الصفحات

2017/09/11

صانع التوابيت .. قصة بقلم: حسام الدين يحيى



صانع التوابيت
حسام الدين يحيى
مقدمة غير مهمة
يسرع صانع التوابيت صباحًا إلى حانوته، يتأنى حين يتطلب الأمر صناعة التوابيت،يظهر مهاراته بالنقوش، غالبًا ما يزين التابوت بصليبٍ خشبي كبير، مدبب الأطراف، مجوف الظهر، يتفنن لإبرازأشكال عديدة من الصلبان المنقوشة بجوانب التوابيت، يزينها بزخرفات نحاسية، ينقش جملة أو اثنتين ، يقتبسهم من كتاب الرب، من الوهلة الأولى التي تراه فيها بصلعته الناصعة وجسده الضخم تخشى محادثته، لكنه طيب القلب.
يقصونعلينا بالكنيسة قصته؛ منذ عدة سنوات وقبل وفاة زوجته (إرينا) بقليل، حاول أحد اللصوص سرقة حانوته، يتفاجأ به أمامه،وعلى رغم  من أن اللص كان يملك مديته، يصاب بالرعب، يقسم بعض من الجيران بأنهم قد سمعوهيتوسلإليه ويصرخ، تواتيه الفرصة أخيرًا، يلوذ بالفرار ، يتركه رأفة بحاله ..؟.

يعطف دائما على الفقراء منا، يقدم لي الحساء الساخن بالليالي الباردة، يخدم في الكنيسة أيام الآحاد، لكنه ومنذ موت زوجته يقضي أغلب الليالي بتلك الحانة الواقعة عند أطراف بلدتنا، تجدها بعد الآنتهاء من السير محاذاة حقول الذرة، حانة متهالكة يرتادها عمال المناجم والمحاجر الشرقية، يتسامرون، يجلس وحيدًا، أرجو ألَّاأكون قد أطلتُعليكَ الحديث، لقد أردتُ نصيحتي، لن تجد أفضل منه يلبي لك غايتك يا سيدي، فهو أفضل من يصنع التوابيت في بلدتنا حقًا.
آخذ من السيد المتأنق جنيهات قليلة ، أودعه في حرارة :
-        شكرًا جزيلًا يا سيدي، أتمنى أن تجد عند صانع التوابيت ما تبغي .

كثير من المهمومين
حينما ينتهي يوميأتأمل ذلك التابوت، لم يتبقَ غير بضعة صلبان،جوانبهالخشبيةمنخشبالأرو،أزينهابالنحاس اللامع، أغلق حانوتي،أتجه إلى تلك الحانة التيأقضي ليلتي بها كل مساء، الساقى يضع كوبًا جديدًا ممتلئًا، أتجرع نصف كوب الشعير مرة واحدة، أشعر بالراحة مع السكارى والعاملين، يزعجني الصخب الذي يصنعه عمال المحاجر، لولاه لاكتمل النعيم، أتجرع كؤوس النبيذ والشعير، وأراقب الجالسين من المهمومين والسكارى والعابثين، حينما يغيب العقل تتعرف على كل أنواع الرجال، فمنهم من هو أحقر من الخنازير، ومنهم من هو أجبن الجبناء،هناك من غلبت علىه رحلته فظلَّ متعلقًا بآماله، يأتي كل مساء يتجرع النبيذ، يضاجع العاهرات، يتناسى ما آل إليه حاله، يكدح صباحًا ومساءً،يحاول أن يسد جوع أطفاله وزوجته الضجرة دائمًا، يأتيبنهايةالشهر، ينفق القليل، يغازل إحدى العاملات بجسدها البض، ينسى بها ترهل زوجته وجفاف العلاقة معها، يأتي الكل هنا حتى ينسى أو يتناسى ، حتى ذلك الساقي وعلى فتراتٍ ليست بعيدة، يتجرع كوبًا أو أكثر من الشعير أو النبيذ، لعله هو الآخريحاول أن ينسى وجوه السكارى وخشونتهم معه.
( تمارا ) تلك الفتاة التي كان يعشقها الجميع في البلدة منذ أعوام، كان أفضل فتيان البلدة يهرولون وراءها،يطمعونبابتسامة منها أو نظرة سخية لأحدهم، كانت حينما تمر بالسوق تهطل عليها الهدايا من البائعين، حتى النساء منهم أملًا بأن تصير صديقة لهن، يلف الوغد شباكه حولها، يتزوجها، تنجب ابنتها ( يارا ) تلك الفتاة ملائكية الطّلّةكأمها،أجرهاللعابثين من أمثاله والطامعين فيها منذ حين، مقابل جنيهات لا تكفي قنينة نبيذ، يرحل بليلة ما ، لا يجد أحد له أي أثر، انطلقت الشائعات منذ ذلك الوقت، بأنها قد قتلته، دفنت جثته بتلك الغابة التي تحد بلدتنا من الشمال، كيف لتلك الفتاة الرقيقة أن تقتل،بأناملها الرفيعة وجسدها الملفوف النحيل ؟!!  كيف لذلك الملاك أن يُدَنّسَ بتلك الخطيئة ؟!! ها هيالآن تجلس قبالة السكارى وعمال المناجم، لعلها تظفر بأحد منهم الليلة، يخشون خطيئتها، لايتوددونإليها.
-        هل تريد أن ترتاح قليلًا ، سوف نرتاح بمنزلي، إنه قريبٌ من هنا.
-        ليس اليوم يا ( تمارا ) .
تجلس بالقرب مني، تلصق فخذها بفخذي، أشعر بسخونة جسدها، بينما تعض شفتيها في رقة، أزيح قدميَّ بعيدًا عنها، أحاول أن أصرفها في رقة.
-        ولماذا ليس اليوم يا سيدي؟ .
-        أنا متعب اليوم وعنديأعمال كثيرة غدًا.
-   أرجوك يا سيدي، سوف ترتاح معي، ستشعر بأنك في النعيم الأبدي، وإنْ لم تملك المال، فلتشترى لنا العشاء فقط ، فهذا يكفي.
أخرج لها جنيهات قليلة ، أضعها في يدها، فأنا أعلم يا ( تمارا ) بأنك وابنتك تحتاجان المال، وأنا يا صغيرتي لا أحتاج إلا ما يكفيني فقط .
تقبلني على خدي، تشكرني، ستجعل الصغيرة ( يارا ) اليوم تدعو لي عند  العشاء بأن يسعد الله أوقاتي كما أسعدتهم الليلة ،تغادر الحانةمسرعة .
يدلف شاب أنيق في العقد الثالث ،منالوهلةالأولىتدركثراءه، يرتدي حلة زرقاء، ورباط عنق رفيع، حذاؤه لامع ونظيف، مما يدل على امتلاكه سيارة ، يخفتُ الضجيج قليلًا، تتطلع عيون عمال المناجم إليه، وبالمثل يتطلع هو الآخر إلى وجوه الجالسين، تستقر عيناه عندي، يطلب من الساقي كأسا،يتجه إلى طاولتي مبتسمًا .
  
ابن وأب
أريدك وباختصار يا صديقيأنْ تصنع تابوتًا لأبي، أريدك أن تضع كل خبرتك ومهارتك في صنعه، قال الطبيب فيأخر مرة زرت أبى فيها، بأنَّ لم يعد لهالكثير، على الأرجح بضعة أيام، يجب أن تكون جنازته مهيبة، لن تكتمل الصورةإلا بتابوت يليق به،لا تَحْمِلُ همًا للتكلفة، هاك ثلاثةَآلاف، سأعطيك المزيد عند الآنتهاء،فأبي سيترك الكثير والكثير يا صديقي، أما أختاي  سوف يترك لهما القليل، ما يكفيالعيش فقط ،فأنا ولده الأكبر، ومدير أعماله الآن، وأتصرف في جميع ممتلكاته،  تجرعت منه الأمرَّين منذ صغري، احتالت عليه تلك العاهرة التي انجبت له فتاتين بلهاوتين، تظفر بكل شيء منه ،تركأميالمريضةتموت بعد رحيله ، تركنيأعمل بمحاجر الفوسفات ، ومناجم الفحم التي يمتلكها ، لم أصل يا صديقيإلى هذه المكانة في يسر، لقد ترعرعت بين ماكينات ري الحقول، وأقوم بتكسير الحجارة في مناجم الفحم ، كنت أرتاد الجامعة صباحًا، أعمل مساءًبمخزن القش أو أحد المحاجر حتى الصباح، حينما يعتليني التعب من صرامة والدي، أتمدد فوق الحقول،أمتزج بالأرض الطينية، أقرر مع تزايد الغضب والحقد بداخليأن أنتقم منه ، نعم أنتقم من أبي، أتريدنيأن أكمل يا صديقي.؟ يومئ برأسه بالإيجاب ، أتجرع كوب النبيذ دفعة واحدة ،أكمل الحديث معه .
هل تعرف ذلك الساحر القاطن بالغابة الشمالية ؟ بالطبع تعرفه فمنزلك يقطن بالقرب منه ، أعطاني قنينة صغيرة بحجم عقلة الإصبع، تحتوي سائلاأسود اللون، نقطة منه كفيلة بإذابة رئتي بقرة خلال شهر واحد، يقاطعني الساقي بوضع كوباآخر من النبيذ، أتجرع منه القليل،يصابأبي بدون مقدماتبالإعياء الشديد، أصبحت رئتيه عليلتين ، يتنفس عن طريق حفرة أسفل حنجرته، تتصل بخرطوم بلاستيكي، يصبح مخاطه داميًا دائمًا .
أنهض ، أتجرع ما تبقى من كأسي ، أشير للساقي النحيل بأن يأتي ، وأترك عدة جنيهات تزيد عن طلبه :-
-        هاك الحساب أيها الساقي.
أتجه بنظريإلى صانع التوابيت قائلا :-
-   دمتُ بخير يا صديقي الطيب، لتحتفل اليوم، على أن تبدأ العمل باكرًا، ولا تنسَ أن تنهي التابوت بأسرع وقت ممكن، فلم يتبقَ غير القليل يا صديقي، القليل .
وأنا بطريقيإلى خارج الحانة يستوقفني سعالٌ شديدٌ، أخرج منديلي الأبيض لأحاول أن أوقف ذلك السعال الشديد، فيختلط المنديل بمخاط دامٍ.

هناك تعليق واحد: