و
استئناف الكتابة على غاربِ الموتِ
بقلم:
محرز راشدي
على
هامش حادثة الانتحار"نضال غريبي" واستدراكًا على وصيّته المؤثّرة،
نستأنف القول في هذي المواجع، ونستدرك على الجروح بكلماتٍ خرساء ومعانٍ نازفةٍ.
فليس
هيّنًا على النّفس، أن تأخذ قرارًا بشطبِ استمرارها في الوجود الإنسانيّ. إنّه
القرارُ الكارثةُ، الصّادرُ عن كيانٍ بركانيّ، أدركَ رتبةَ الانفجارِ، فكانَ
الانتحارُ انتصارًا على هذه الأطر الجحيميّة اللّعينة.
ليس
عاديًّا، أن يُفكّر المرءُ في إنهاء اسمه وتاريخه وملمحه من إحداثيّات الوجود،
ببرودٍ عقليّ، ثمّ يستعدّ نفسيًّا ومادّيًا، ويجعل الانتحار الفكريّ، القلميّ،
المحبّر على الورق، مشروعًا مُتحقّقًا في أفنان الشّجر.
الكتابةُ،
ما قبلَ الموت، أو الوصيّةُ الأخيرةُ، هي كتابةٌ على التّخوم، تقع على حافّة
الجنون، تطلّ على الهول، تُشارف على الفاجعة، ثمّ تعود إلينا، تخاطبُ فينا العقل
والوجدان، تجلد الأجساد، وتصفع الأذهان، وتوقظ الهاجع والغافل، وتزلف الحلم. إنّها
سطورٌ رجراجةٌ، وكلماتٌ رضراضةٌ، تتحرّك جيئةً وذهابًا بين الوجه والقفا، بين
الإقبال والإدبار، بين الهنا والهناك، بين البيت والقبر.
هذا
المُبدعُ، عارك الحياةَ، وصارع الصّعابَ، وكابد المسافاتِ، لكنّ الطّاقةَ نفدت،
والمخزونَ نضب، والمجهود تضاءلَ، ولم يرَ من هذه الحياة سوى وجهٍ صقيعٍ، ولم
يُحصّل منها إلّا قبضةً من السّرابِ، وأخرى من اليبابِ.
هذا
الشّابُ، عيّنةٌ من شباب المجتمع التونسيّ. شبابٌ ذهبوا في طريق الموت كلّ مذهبٍ،
واختاروا التّصفية الذّاتية، بعد أن أكل اليأس أحشاءهم، وشفطَ القحطُ منابع الأمل
فيهم، ورتع الجراد في قلوبهم الجميلة، وعضّهم الجوع من كلّ جارحةٍ، وندبَ في
كيانهم ندوبه الغائرةَ.
الموتُ
في بلادي ليس مُجرّد استعارةٍ قاتلةٍ تنزلق في الخطابات، بل غولٌ يزرعُ أنيابه في
كلّ مرجٍ، وينشر فواجعه في كلّ عرشٍ، ويترك الكلوم والبثور في كلّ وجهٍ.
الموتُ،
ههنا، ليس مُجرّد قرارٍ ميتافيزيقي، ولا هو توقّف بيولوجيّ يعلن عنه عطبٌ عضال في
الجسد...بل يتجاوز كلّ ذلك ليصير نقاشًا تعيشهُ الذّات مع نفسها، ليستحيل ضجيجًا
روحيًّا، ومعتركًا داخليًّا يصعب إسكات صخبه، ويعسر لجمُ نهمه.
الموتُ
انتحارًا.. الموتُ اختيارًا، بعد التّسآل، والغرق في أوحال السّؤال، وعقب السّفر،
وشقّ صحراء الحياة، بحثًا عن هدفٍ غابرٍ في الفيافي، يُعتبرُ حادثًا تراجيديًّا جللًا.
بالحرفِ،
ينبش المائتُ عن عُدّةِ حتفهِ. بالكلمةِ يتغلغلُ الكائنُ في أنفاقِ النّهايةِ.
بالأسئلةِ الحارقةِ، الكاويةِ، يحفر الكاتبُ بيتهُ عميقًا في باطنِ الأرضِ. لعلّه
يشرقُ في سماء حياتنا لعنةً على هذا البلد الكابوسيّ: بلد الذّبول والشّحوب، وموطن
الملح والكبريت.
شكراااااااااا
ردحذفجيد جدا
ردحذفممتاااااااااااااااااز
ردحذفجيد
ردحذف