور مؤلف الكتاب،فميلاد النقد المسرحي ارتبط لاحقاً بالتحولات التي أحدثتها ثورة يوليو1952م،والتي كان من نتائجها تحديث مناهج التعليم،وبرمجة مادة المسرح في الجامعة من خلال الدروس التي كان يلقيها الدكتور محمد مندور على طلبته،ومن جانب آخر فهذه الثورة خولت للمسرح العربي تحقيق إنجازات هامة في جل البلدان العربية التي تخلصت من هيمنة الاستعمار الأجنبي،فقد سارعوا إلى إنتاج أعمال درامية تعالج مواضيع إنسانية حساسة،وذلك من منظور جمالي متطور يعكس تشبعهم بالأساليب الدرامية الغربية،كما عكس مستقبلاً نضجهم، وطموحهم، إلى إيجاد صيغة مسرحية عربية،ومهّد إلى بروز حداثة المسرح العربي انطلاقاً من بداية السبعينيات.
            أما النقد الذي يجمع بين ما هو أدبي وفني،فقد أخذت بشائره تظهر من حين إلى آخر ابتداءً من منتصف الخمسينيات،وذلك في دراسات نقدية تؤشر إلى تقنية الإخراج، والديكور،وأداء الممثلين والموسيقى كما يذكر الدكتور حسن المنيعي.
             قدم المؤلف مجموعة من نماذج النقد المسرحي الأدبي الفني،حيث يعتبر الناقد محمد مندور الرائد الأول في مجال النقد المسرحي الأدبي والفني معاً،ويعده مؤسس الدرس المسرحي في مصر،وقد تميز بخصائص محددة في نقده المسرحي،فقد كان ينطلق من نظرية أرسطو حول التراجيديا،ليصل إلى نظرية برتولد برشت حول المسرح الملحمي،كما كان يبرز في نقده مدى اطلاعه على أهم التيارات التي ارتبطت بالمسرح كالكلاسيكية،والرومانسية،والرمزية،والواقعية الاشتراكية،والتعبيرية،والوجودية،والعبث،وهذا ما ساعده على تقديم رؤى تاريخية عن المسرح في دراستيه(في الأدب والنقد-المسرح النثري..)،وكما ظهر اطلاعه الواسع في دراسته أعمال بعض الكتاب المسرحيين(مسرحيات شوقي-مسرحيات عزيز أباظة-مسرح توفيق الحكيم)،وفي التعريف بالنظرية المسرحية في كتبه(الأدب وفنونه-المسرح-الكلاسيكية والأصول الفنية للدراما...إلخ).
            فعلى سبيل المثال في كتابه:«مسرحيات شوقي»،نلفيه يتناول قضية غياب المسرح في الثقافة العربية،والظروف التي أدت إلى ترسيخ دعائمه في لبنان،وسوريا،ومصر،كما تحدث في هذا الكتاب عن الروافد الأجنبية التي وجهت كتابة شوقي الدرامية الشعرية،ولاسيما منها الكتابة الكلاسيكية التي طبق بعض قواعدها،كما عمل على اختراقها حينما تخلى عن الوحدات الثلاث،وقد أنهى دراسته هذه بتقديم مقاربة تطبيقية،وقدم فكرة عن معرفته لأصول التأليف المسرحي،ومن أبرز الملاحظات التي أبداها الدكتور محمد مندور عن كتابة شوقي:
-اعتماده التاريخ مادة رئيسة،ولاسيما التاريخ العربي القومي.
-اهتمامه بالملوك والأمراء،نظراً لطبيعة التربية«التي تلقاها،ونظراً أيضاً لعلاقته بالقصر.
-عدم إنهاء مأساته بحدث مؤلم،وكوميدياته بموقف مضحك، مما يغيب عنصر الحركة،ويقلل من حدة الصراع.
-تغليب الاتجاه الأخلاقي والروحي على الدوافع النفسية التي تكون عميقة،وموحية لدى كتاب المأساة الفرنسيين،بينما تبدو سطحية لدى شوقي رغم نبل نزعته.
-عدم التعمق في أغوار النفس البشرية لتوضيح خفايا العقل الباطني،والكشف عن شهوات النفس ونزواتها.
-التركيز على تقنيات أسلوبية مثل التعرف،والمناجاة،أما عن هذه الأخيرة،فقد لاحظ مندور إسرافاً كبيراً في توظيفها خصوصاً في مواقف لا تتطلب سوى الكلام القليل:الشيء الذي جعل بعض مسرحياته تفيض بمنتوجات غنائية طويلة...» )3(.
         إن هذه الملاحظات تُنبه إلى أن الناقد محمد مندور درس مسرحيات أحمد شوقي،من حيث مصادرها،وأهدافها،وأسلوبها الفني،واعتمد على منهج يتأرجح بين المقارنة الأدبية،والتحليل الأدبي،والإيديولوجي،وقد تجلى تركيزه على النص الأدبي من خلال نقده لمسرحية(الملك أوديب)لتوفيق الحكيم،فهو يذهب-بعد أن وقف مع أحداث أسطورة أوديب-إلى أن توفيق الحكيم لم يضف إلى موضوعاتها أي عنصر جديد،وعمل منذ البداية على تكسير حدة الصراع،وذلك عندما جعل المواقف، والأحداث تتلاحق  ،وفيما يتعلق بالبعد الفلسفي للمسرحية،فقد أكد أنه يحتاج إلى مبررات منطقية،ولاسيما على مستوى رصد علاقة أوديب بأمه،حيث ألح توفيق الحكيم على أن تجسد المسرحية صراعاً بين الواقع المعيش،وبين الحقيقة المجردة،كما ألح على بلورة الواقع الملموس على حساب الحقيقة الفكرية،كما يرى مندور أن موضوع زواج الابن من أمه الذي يتجلى في الحدث الرئيس هو أمر غير معقول،وهو يتنافى مع مبادئ الإسلام.
          ومن بين النماذج النقدية الأخرى التي توقف معها الدكتور حسن المنيعي تجربة غالي شكري،الذي ذهب إلى أن تجربة توفيق الحكيم المسرحية تشكل أهم مادة فنية تستحق الدراسة،ففي حديثه عن مسرحية(الأيدي الناعمة)على سبيل المثال،لاحظ صعوبة فهم غايتها الفكرية، بسبب غموض الأطروحة السياسية التي يريد توفيق الحكيم التركيز عليها،والتي لا تنسجم مع مبادئ المجتمع المصري الجديد الذي ولدته الثورة،ومن هذا المنطلق،فجميع الحلول التي افترضها لا تدور إلا في إطار نظام بورجوازي يعد بديلاً عن المنظومة الإقطاعية التي عرفتها مصر قبل سنة:1952م.
         وقد نظر إلى مسرحية(يا طالع الشجرة)على أنها تشكل إبداعاً خاصاً،لا ينتمي إلى مسرح العبث،بقدر ما يُشكل تطوراً طبيعياً لموضوعة الموت والانبعاث، التي يدافع عنها توفيق الحكيم من خلال إلحاحه على فكرة الخلود التي بلورتها مسرحية(أهل الكهف)،وقد توصل في حكمه على مسرحية(الطعام لكل فم)إلى أنها مجرد عمل يندرج في إطار أدب الخيال العلمي،وأن القضيتين المؤطرتين في نطاقه تتعارضان،من أجل أن يتمكن الكاتب من توسيع خطابه عن الموضوع الرئيس، الذي يعكس صراعاً بين العلم والفن،أو بين العقل والقلب.
         في تقييمه لتجربة غالي شكري يقرر الدكتور حسن المنيعي أن نقد غالي شكري يتأرجح بين«التفسير الاجتماعي،والإيديولوجي التاريخي،ومع أنه يهدف إلى إبراز البعد الفكري للنتاج(أي مضمونه)،فإن صاحبه لم يلتزم بأهم معيار تركز عليه الجمالية الموضوعية للواقعية الاشتراكية،وهي العلاقة الجدلية بين الشكل والمضمون.إن غياب هذا المعيار(الذي يؤكد على أن المضمون في الفن لا يكون مضموناً إلا إذا تحول إلى شكل،وأن هذا الأخير لا يكون كذلك إلا إذا تحول إلى مضمون)هو الذي دفع غالي شكري إلى تقديم وصفات جاهزة حول مسرح توفيق الحكيم ليصل إلى الحكم التالي وهو أنه كاتب تقدمي،ورائد لعب دوراً كبيراً في تحديد موعد الحياة مع المسرح المصري» )4(.
              أما محمود أمين العالم،فقد قدم في تجربته النقدية المسرحية قراءة متطورة في أعمال توفيق الحكيم الدرامية،وركز على الأبعاد الفكرية والفنية،وعلى مدى ارتباطها بالأوضاع السياسية والثقافية التي عاشتها مصر،إضافة إلى ارتباطها بالظروف السياسية التي ساهمت في تكوين شخصية الحكيم وثقافته،فهو في حديثه عن التعادلية(فلسفة الحكيم)التي ترى أن كل فعل له رد فعل معارض،وأن لا توازن في الحياة نظراً لغلبة أحد الطرفين على الآخر،يرى العالم أن هذه الفلسفة تقوم على نظرية مختلة تنظر إلى الواقع نظرة تتسم بالسكونية،أي أن التعادل والتوازن بين الطرفين غير موجود،وما هو موجود هو الصراع،ولكنه غير جدلي،وهذا ما جعل توفيق الحكيم يتحيز في مسرحياته إلى الجانب اللا عقلي،فيقوم بتجريد مطلق للثنائيات المتصارعة،وذلك بعزلها عن الواقع الاجتماعي والتاريخي،ومن ثم فاختلال مفهوم التعادلية هو في نهاية المطاف تعبير واضح عن قلق المفكر، والفنان البرجوازي في بحثه عن الحقيقة،وبعبارة أخرى،فالعالم يرى أن المأساة في مسرح توفيق الحكيم الذهني تتجسد دائماً في اختلال التوازن والتعادل بين طرفين،ففي مسرحية(أهل الكهف)القلب وحده هو القادر على هزم الزمن،أما في مسرحية(بجماليون)فهناك صراع بين الفن والحياة،مما يجعل الفعل المأساوي ينعكس في اتجاه الحياة،فمحمود أمين العالم يغوص في دراسة الثنائيات،ويحرص على الاهتمام بالصراع الدرامي،والحركة،والشخصيات،وحواراتها،وسيكولوجيتها،ليصل إلى جملة من الأحكام من بينها:
-إن أعمال توفيق الحكيم الذهنية والاجتماعية تبدو متشابهة،من حيث إنها نابعة من اختيار فكري واجتماعي محدد.
-جميع الأعمال التي تناول فيها الحكيم القضايا والمشاكل الاجتماعية،يرجع بعضها إلى ما قبل ثورة1952م،(مثلاً مسرحية المرأة الجديدة)،بيد أن مسرحياته الاجتماعية التي نشرها بعد الثورة تعد أكثر نضجاً من الجوانب الفنية،ومن جانب المضمون الاجتماعي والإنساني،لأنها تواكب التطورات الديمقراطية التي عرفتها مصر(مثلاً إيزيس،والصفقة،والطعام لكل فم،والسلطان الحائر،ومصير صرصار،وبنك القلق).
           وقد بدا للمؤلف أن محمود أمين العالم تجاوز القراءة التبسيطية للإنتاج الأدبي التي تسعى إلى إبراز البعد الإيديولوجي من خلال التركيز على المضمون لممارسة قراءة تهدف إلى اكتشاف البنية الدالة في النتاج الفني،وتفاعلها مع بنيات كبرى اجتماعية وتاريخية،وذاتية،فالنقد أصبح لديه فعل اكتشاف،وتحديد لشروط وقوانين الظواهر التعبيرية المختلفة،وتفسيرها،وتقييمها،وليس مجرد نقض،ودحض،وإدانة )5(.
         وقد توقف الدكتور حسن المنيعي مع تجربة جورج طرابيشي،الذي قام بقراءة أعمال توفيق الحكيم،وفسر أبعادها،وعبر الدكتور المنيعي عن رؤيته لهذه التجارب، بأنها تمثل مؤسسة للنقد المسرحي الأدبي،والتي ركزت في الغالب على دراسة الإنتاج الدرامي لتوفيق الحكيم من منظور الواقعية الاشتراكية حصراً،أو مطعمة بمنهج نفساني،وقد قام بانتقاء هذه التجارب حتى يؤكد على هيمنة المنهج الواقعي الاشتراكي على النقد العربي عموما.
   تطور النقد الـمسرحي العربي
             يرى المؤلف أن منهج النقد الواقعي الاشتراكي هو الذي ساد في عدد من الدول العربية،ولاسيما في سوريا التي شهدت في سنة:1974م ظهور كتاب:«الأدب والإيديولوجيا في سوريا1967-1973م»لنبيل سليمان وبوعلي ياسين،وقد أثار هذا الكتاب الكثير من الجدل بسبب خطابه النقدي الصارم،فهو يرصد في الأساس الإيديولوجيا التي يقحمها الأدباء في إنتاجهم،أو التي ينطلقون منها،ومن بين ما خلص إليه الناقدان من استنتاجات حول بعض الأعمال المسرحية،أن ممدوح عدوان في مسرحيته الموسومة ب(المخاض)لعب دور المصلح الاجتماعي الحكيم الداعي إلى سلم الطبقات،فقد رأى في انعدام الضوابط الاجتماعية،أو تخلخلها، ضياعاً اجتماعياً،وهي في الحقيقة لم  تكن إلا بدايات الثورة الفلاحية ضد الإقطاع،وبذلك كانت المسرحية إجهاضاً، وليس مخاضاً.
        أما مسرحية(الدراويش يبحثون عن الحقيقة)لمصطفى الحلاج،فقد لاحظ نبيل سليمان وبوعلي ياسين أن الكاتب انحاز إلى الطبقة الوسطى،وهو انحياز مثقف مهموم بالأزمات الاقتصادية،وتشغله الصراعات الفكرية أكثر من الصراعات الطبقية،وقد كانت قومية المسرحية مثل دينيتها ،وجودية الطابع،فقد اعتبر مصطفى الحلاج الانتماء القومي قدراً،وأهاب بالفرد العربي ألا يتهرب من هذا القدر،وأن يبرهن على وجوده،فيتصدى للرسالة القومية المفروضة.
         وعن مسرحية(مغامرة رأس المملوك جابر)لسعد الله ونوس لاحظا أن الكاتب فضح في النهاية الاستسلام والانتهازية-وهما سمة المرحلة الراهنة في وطننا وداؤه الفتاك-أيما فضح،وأعانه في ذلك حسن اختيار الحكاية، وتطابقها مع المعاش،وقدرتها على الإقناع والأسر،إضافة إلى أن سعد الله ونوس أخلص إلى حد كبير للمبادئ التي طرحها في بياناته، ومقدماته النظرية،وقد استعان لتحقيق هذا الإخلاص بمقدرة تكنيكية عصرية جيدة،وأخيراً فإن المسرحية قدمت المثل الحي على قدرة المسرح،لأن يكون مدرسة تثوير جماهيرية شريطة أن يتوفر للنص الجديد إخراج جديد.
             لقد بنيت رؤية المؤلف الدكتور حسن المنيعي لهذا الكتاب،على أنه ارتكز في نظرته النقدية على إشارات أدبية ذكية،ومقارنات فكرية وفنية،وإحالات على بعض مدارس المسرح الغربي،ولكنه كان سياسياً في الغالب،لا يراعي جمالية الإبداع المسرحي بقدر ما يعمل على مساءلته على ضوء السياق الإيديولوجي.
          تناول الدكتور حسن المنيعي في كتابه عوامل تحول الخطاب النقدي المسرحي،ولاحظ أنه كان أدبياً في معظم مقارباته،وكان تواقاً إلى تطوير أدواته،وذلك من حيث التوحيد بين ما هو أدبي، وفني،ويرجع الدكتور حسن المنيعي نضج الخطاب النقدي المسرحي،الذي لم يعد يقيم الإنتاج المسرحي من خلال معايير تقليدية تهتم ببنية النص،وتماسك أطرافه، إلى الاطلاع على النظرية الغربية وشعرياتها،فقد أكد على أن النقد المسرحي العربي عرف جملة من التحولات،وأضحى يهتم بشكل العرض،وجمالياته(كتابة وإخراجاً وتمثيلاً)،وهذا ما فتح المجال لازدهاره، وتنوع مجالاته المعرفية،وذلك في ظل تبلور حداثة مسرحية عربية،بدأ زمنها الحقيقي في نهاية الثمانينيات،وقد كان من أهم انشغالات تلك الحداثة، إعادة النظر إلى وضعية المسرح في علاقته بالغرب،والبحث عن أفق لتحديد هويته،وهذا ما ساهم في ظهور أعمال مسرحية تندرج في نطاق ما يعرف بالمسرح الشامل،الذي يعتمد على التراث الفرجوي العربي،ويستحضر التاريخ القديم،ويلتزم في الآن ذاته بفنيات الغرب.
 الـهوامش:
(1) د.حسن المنيعي:النقد المسرحي العربي-إطلالة على بدايته وتطوره-،منشورات المركز الدولي لدراسات الفرجة-سلسلة دراسات الفرجة13-،طنجة،المغرب الأقصى،ط:1،2011م،ص:29.
(2) د.حسن المنيعي:النقد المسرحي العربي-إطلالة على بدايته وتطوره-،ص:31.
(3) د.حسن المنيعي:المرجع نفسه-،ص:34.
(4) المرجع نفسه،ص:42.
(5) المرجع نفسه،ص:45 وما بعدها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق