الصفحات

2017/11/03

الملفوظ اللغوي من فضاء النص إلى فضاء التداول مفردتا الإرهاب والتطرف نموذجًا بقلم:أ.د أحمد يحيى علي

الملفوظ اللغوي من فضاء النص إلى فضاء التداول مفردتا الإرهاب والتطرف نموذجًا
 أ.د أحمد يحيى علي
 أستاذ الأدب والنقد المشارك، كلية الألسن جامعة عين شمس، مصر
مدخل:
اللغة بوصفها وعاء للفكر تمثل علامة دالة على ثقافة الفرد والجماعة؛ فهي على المستوى المعجمي الحاضن لمفرداتها وما يعلق بها من معان تعد ناتج سعي الجماعة في العالم وقراءتها له ولحضورها من خلاله؛ بوصفها مركبًا من عدد من الأفراد. ووظيفتها التواصلية التي تؤديها بواسطة تفاعل أفرادها تتجاوز هذا الحيز؛ لتصير بمثابة أداة تربط جماعة لغوية بالآخر المغاير لها الذي يتسنى له الوقوف على خصائص هذه الجماعة عبر أداوت رصد عدة من بينها اللغة وما تضمه من أنساق فكرية كاشفة عن طبيعة العقل الجمعي لهذه الجماعة ومواقفه.
وفي كتاب محاضرات في علم اللغة العام للكاتب السويسري فردينان دي سوسير الذي ظهر في الثلث الأول من القرن العشرين ثنائية أثيرة تقع في مجال اهتمام اللغويين عمومًا هي ثنائية (اللغة والأداء) التي تكشف عن مستويين في العملية اللغوية، مستوى المرجع اللغوي النظري الحامل لقانون اللغة وقواعدها، الذي إليه يحتكم أبناء اللغة على اختلاف بقاعهم الجغرافية ولهجاتهم؛ فهو بمثابة القاسم المشترك الجامع لأبناء الرعية اللغوية الواحدة، والمستوى الثاني هو مستوى الأداء؛ أي الاستخدام المتصل باللغة في شقها التداولي نطقا وكتابة، وفي هذا الأخير تخضع اللغة مفردةً وتركيبًا لمؤثرات عدة تتجاوز مسألة الشكل وقانونه الحاكم إلى مسائل متصلة بالمعنى وما يعتريه من تغير، توسعة وإضافة أو اختصارًا وحذفًا، والوقوف عند هذه المؤثرات يحيل إلى جوانب تاريخية واجتماعية وإلى قناعات فكرية ومذهبية تتيح لمستخدم اللغة فردًا أو مجموعًا إضافات على مستوى المعنى وإعادة توظيف للملفوظ وفق حمولات دلالية تخدم ما يصبو إليه من غايات تأثيرية في داخل السياق الخارجي المحيط.
وفي مجال اهتمام هذه الورقة المقالية تقع مفردة الإرهاب ومفردة التطرف، اللتان تحظيان بحضور غالب في داخل البناء الاجتماعي العربي على امتداده وفي داخل ما يسمى بالمجتمع الدولي على اتساعه، ولا شك في أن هاتين اللفظتين وما ينتج عنهما من معان ورؤى يدعوان إلى نظر متأن إلى موقعهما في ثقافتنا العربية؛ إن كلمة إرهاب (مصدر رباعي مهموز) تأتي على وزن إفعال، من الفعل أرهب على وزن أفعل؛ أي أخاف وأرعب؛ إن هذا الفعل المتعدي ومنطلقاته النفسية يضع الفاعل في دائرة الرصد والمتابعة ومن ثم تبني مواقف وإصدار أحكام من قبل المفعول الواقع عليه أثر عمله ومن قبل كل راصد ومتابع وموظف للحالة الجامعة بين طرفي منظومة الاتصال: الفاعل المرهب الذي اصطلح على تسميته في زمننا المعاصر - من باب الإدانة والاتهام والتجريم – بالإرهابي، والمفعول الذي ناله فعل الفاعل.
لكن هل النظرة إلى كلمة (إرهاب) تقف فقط عند الجانب السلبي المتصل بالعنف وأشكاله الذي يمارسه أفراد أو منظمات بقصد الإخلال بأمن دول وتحقيق مآرب قد تكون سياسية أو غير سياسية بحكم البواعث الدافعة إلى القيام به؟


- مفردة الإرهاب في داخل النص
إن النص القرآني يوظف كلمة (الإرهاب) في سياق يجعل من هذا الفعل شريفًا بشرط توفر السياق اللازم الذي يتيح له تبؤ منزلة رفيعة في حياة الجماعة المسلمة؛ ففي مقام المواجهة مع الآخر المتربص بالأمة المسلمة الذي يضمر لها شرًّا ويتربص بها الدوائر تبدو الحاجة ملحة إلى الإعداد الذي من شأنه ترسيخ مبدأ الإخافة والردع والتمكين الذي يكفل لكلمة الله أن تكون هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى " وأعِدُّوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيلِ تُرهِبون به عدوَّ الله وعدوَّكم"( )؛ إن المنطلق القرآني للكلمة إذًا يعتمد على الاستخدام الواعي للعنف الذي يجعل منه وسيلة لغاية سامية، عبر هذا الخطاب الموجه باستخدام  ضمير الجمع (أنتم)؛ ومن ثم فإن السياق/المقام الذي يسبغ مشروعية على هذا الفعل ومصدره (أرهب/إرهاب) تتحدد ملامحه في ثنائية الأنا (فرد وجماعة) في مواجهة الآخر (فرد وجماعة) بشرط أن يكون هذا الآخر في وضع هجومي عدائي بإزاء هذه الأنا؛ فالنص القرآني الذي يفسر بعضه بعضًا يأخذنا في معرض هذا المقام الذي تؤشر له هذه الثنائية إلى قوله تعالى " فمَنْ اعتدى عليكم فاعتدوا عليه بمثل ما اعتدى عليكم"( )؛ وتعد هذه الوضعية بمثابة طقس جمعي يقف فيه الراعي كتفًا بكتف إلى جانب الرعية، كلاهما يُستنفر ويمارس دوره حسب موقعه وحاله لدرء ما قد يتعرض له بنيان الجماعة المرصوص من اعتداء، في إطار فكرة الوطن الجامعة المنظمة لسلوك الأفراد والمحددة لهويتهم بإزاء غيرهم.
إذًا فإن العنف تحتكره السلطة وتتم ممارسته وفق ضوابط شرعية وقانونية عبر أدواتها ومؤسساتها وفي إطار ينسجم والغايات الأخلاقية المنطلقة من مرجعية الكتاب والسنة وليس سلوكًا فرديًا أو سلوكًا تمارسه طائفة أو شريحة أو أفراد بمعزل عن نظام الدولة أو بما يتجاوز فكرة الوطن التي ينضوي تحتها الجميع.
-    لفظة الإرهاب في فضاء التداول
إن التعامل مع لفظة إرهاب في واقعها التداولي يتطلب نظرًا أفقيًا مرجعيًا ذا صبغة تاريخية تحاول اقتفاء الأثر تركز على الواقع الخارجي وملابسات استخدام هذه الكلمة من قبل الرعية المسلمة والآخر المغاير لها دينًا؛ ففي القرن العشرين على سبيل المثال نجد أن الصراع الخشن بين أبناء الأسرة الإنسانية قد ازدادت وتيرته بشكل كبير على المستوى الكمي؛ إذ اتسعت دائرة المواجهة بين الشرق والغرب واتسعت دائرة المواجهة أيضًا في داخل الغرب نفسه من خلال حربين عالميتين خلفتا ملايين القتلى والجرحى ولم تكن بلاد المشرق بمعزل عن ظلالهما السلبية مع دخول جسم غريب جديد إلى جسد الأمة يضاف إلى قطعان المحتلين للأرض العربية المسلمة من إنجليز وفرنسيين وإيطاليين وإسبان، أقام هذا الجسم له وطنًا على جزء أصيل من أرض أهلها؛ ألا وهو الجماعات اليهودية التي اتخذت من أرض فلسطين وطنًا لها تم الإعلان عنه رسميًا في العام 1948م؛ فقبل هذا التاريخ كان لفكر الجهاد والمقاومة الصوت العالي الذي يجذب إليه كثير ممن ينتمون إلى هذا الدين؛ بغية الدفاع عن الأرض والمقدسات في وجه الغاصبين، لم تكن مفردة الإرهاب ببعيدة عن هذه الحال الكائنة في الواقع؛ فجاء توظيفها هذه المرة من قبل الآخر المخالف دينًا للمسلمين الذي رأى في استخدامها فرصة مواتية لتشويه الصورة ومحاولة النيل من معتقد الجماعة المسلمة انسجامًا مع أقوال نفر من المستشرقين الذين لا يضمرون خيرًا لهذا الدين وأهله؛ إذ جاء نعتهم للإسلام وأهله بالعنف وبأنه انتشر بحد السيف وبأن أهله غزاة منسجمًا وموقفهم السلبي منه؛ ومن ثم فإن الجهاد في نظرهم عدوان، والفتح في معالجتهم غزو، والمقاومة ورد الاعتداء يعنيان الإرهاب، وفق هذه الحال بدأت هذه المفردة تتمدد أفقيًا فوق كوكب الأرض؛ فمقاومة العدو الإنجليزي أو الفرنسي أو الإيطالي أو الإسباني فوق الأرض العربية المسلمة ومحاولة إيقاف تمدد الجماعات اليهودية فوق الأرض العربية في فلسطين جميعها تُنعت من قبل هذا الآخر المخالف دين الإسلام بالإرهاب وأضحى لفظ إرهابي تهمة لصيقة بالمنتمين لهذا الدين دون غيرهم، ثم اتسعت دائرة استخدامها أفقيًا دون أن يقتصر الأمر على هذا الصراع الأثير بين الشرق والغرب بطرفيه المسلم وغير المسلم؛ فكل حركة انفصالية – على سبيل المثال - تدعو إلى استقلال جزء من إقليم دولة عن جسد دولة  تقع فيه يوصف أصحابها ويُدانون بهذه التهمة؛ فالجيش الجمهوري الأيرلندي في أيرلندا الشمالية ومنظمة إيتا في إسبانيا وجماعة الخمير الحمر في كبموديا والتيبيتيين في إقليم التبت في الصين وحزب العمال الكردستاني في تركيا، وغير هؤلاء في بقاع أخرى من العالم تم لصق هذه الكلمة/التهمة بهم؛ ومن ثم فإن توظيف الكلمة أصبح سلوكًا بشريا مجال استخدامه مفتوح غير مغلق أو مقصور على جزء أو جهة بعينها في داخل المجتمع الإنساني الكبير.
هنا يبدو للفظة الاختلاف مكانها؛ بوصفها فاعلا محركًا لعمليات استخدام هذه المفردة التي طارت في الآفاق (الإرهاب)؛ إننا بصدد متوالية عناصرها جميعًا تشكل الإطار الحاضن الذي تحيا من خلاله هذه المفردة في فضاء التداول؛ فالاختلاف في الفكر وفي التوجه وفي السلوك يؤدي إلى خلاف وخصومة (طور الجفاء/ما يسمى بالحرب الباردة) ومن الخصومة تصبح بيئة التواصل مستعدة لتطور أكثر خطورة تجليه فكرة الصراع بوجهها الخشن المعتمد على استخدام القوة المسلحة، وفي حقل السياسة تبدو واضحة هذه الحالة التي يعد فيها ملفوظ الإرهاب مطية حاملة وكاشفة لشكل العلاقة الجامعة بين النظم الحاكمة والدول وتحالفاتها شرقًا وغربًا، وللخطاب الإعلامي بمنابره المتعددة دوره الرئيس في تبيان هذه الحالة التداولية للملفوظ.
  ومن ثم فإن رد الفعل المتمثل في سلوك المواجهة لهذه الظاهرة الإنسانية ذات الصبغة العالمية (الإرهاب) يبدو بحاجة إلى ضابط ينظم أداء القائمين عليه، لكن هذا الضابط لن يكون بمقاييس ثابتة يخضع لها الجميع على اختلاف مشاربهم العقائدية والسياسية والجغرافية والثقافية؛ إذ إن التوظيف التداولي لهذه المفردة لا يخلو من نوازع الهوى والمصلحة والرغبة في إدراك غايات تخص من يوظفونه وحدهم وبما قد يتعارض في الغالب مع غيرهم؛ بحكم ما للسياسة - هذه القاطرة التي تجر وراءها المجتمعات حكامًا ومحكومين - من قانون واحد يحد حركتها في زماننا هذا، هو قانون المصلحة دون النظر إلى أبعاد دينية أو أخلاقية، أو الاعتداد بمسائل عاطفية لا مكان لها في هذه القاطرة
وبعيدًا عن حقل السياسة وملابساته فإن ما يسمى بالإرهاب بوصفه سلوكًا تمارسه أفراد ومجموعات خدمة لغايات فكرية واستجابة لمثيرات تأتي من السياق الخارجي المحيط بها بحاجة إلى مواجهة من نوع أكثر قيمة وأكثر أهمية من هذه المتكئة على مفهوم القوة العنيفة؛ ألا وهو الحوار، هنا يصبح لما يسمى بالخطاب اللغوي الإقناعي مكانه الفاعل؛ فالفكرة لا تقتلها إلا فكرة مثلها تمتلك من مقومات القوة عقلاً لتواجه ومن ومقومات البقاء لتنتصر وتتجذر في أرض الناس؛ بفضل ما تستند إليه من مرجعيات دينية وأخلاقية وتاريخية واجتماعية تكفل لها عمقًا هو بمثابة الجذر الذي تقف عليه " فَأَمَّا الزبدُ فيذهبُ جُفاء وأَمَّا ما ينفعُ النَّاسَ فيمكثُ في الأرضِ"( )؛ إن الصراع الحاصل بين طرفي هذه الثنائية (الإرهابي والدولة) هو في جوهره تشخيص لنسقين فكريين؛ لذا فإن الاكتفاء بأداة واحدة في المواجهة هي القوة الخشنة (السجن والقتل باستخدام السلاح)، كما هو الشائع في مجتمعاتنا العربية المسلمة على سبيل المثال، يعني إطالة أمد هذه المواجهات وديمومتها بشكل عبثي مأساوي دون أفق للنهاية أو للحل؛ فقتل فرد أو مجموعة لا يعني موت الفكرة بل انتقالها إلى شرائح جديدة تحملها وتنادي بها وتتخذ منها مرجعًا لحركات تؤثر بالسلب في استقرار البناء الاجتماعي وتماسكه، وبالنظر في تاريخنا نجد أن آلية مقاومة الفكرة بالفكرة قد لجأ إليها الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز مع الخوارج الذين ظهروا في عهد الخليفة الراشد الرابع علي بن أبي طالب اعتراضًا منهم على قبوله التحكيم في معركة صفين بينه وبين معاوية بن أبي سفيان. ومنذ ذلك الحين وبدأت أنشطتهم السلبية - في تكفير المخالف لهم في الرأي وفي حمل السلاح في وجهه - تتزايد إلى درجات بالغة الخطورة أضحت تثقل كاهل الأمة وتنهك أبناءها؛ فكان توجه عمر بن عبد العزيز هو مواجهتهم بالرأي ومقارعة حجتهم بالحجة وكان لتلك الوسيلة الإيجابية أثر ناجع في رجوع كثير منهم عن نهجه ومنطقه وعودته إلى الصف المسلم وإلى لحمة الجماعة من جديد، لاسيما وأن الدولة المسلمة قد لجأت إلى أسلوب القوة الخشنة الذي كان المعتمد الرئيس في التعامل مع هذه الظاهرة قبل عمر بن عبد العزيز، لكنه لم يحقق الناتج المرجو من القضاء عليها؛ إن المتابعة الواعية لسيرة خاتم الأنبياء محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم تصل بنا إلى قناعة مفادها أنه جاء ليبني الإنسان لا ليهدمه؛ فلولا صبره على عمرو بن العاص وخالد بن الوليد وعثمان بن طلحة وعكرمة بن أبي جهل وأمثالهم ما وجدت فيهم الأمة أبطالا عظامًا يدافعون عن هذا الدين ويسعون إلى إعلاء كلمته ويقدمون أيادي بيضاء في المواجهات مع أعدائه.
نخلص من الطرح آنف الذكر أن تغليب الهوى والانحياز لمصالح ضيقة سلطوية أو غير سلطوية قد يدفع الاختلاف الحاصل بين طرفين أو أكثر إلى أن يتبنى طرف رؤية سلبية للفظة الإرهاب لأجل النيل ممن يعارضه؛ بوصفها حيلة ذات أثر فاعل في إقصاء الخصوم أو محاولة القضاء عليهم بالكلية، ولا شك في أن المعالجة الغربية للفظة الإرهاب تختلف – في الغالب – عن المعالجة العربية الإسلامية لها على سبيل المثال؛ إذ ليس – على سبيل المثال لا الحصر - نهج المقاومة المتبع لتحقيق أهداف وطنية ذات جذور تاريخية وعقدية لأمة مثل الأمة الفلسطينية يمكن نعته بالإرهاب؛ ومن ثم فإن هناك مشكلة بصدد التوظيف التداولي للكلمة الذي غالبًا ما تُستخدم مصحوبة بملفوظ آخر ملازم لها لا ينفك عنها؛ ألا وهو لفظة التطرف، التي يمكن الوقوف على مدلولها من خلال الضد منها؛ ألا وهو لفظة (التوسط) ولفظة (الاعتدال)؛ ففكرة الغلو في التعلق الفكري وانتهاج نمط سلوكي بعينه والقيام بشيء محدد يفضي إلى رؤية تفتقد إلى المرونة أو الإدراك لما في العالم من تعدد واختلاف ألح عليه القرآن في مواضع عدة، منها قوله تعالى " ولو شاءَ ربُّك لآمنَ من في الأرضِ كلهُم جميعا أفأنتَ تُكرهُ الناسَ حتى يكونوا مؤمنين"( )، وقوله تعالى " ولو شاءَ ربُّك لجعلِ الناسَ أمةً واحدةً ولا يزالون مختلفين"( )؛ إن التعامل مع العالم في إطار الفصل الحاد بين طرفي الثنائية المتعارضين (حق وباطل) و(خير وشر) و(مع وضد) على طريقة من ليس معي فهو علي ومن خاصمني وجب قتله يعد مظهرا جليا من مظاهر هذه الرؤية السلبية وما تفرزه من أنساق سلوكية تزكي فكرة الصراع بوجهه الخشن القائم على استخدام السلاح، وبالطبع فإن هذه الوضعية تكرس لسلوك الإقصاء وسيادة رؤية واحدة ابتلاعية للعالم تتعارض وفكرة التعادلية ومنطق الدفع الذي يضفي على العالم توزانه واستقراره ويدعم حركته بإيقاع منتظم ثابت، يمكننا أن نلمح هذه الحال في قوله تعالى: " ولولا دفعُ اللهِ الناسَ بعضَهم ببعض لفسدت الأرضُ"( ) وقوله تعالى:" ولولا دفعُ الله الناسَ بعضَهم ببعض لهدمت صوامعُ وبِيَعٌ وصلواتٌ ومساجدُ يُذكَرُ فيها اسمُ الله كثيرا".( )
إن الرؤية الإسلامية لا تعرف التطرف، بل تؤمن بالوسطية المؤسسة على الحركة المرنة بين طرفي الثنائية المتعارضين دون تجمد أو ثبات في منتصف المسافة الفاصلة بينهما؛ فالروح الإسلامية التي تزكي فكرة الحوار وتعزز لمنطق التعايش وتعلي من فضيلة الجوار تأبى أن يترسخ في جسد الأمة المسلمة مثل هذه الأطروحات السلبية التي تشجع لمنطق من ليس معي فهو علي؛ فقراءة التاريخ والسيرة تمثل مرتكزات مهمة إلى جانب مرجعية النص القرآني في إعلاء صوت هذه الوسطية؛ فنبينا صلى الله عليه وسلم مع تأسيسه لدولة الإسلام بالمدينة يعترف لليهود بحقهم في المواطنة؛ فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وعمر بن الخطاب الخليفة الراشد الثالث يعطي لأهل الكتاب من نصارى بيت المقدس الحق الكامل في الحياة وممارسة الشعائر دون تعقب أو اضطهاد أو إكراه على الدين، فيما عرف في كتب التاريخ بالوثيقة العمرية؛ فلا تنتقص أرض غير المسلمين، ولا تهدم كنائسهم ولا يُقتل شيخهم أو صبيهم ولا تُقتل نساؤهم، والأهم مع كل هذا لا يُكرهون على دين؛ إن عقيدة المسلمين الجهادية تغذيها هذه الروح الوسطية المتسامحة التي تؤمن بحق المختلف/الآخر في الوجود، وتلح عليه؛ فلا يُقتحم بيت على من فيه، ولا تُهدم دار عبادة أو صومعة لراهب، الاعتداء والقتال مكرس موجه فقط ضد  من رفع السيف في وجه المسلم قاصدًا قتله. وبالوقوف المتأمل في آيات القرآن الكريم نجد قوله تعالى " وكذلك جعلناكم أمةً وسَطًَا لتكونوا شهداءَ على الناسِ ويكونَ الرسولُ عليكم شهيدًا"( )؛ والله سبحانه وتعالى يقول أيضا: " والأرضَ وضعها للأنام"( ) ؛ فبما أنه " لا إكراهَ في الدين"( ) فإن الأرض وحق الحياة مكفول للجميع من إنس وجان دون إقصاء أو تمييز، ويترتب على هذا الحق حق ملازم له؛ إنه حرية المعتقد الذي ورد صريحًا في القرآن الكريم في قوله تعالى من سورة الكهف " فمَنْ شاء فليؤمِن ومَنْ شاء فليكفُر"( ).
إن الوسطية موقع مثالي في الرؤية وما يصاحبها من أنساق سلوكية على أرض الواقع، يتيح لصاحبها نظرًا مرنًا وحكما وتقييمًا بمنأى عن نوازع الهوى والتطرف اللذين يرسخان لواقع مأزوم هو ضد الفطرة، ومن هذا المنطلق الوسطي يخاطب ربنا عباده المؤمنين قائلا" " لا ينهاكم اللهُ عن الذين لم يقاتلوكم في الدينِ ولم يُخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسِطوا إليهم إنَّ اللهَ يُحبُ المقسطين. إنما ينهاكم اللهُ عن الذين قاتلوكم في الدينِ وأَخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أنْ تولََّوهم ومن يتولَّهم فأولئك هم الظالمون "( ) .
إن الفضاء التداولي للفظتي الإرهاب والتطرف يعكس في نهاية المطاف حالة مرضية في جسد الأسرة الإنسانية عمومًا، مردها فواعل متشابكة متداخلة تتمثل في تعارض المصلحة وتغليب منطق الإقصاء على حساب الحوار والجوار والتعايش وغياب الوعي في إطار ثنائية أحد طرفيها عقل يحتكر الفكر وطرفها الآخر أدوات عضلية منفذة لناتج هذا العقل دون تأمل ودون تفعيل لعقل، يأتي ذلك في جو يسوده لدى شرائح حزبية وطائفية منطق القطيع التابع الذي يسير خلف قائد متبوع يملي عليه ما يريد ولا يري هذا القطيع إلا ما يرى، ولقد دعا ربنا على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم إلى نبذ هذا المنطق من خلال قوله تعالى: "قل إنما أعظكم بواحدةٍ أنْ تقوموا للهِ مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم مِنْ جِنَّة"( ) ونلمح ذلك في قول عبد الله بن مسعود: " لا تكونوا إمعة تقولون إن أحسن الناس أحسنا وإن ظلموا ظلمنا، ولكن وطنوا أنفسكم إن أحسن الناس أن تحسنوا وإن أساءوا فلا تظلموا".
إن مواجهة هذه الظاهرة (الإرهاب والتطرف) في واقع الأمة المسلمة يحتاج أولا إلى ما يمكن تسميته بالقوة الناعمة التي تتغيا أدوات إقناعية في عمليات غسيل العقول الملوثة بهذه الرؤية السلبية؛ لأن القوة الخشنة إنما تواجه ناتج هذه الرؤية في أرض الناس؛ إنها تخاطب العرض دون أن تتطرق لأصل المرض الذي يسكن العقول ومنه يتحول إلى قوة مدمرة في الواقع؛ إذ الإنسان بصفة عامة لا يمكنه أن يحدث تغييرا في العالم الذي يحياه وغيره من بني جنسه قبل أن يحدث تغييرا في منظومته الفكرية المتمثلة فيما يتبناه من رؤى على المستوى الذهني والوجداني؛ بوصف ذلك مرحلة أولى، وربنا يقول في هذا الشأن: "إنَّ اللهَ لا يغير ما بقومٍ حتى يُغيروا ما بأنفُسِهِم".( )
وفي ظل هذه الحالة التفاعلية بين الفعل (التطرف والإرهاب) ورد الفعل (المواجهة) يبدو الأمر بحاجة إلى صناعة وعي على مستوى البناء الاجتماعي حاكما ومحكوما، عبر سياسات تبتعد عن الهوى وتحارب الجهل الذي يعد بمثابة بيئة خصبة لولادة أفكار رديئة وتفضي إلى أنساق سلوكية تعاني منها المجتمعات بعد ذلك، ومطية هذا الوعي الحاملة له مؤسسات عدة: أسرة، ومدرسة وجامعة، ومسجد، ومنابر إعلامية متعددة مسموعة ومرئية ومقروءة. تمارس هذه المؤسسات دورها وهي متشربة بفكر مستنير وسطي مرجعه صحيح النصوص من كتاب وسنة مصحوبة بفهم دقيق جامع لأقوال المؤتمنين الثقات من الأئمة وسلف الأمة الصالح. يضاف إليها الآتي من ثقافة الآخر من فكر خالص من شوائب العداء والهيمنة والاستحواذ، مع تخلص من وعي قبلي سلبي تبدو أماراته جلية في أشكال التفرق والصراع التي تفت في عضد الجماعة المسلمة الكبيرة؛ بحكم انحيازات محلية ضيقة، كان للاستعمار دور في تغذيتها وإشعالها؛ فالجماعة المسلمة الكبيرة وإن تفرقت بأبنائها السبل والأوطان واللغات والثقافات يجمعها رابط واحد هو رابط الدين؛ فلا فضل لعربي على عجمي إلا بالتقوى؛ فالمؤمنون أولا وأخيرٍا إخوة "إنما المؤمنون إخوة"( ) ولقد حذرنا نبينا صلى الله عليه وسلم من اختلاف يتطور إلى خصومة وجفاء ينتقل بأطرافه إلى عتبة صراع عنيف يقوم على حرص كل فريق على إفناء الفريق الآخر؛ فمن حديث ابن عمر رضي الله عنه نتوقف عند قول نبينا صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع " لا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض"( )   
 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق