التعذيب وممارسات الجيش
الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية
بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفلاقــة
يعتبر كتاب«التعذيب
وممارسات الجيش الفرنسي أثناء ثورة التحرير الجزائرية» لرافائيلا برانش،أحد أهم
الكتب التي سلطت الضوء على أساليب التعذيب المنتهجة من قبل الجيش الفرنسي أثناء
ثورة التحرير الجزائرية،وقد أحدث الكتاب ضجة كبيرة،وجدلاً واسعاً حينما صدرت طبعته
الفرنسية عن منشورات غاليمار سنة:2001م،وتعرضت مؤلفته لانتقادات لاذعة،كما شنت
حملات شعواء ضدها من قبل اليمين الفرنسي
المتطرف،كما ذهب بعض المؤرخين الفرنسيين إلى اتهامها بالاعتماد على«أرشيف
مزور،وشهادات كاذبة هدفها الوحيد الحط من مكانة الجيش الفرنسي».
وقد صدر الكتاب حديثاً في نسخته العربية في طبعة خاصة عن وزارة المجاهدين
الجزائرية،وتولى ترجمته إلى اللغة العربية الأستاذ أحمد بن محمد بكلّي.
إن هذا
الكتاب يعتبر مساهمة ثمينة تكشف النقاب عن ممارسات الجيش الاستعماري،وجرائمه
المرتبكة في حق الأفراد،والجماعات من أبناء الشعب الجزائري،وله أهمية بالغة فيما
يتصل بالمعلومات التي يقدمها عن
الانتهاكات،والجرائم المرتكبة إبان الحقبة الاستعمارية في الجزائر،ويتبدى
من توزيع مادته،والمعلومات التي يعرضها أنه يقدم دراسة وافية عن جرائم الجيش
الاستعماري الفرنسي.
في
المدخل قدمت المؤلفة لمحة تاريخية عن الممارسات،والقوانين الجائرة التي اعتمدها
الفرنسيون منذ احتلال الجزائر سنة:1830م،وأشارت إلى أن الفرنسيين أسسوا مجتمعاً
على قواعد جد جائرة واقعياً،إذ حصل سكان ينتمون إلى خليط بشري على المواطنة
الفرنسية التامة،وبقرارات إدارية سخية سنة:1870م،بينما أطلق على الآخرين تسمية
دينية لا تتلاءم مع الوضع القانوني،ورأت
أن انتفاضة الثامن من ماي1945م هي أول إنذار جدي للسلطات الاستعمارية،وقد
تم التصدي له بأقصى درجة من العنف.
وأشارت إلى أن كتابها هذا لا يتعرض لذكر
الجوانب الدولية للصراع،ولذكر منظمة الجيش السري،بل هو أكثر انحصاراً،ويقتصر على
موضوع محدد هو: «ممارسة التعذيب من قبل الجيش الفرنسي بين نوفمبر1954 ومارس1962م»،حيث اعتبر
التعذيب إبان تلك الفترة وسيلة حرب،وعنفاً مقصوداً،أريد به كسب الحرب،وفي ظل
العلاقات غير المتكافئة التي أسستها الأوضاع الكولونيالية فقد وُجد التعذيب ليُعمر
طويلاً،فهو تعبير مباشر،وجسدي عن أوضاع تسودها علاقة قوة اعتبرت عادية في نظر
الإعلام.
وذكرت رافائيلا برانش أن مكانة التعذيب تطورت
طيلة ثمانية أعوام،وقد اتخذ موقعه في أجوائها مع بقية أشكال العنف غير
المشروعة،وذلك بفضل التسهيلات التي وفرتها تدابير تشريع استثنائي،وابتداءً من سنة:1957م
ارتبط التعذيب بتصور جديد للحرب،وتحول ليصبح السلاح الأساسي في صراع كان يستهدف
السكان الجزائريين بالدرجة الأولى.
و لم يحدث وصول دوغول إلى السلطة قطيعة تذكر في
تاريخ ممارسة التعذيب،فقد واصل الجنرال سالان،ثم الجنرال شال من بعده ترقية أساليب
التعذيب،والحرب ولم يكن هناك وضع أي حد بين المدنيين،والعسكريين،فقد ظل التعذيب
يشغل المكانة المركزية في أساليب الحرب.
الأوجه الجديدة التي اتـخذتها الحرب
في المبحث
الأول من الكتاب،والذي جاء تحت عنوان: «الأوجه
الجديدة التي اتخذتها الحرب1954-1956م»،قدمت المؤلفة في البدء لمحة عن المراحل
التي سبقت هذه المرحلة،وذلك حتى تؤكد على أن سياسة الإجرام الوحشي انتهجت منذ
الأيام الأولى لاحتلال الجزائر سنة:1830م،وليس إبان الثورة التحريرية فقط،فذكرت أن
العمليات العسكرية الأولى التي نُفذت سنة:1830م لم تخل من عنف وحشي،وهذا ما أكدته
التقارير المرفوعة إلى الملك سنة:1833م،حيث أشارت إلى إرسال الناس إلى التعذيب
لمجرد الشك،وبدون أية محاكمة،حيث جاء فيها بلسان ما فعله العساكر في السكان«لقد
أرسلنا أناس إلى التعذيب لمجرد شك،وبدون أية محاكمة،أشخاص تورطهم غير أكيد..لقد
قتلنا أناس يحملون جوازات المرور،وذبحنا أعداداً كبيرة من السكان لمجرد شك قبل أن
يتضح من بعد أنهم أبرياء،وحاكمنا أناس ذو مكانة مرموقة في البلاد كالصالحين،وممن
كان لهم وقار كبير لأنهم امتلكوا الشجاعة الكافية للمجيء أمام عنفنا الجنوني،من
أجل الوساطة لأبناء جلدتهم.فاستقبلناهم بقضاة لمحاكمتهم،ورجال متحضرين
لإعدامهم...في كلمة واحدة فاقت بربريتنا البرابرة الذين جئنا لنحضرهم،ورغم كل هذا
لم نوفق في مهمتنا»(ص:17).
وأكدت المؤلفة في
رصدها للأوجه الجديدة التي اتخذتها الحرب على أن المصادر تعج بالشهادات على ممارسة
التعذيب من قبل مصالح الاستخبارات،وقد تركت في الأرشيف الكثير من الأدلة المفصلة
عن تصرفات بعض ضباط الاستخبار،وهناك الكثير من الروايات التي تم التصريح بها أثناء
الحرب،وكشفت عن تلك الممارسات، وقد أكد أرمون فريمون الذي توجه إلى الجزائر
سنة:1959م أن الجنود ينطلقون وهم على علم
بوجود التعذيب في الجزائر،غير أنهم لا يعلمون بالتحديد إلى أي حد يصل الأمر ،وأكد
على أن التعذيب هو أمر عادي،وجزء من المواد المتوفرة.
وبعد مرور ثلاثة أشهر من الاكتشاف جدد
تأكيده على أن المرور في الجزائر بإحدى الوحدات،ورؤية رجل عار فيها،منتفخ الرأس
بالضربات،وعين مغلقة كلية هي مشاهد كل يوم تقريباً،ولم تعد حتى تسترعي الانتباه.
وفي اليوميات التي اعتنى النقيب بول فوشون
بتسجيلها في الجزائر حينما حل بها يوم:19جويلية1959م عبر في حديث له عن فزعه
الشديد لما شاهده فقال: «ما شاهدته عيناي أكثر مما
في وسعي روايته( هكذا)لكمات،ركلات،وزجاجات موضوعة في
غير موضع،الضغط الكهربائي المرتفع في المواضع...».
وقد عرضت المؤلفة مجموعة من الشهادات لجنود
أصيبوا بالغثيان،والاضطراب الشديد نتيجة لما رأوه من ممارسات إجرامية للجنود
الفرنسيين ضد المواطنين الجزائريين الأبرياء،يعجز اللسان عن وصفها، وقد عبر أحد
الجنود الذي أصيب بالغثيان نتيجة ما شاهده
من استنطاق،وتعذيب شديد للسجناء،والمشتبه فيهم عن هذا الأمر بقوله: «هنا ينبغي
مقاومة التعود على الغثيان،وإلا حُكم على المرء أن لا يستثيره شيء،أي أن ينال به
السأم».
ولاحظت المؤلفة أن أرشيف القوات
البرية لا يستعمل كلمة«تعذيب»،فتعبير«عضلي»هو الأكثر انتشاراً، والأكثر إيحاءً بتعرض الضحية«للضرب المبرح»،منه
لأصناف من العنف الأكثر تفنناً،وبهذا التعبير تتم المساهمة في التهوين من الأفعال
التي يشير إليها،في حين أن عبارة«التعذيب»تكتسي مظهراً من التنديد لا يرغب الجند
في تحمل مسؤولية،كما أن اختيار الكناية يحمل أيضاً دلالة على دوام لغة الحرب،وذكرت
رافائيلا برانش أن المختصين في الاستخبار من درك،وضباط الاستخبار يفضلون استعمال
نعت«الضغط».
ورأت المؤلفة أن الترخيص بإطلاق
النار قد فتح الباب واسعاً للتجاوزات المشروعة،وقد أصبح استعمال عبارة «هارب مقتول»وسيلة
عملية لتغطية اغتيالات عشوائية بغطاء المشروعية،
وتؤكد المؤلفة على أن قتل
الجزائريين منذ أول نوفمبر1954م لم يعد جريمة،بل إنه واجب على الجنود المدعوين إلى
محاربتهم،وتقول عن هذا الموضوع«فقد تحول بعض الجزائريين منذ1نوفمبر1954م إلى(
متمردين)أو( مشتبه فيهم) لم يعد قتلهم جريمة،لكنه واجب على الجنود المدعوين
لمحاربتهم-بشرط أن يمثلوا طبعاً خطراً مباشراً على حياتهم.لكن كيف السبيل إلى
تحديد هذا الخطر؟ألا يمكن أن يشكل( متمرد)هارب خطراً بعد بضعة أيام،أو بضعة أسابيع؟لقد
أدى هذا التبرير بالسلطة الفرنسية إلى السماح بإطلاق النار على عدو هارب،فبسن
شرعية إطلاق النار على الفارين فُتح السبيل إلى اقتراح أعمال لا يمكن التحكم فيها
قط...»(ص:93).
إقامة معايير جديدة من1957إلى منتصف ماي1958
تحت عنوان:«إقامة معايير جديدة من:1957م إلى منتصف ماي1958م»استعرضت المؤلفة العهد
الجديد للحرب الذي بدأ مع الجنرال سالان ابتداءً من شهر ديسمبر1956م،حيث تم اختيار
منهج قمعي شمل الجموع الغفيرة من المدنيين،حيث لم يعد هناك أي تمييز بين
المدنيين،والعسكريين،وقد اتخذت الإجراءات القمعية للجنرال سالان وتيرة متزايدة
ابتداءً من:1957م،فتم التأكيد منذ البداية على أن الحرب التي تواجهها فرنسا تفرض
على الجيش تحمل مسؤوليات تتجاوز بكثير تلك التي دأب عليها تقليدياً،وكانت هناك
قناعة مشتركة بين المسؤولين في أعلى المستويات بضرورة مواكبة التطورات
الإستراتيجية،والتكتيكية ابتداءً من سنة:1957م،واتخذت في هذه المرحلة الهيكلة
الإدارية،والسياسية للوطنيين الجزائريين مكانة جديدة في الحرب،وكانت أول تعليمة
تصدر من مسؤول الناحية العسكرية العاشرة تؤكد للقوات الفرنسية ضرورة تحقيق
هدفين:إبادة التجمعات العسكرية،وتحطيم الهياكل السياسية لدى الخصم،وفي ظرف شهرين
تتابعت خمس تعليمات عامة أخرى تؤكد على النقطتين،وقد وجه الحاكم المدني المسؤول في
الشرق الجزائري في شهر جوان1957م، تعليمة للعساكر الموجودين في عمالته يذكرهم بالالتزام
بالعمل على تحطيم المنظمة السياسية،والإدارية،وتم التركيز من قبل القوات على
المهمة«المضادة للثورة»،حيث تسعى الاستراتيجية الجديدة إلى الحضور المتواصل للقوات
الفرنسية في كافة التراب.
ولتحقيق هذه الاستراتيجية طالب
الجنرال سالان بأعداد إضافية،ولجأ إلى الاغتراف من الرصيد البشري المشكل من
الاحتياط،وتؤكد رافائيلا برانش على أن الجيش الفرنسي لم يعد يستعمل
الوسائل،والمناهج القتالية التقليدية،لكن أصبح يوظف وسائل ذات طابع
إداري،وقانوني،تتمثل أسلحتهم في نصوص
المدونات،والقوانين،والمراسيم،والقرارات،والتعليمات،وقد جازف الجنرال سالان بإعطاء
نصائح محددة تنأى بعض الشيء عن ما يسمح به التشريع الساري،حيث دعا إلى استعمال
المروحيات من أجل القيام بعمليات اختطاف مؤقت مفاجئ لأعداد من السكان يتم تعيينهم
صدفة،أو بعد الاشتباه فيهم من أجل استنطاقهم،أو القيام بعمليات استنطاق
مكثفة،واستغلالها،وإحكام كيفياتها ما أمكن ذلك.
وإلى جانب الأساليب الكلاسيكية التي اتبعتها
مصالح الاستخبار،لم يكن بعض ضباط الاستخبار يترددون في التنكيل،والتعذيب الشديد
الذي يصل إلى التصفية الجسدية للأشخاص المستنطقين،ومع بداية سنة:1957م تحولت
العدالة إلى أداة حرب ثورية مضادة في خدمة الجيش،وأكد سالان على ضرورة دفع الجيش
إلى تسخير الوسائل المناسبة ذات الطابع الإداري،والقضائي بحيث تستجيب النصوص
الإدارية،والقانونية للحاجيات المعبر عنها من قبل العسكر في الميدان،أو التي تبينت
الحاجة إليها عند الممارسة.
وعن وسائل الاستنطاق المستخدمة من قبل الجيش
الفرنسي تقول المؤلفة«كانت الوسائل المستعملة عنيفة ضرب،كهرباء،صرخات،تهديد بالقتل
بواسطة التلويح بمسدس.الهدف الوحيد هو حرمان الرجل من التفكير،حرمانه بكل الوسائل
من استعادة لبه».
العسكر من منتصف1958 إلى نـهاية1959 حالة لا عقاب واسعة
خصصت المؤلفة المبحث الثالث من الكتاب للحديث عن
المنعطف الذي وقع في شهر ماي:1958م، في التاريخ السياسي الفرنسي،وأشارت إلى أن
شؤون الجزائر لم تتسبب في مجرد سقوط الحكومة،بل في حلول نظام جديد،بعد استقالة
رئيس الحكومة بيير بفليملان،واستبداله بشارل دوغول ،وبعد أن أسهم الجيش في الإسراع
بسقوط إحدى الجمهوريات كانت هيمنته ثقيلة على الجمهورية الموالية طيلة الأشهر
الأولى،وشجعت قيادة الأركان تطوير هيكل لتنسيق عمل مختلف القوات النظامية التي زج
بها في قمع التنظيم السياسي،والإداري،وسمي هذا الهيكل ب:مراكز
الاستخبار،والعمل،وتذكر المؤلفة أن ممارسة التعذيب استعملت،ورخص بها في مواطن كثيرة
إلى درجة أن الحدود بين الشرعية،واللا شرعية تبدو وكأنها قد تم توسيعها،وبفضل
سيطرة السلطة العسكرية ابتداءً من جوان:1958م تم توسيع المنطقيات التي تتحكم فيها
إلى أبعد النقاط الممكنة.
تحية مباركة لشخص الدكتور الفاضل محمد سيف الإسلام بو فلاقة ونتمنى لكم المزيد من النجاح، ونتابع منشوراتكم عن كثب. الله يوفق شعب الجزائر شعب الانتفاضات ضد المستعمرين ويحفظ على الشعب نزعته الغيورة على الدين والقيم السامية.
ردحذفبارك الله فيكم.
ونتمنى رابطًا لسيادتك للتواصل معك.