الصفحات

2017/12/26

"ذلك الصوت وتلك الرائحة" قصة قصيرة بقلم: د. نجوى غنيم




ذلك الصوت وتلك الرائحة
بقلم: د. نجوى غنيم
ساقاي ترتجفان والعرق يتصبب من وجهي ودموع خرساء تنهمر من عينيّ، حلقة من الزحام حولي، وفتاة صغيرة ممددة على الأرض تحتضر، وعدة سيارات محطمة، أنين وصراخ...وناس تهرول، وكلّ هذا بسببي، نعم بسببي ...فأنا المسؤولة عن كلّ ما حدث، ذهني ممسوح من الرعب، كلّ شيء حدث في ثانية، ورغم كلّ ما جرى لا زال ذلك الصوت يؤرقني ولا زالت تلك الرائحة تزكم أنفي...
كانت أول مرة أشم بها هذه الرائحة الكريهة عندما عدت إلى المنزل بعد انتهاء دوامي، ظننت في البداية أنّها شيء اعتياديّ، رائحة العرق...لكنّها كانت رائحة نفاذة وحتى عندما اغتسلت بقيت عالقة على جسدي، ورغم غسلي للثوب الغالي الذي كنت أرتديه للمرة الأولى بقيت الرائحة تقاوم وتصارع لإثبات وجودها، خطر ببالي أنّ ثمة شيء في المنزل غير نظيف، سارعت لفتح النوافذ والأبواب وشرعت في حملة نظافة طالت كلّ شيء، لكنّ الرائحة المتمردة أبت أن تغادر المكان...لعلّ الغسالة بحاجة لتصليح، استدعيت عاملًا لتصليحها فأخبرني أنّ كلّ شيء بها سليم وأنّها ستصمد عشرين عامًا على الأقل، حاولت وضع معطر للجو لكنّ الرائحة بقيت كما هي، لا بل إنّها تزداد، أضحت هذه الرائحة مصدر أرقي وتعاستي، وبتّ في حالة بحث دائم لمعرفة مصدرها، تحت السرير، في الخزانة، المخزن...لكن بلا جدوى، وتملكني إحساس بأنّ هناك شيئًا خفيًّا أعجز من أن أدرك كنهه وأعيه يحيط بأمر الرائحة، حاولت التذكر متى كانت المرة الأولى التي استنشقت فيها هذه الرائحة، ربما كان ذلك  في اليوم الذي سرقت به مبلغًا من المال مقنعة نفسي أنّه لا حياة بغير تراب، لا حياة بغير خطأ، في ذلك اليوم سمعت صوتًا يناديني لكنّني تجاهلته، كنت بحاجة شديدة لذلك المبلغ لشراء ثياب جديدة، وتوالت السرقات، زجاجة عطر من هنا،وثوب من هناك، وشال ملون من مكان آخر، حدث ذلك دون أن يلاحظ أحد اختفاءها...أو ربما بسبب نفاقي للمديرة فقد تعودت أن أدخل عندها كلّ صباح أحيّيها وأطري على ثيابها وتسريحة شعرها ومجوهراتها، كما يفعل معظم الموظفين، وقد يتطور الحديث فأنقل لها بعض أقاويل الزملاء والزميلات... أو لعلّ هذه الرائحة بدأت ترافقني منذ أن سمعت صوته للمرة الأولى...كنت عائدة إلى المنزل مع صديقتي رؤى في سيارتها الجديدة وكانت صديقتي قد نسيت هاتفها النقال في البيت فطلبت مني أثناء قيادتها أن أتصل بزوجها لأخبره أنّها ستتأخر وأن يذهب لأخذ ابنتها من الحضانة، واتصلت وحالما قلت له:
-أستاذ جميل...
أجابني بصوت هامس: يا روح جميل، يا عيون جميل....
صدمتني عبارته فلم أكن أعرفه وهو بالتأكيد لا يعرفني، فلماذا يحادثني بهذه الطريقة؟ إنّه حتى لا يعرف من المتكلمة، وتعثر صوتي ولكنّني استدركت قائلة: "زوجتك تريد محادثتك " وسلمتها هاتفي على الفور، لكنّ صوته الهامس الأشبه بفحيح أفعى ظلّ يرافقني طول الليل: "يا روح جميل، يا عيون جميل" مرارًا وتكرارًا كأسطوانة تعيد على نفسها، وحاولت نسيان ما حدث، ولم أقل لزميلتي عمّ قاله زوجها، ولكنّه وبعد أيام اتصل بي قائلاً بصوت هامس:
- يا روح جميل، يا عيون جميل.
-كيف حصلت على رقم هاتفي؟
-أين ذكاؤك يا ناهد؟ لقد بقي رقم هاتفك مخزنًا في هاتفي.
-ماذا تريد؟
-أريد أن أقابلك.
-أنت لا تعرف أيّ شيء عني.
-أعرف أشياء كثيرة عنك من زوجتي.
-عليك أن تحترم زوجتك وتحافظ على بيتك وعائلتك.
-قابليني ولو مرة واحدة، أرغب في رؤيتك.
 وتساءلت ماذا يريد هذا الرجل مني؟ ماذا يريد من امرأة تدخل في العقد الرابع بلا زوج، في مجتمع يصر على أن تحمل لقب "عانس"، مجتمع لا يرحم، وأصرّ جميل أن أقابله، ترددت كثيرًا ولكنّني وافقت في النهاية ومنذ تلك اللحظة لم أعد أعرف معنى الراحة، وقفت أمام المرآة، واكتشفت أنّني لا زلت جميلة، قوامي فارع وشعري أسود منسدل على كتفي بنعومة، ترى لماذا وافقت على لقائه؟ ربما لأبرهن لنفسي أنّني لا زلت مرغوبة، وربما لأشفي غليلي فزميلتي كانت دائمًا تتغنى بما يحضره لها زوجها من مجوهرات وهدايا ثمينة وتتحدث عن وفائه وإخلاصه بينما كنت أجلس مستمعة كريمة لهذه وتلك اللواتي كنّ يستفضن بالحديث عن كرم  وحب أزواجهن لهن، وأنا أحترق في مكاني فما من هدية حتى ولو وردة صغيرة، وما من كلمة حب تنعش ذاتي وتشعرني أنني أنثى، إنسان من لحم ودم يرغب أن يعيش ويُحب، كنت أشعر أحيانًا بالحقد يزغرد في صدري ويملأ كياني، واقتربت من المرآة لأرى بضع شعرات بيض بدأت تغزو شعري...سأصبغها وسأرتدي أحلى ثيابي بل سأشتري ثيابًا جديدة وأتعطر بعطر غال وأنتعل حذاء جديدًا...فجأة رأيت والدي يعبر الممر قاصدًا باب المنزل فسارعت لإرجاعه إلى غرفته، فوالدي يزداد وضعه سوءًا يومًا بعد يوم وهو كثير النسيان والشرود، وأمي مقعدة بحاجة لمن يساعدها، ولطالما قالت لي: "سبحان الله أنت لم تتزوجي لتساعدينا  لتكوني يدنا  اليمنى." كنت تلك الفتاة التي تخدم وتساعد الجميع ولا تجد من يساعدها، أساعد الأب والأم والأخوات المتزوجات ونساء الإخوة... كسجادة يدوسها الجميع، وفوق ذلك عليّ أن أتحمل إهاناتهم وانتقاداتهم لأنّني العانس الوحيدة في العائلة، كنت بحاجة إلى همسات حنونة وصدر دافئ ... وقابلت جميل واضطررت للكذب لأخرج للقائه، وللسرقة لأتعطر بعطر ثمين ولارتداء ثياب تليق بالمناسبة...
قابلته ومددت إليه يدي واستقر كفي في كفه ونظراتي في أعماق عينيه،كانت قامته طويلة وابتسامته خفيفة بدا لي أنّه يقاوم ليحتفظ بها، ولهجته تقطر رقة وليونة كملمس الثعبان، أعرف أنّه لم يكن حبًا... فالحب قوة سحرية تربط بين رجل وامرأة، ينبوع السعادة في هذه الحياة، شمس تشرق في أفقين اثنين في وقت واحد، كانت هذه الأفكار تجول بخلدي وأنا أنظر إليه، لكنّه كان الرجل الذي أشعل بنظراته النيران في عروقي وفجّر أنوثتي، كنت جائعة بحاجة إلى حب وحنان وكلمة حلوة، لقد كان جوعًا مختلفًا...جوع يحول الكلاب لذئاب والقطط لنمور، لم أعرف ما الذي انتابني؟ وكيف تحولت من طائر أليف إلى طائر بري؟ وكيف تحول جناحاي لكرابيج ومنقاري إلى سهم؟ لا أعرف كيف حدث هذا؟ تحدثناوشربنا شعرت أنّه يحس بي، وبدأت أدخل عالمه وأغرق في بحره، والتقت نظراتنا كالمغناطيس وضمني في حنان لم أعهده من قبل، أحسست بلذة خبيثة تندلع من صدري ...ليتك يا رؤى هنا لتري إخلاصه ووفاءه، وشعرت كأنما الشياطين اجتمعت حولي لتقيم حفلة و ...
أحسست بدموع حارة في عيني، دموع غريبة لم أعهدها من قبل، دموع ليست كتلك الدموع التي طالما بللت وسادتي، وهوى القرص الأحمر وهوى من بعده ذيوله وحواشيه، وأخذت الظلمة تتسرب رويدًا رويدًا كأنّها اللص يسترق الخطى، وعندما عدت ليلًا بان الشارع طويلًا باردًا معذبًا مثقلًا بالآثام غائمًا مظلمًا لا يكاد ينتهي، ولم أعد أشعر بالاطمئنان ولا بالسكينة تملأ قلبي، ولم أنم ...وحاولت طول الليل أن أصل إلى شواطئ الفجر سابحة في بحار الأرق، ومنذ تلك اللحظة بت أعيش على فوهة بركان، بركان يرتعد ويتصاعد منه الدخان، جوفه ملتهب والنار ستخرج منه وتطيح بكلّ شيء، ولكن لم أكن أعرف متى سيثور؟ صوت يدوي في أذني ورائحة تطاردني بإصرار غريب، ونزف يفيض في أعماقي كحيوان جريح أصيب في صميمه، وبدأ الكذب ينهمر من لساني بشكل طبيعي عندما أريد الخروج لرؤيته، وبتّ أشبه ببطارية مكهربة مشحونة ستنفجر...كنت كمن يركض فوق حقل زجاج مكسر بأقدام عارية، وبدأ جميل يؤجل لقاءاتنا ويخترع الحجج ويبتكر الأعذار، وبدأت أحس أنّ لهفته عليّ قد خفت ...لقد تلاعب بي، كنت دميته المقيدة بخيوط لا مرئيّة، فراشة اكتشفت سقوطها المروع في كمين عنكبوت محنكة، استغل حاجتي إلى الحب والحنان، وسرت في خطى زاحفة كأنني أخوض في السحب، سحب الحيرة، حيرة تتراقص في عيوني وعلامات استفهام تتراقص حولي.
الصوت أشبه بدوي، والرائحة تملأ المكان ...رائحة تعذبني وتطلق شبحًا مخيفًا يلاحقني، خرجت من البيت مسرعة فرارًا من ذلك الصوت وتلك الرائحة ...لكنّهما يلاحقاني في كلّ مكان وزمان، ركبت سيارتي وانطلقت في سرعة مجنونة ألتهم الطريق غير عابئة بالسيارات والناس، فهم من عليهم أن يتفادوني، الصوت يشوش تفكيري والرائحة تجعلني لا أرى أمامي، سرت في سرعة مجنونة غاضبة وفجأة أحسست أنّني ارتطمت بشيء، ثم رأيت جسدًا يعلو ويهبط أمامي وسيارات ترتطم ببعضها، وبدأت أرى أناس يتجمهرون وأصواتهم تعلو وتعلو... ورغم ذلك لا زال ذلك الصوت يؤرقني وتلك الرائحة تزكم أنفي.
* فلسطين   


هناك 3 تعليقات:

  1. د. نجوى غنيم, لقد استمتعت جدا بالقصه! كنت التهم الكلمات بسرعه لان في داخلي امل بالنهايه السعيده والمتوقعه. صفعتني النهايه وزادتي شوقا لقراءه اخرى لكتاباتك. اتمنى لك التقدم دكتوره!

    ردحذف
  2. تعابير جميله جدا .. ووصف اكثر من رائع
    شكرا د.نجوى لاعطاء هذا المنظار فغالبا ما نرى هذه الشريحة من النساء في حياتنا اليوميه ولكن لا نعر اهتماما لمشاعرها أو لما ينقصها من حب ومن حنان .. كل الاحترام

    ردحذف