الصفحات

2018/05/10

اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليمية اللغات -وقفة مع منظور حسن مالك- بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقــــــة



 اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليمية اللغات
-وقفة مع منظور حسن مالك-
بقلم: الدكتور محمد سيف الإسلام بوفلاقــــــة
          تتنزل اللسانيات التطبيقية في إطار عام يرتبط باللسانيات العامة،وتتميز عنها في تأديتها دوراً بارزاً في تحليل العملية التعليمية وترقيتها،حيث إنها تجيب على مختلف التساؤلات العلمية والبيداغوجية التي تواجه معلم اللغة،واللسانيات التطبيقية لا تقتصر على جانب واحد فقط الذي يحصره البعض في التعليمية،بل تنفتح على الكثير من الحقول المعرفية،مثل:صناعة المعاجم واللسانيات الآلية،واللسانيات الاجتماعية والنفسية،والتخطيط اللغوي، والتحليل الأسلوبي،  والإلقاء، وعيوب النطق و أمراض الكلام،  إضافة إلى أنظمة الكتابة، وعلم اللغة الإحصائي، وتعدد اللغات في المجتمع ، والترجمة التي يعدها الكثير من المتخصصين في هذا المجال ميداناً خصباً لاستثمار التجربة العالمية في مجال اللسانيات التطبيقية و اللسانيات التقابلية التي توظف بشكل كبير لترقية طرائق تعليم اللغات ومن ثمة تعليم الترجمة، وفي هذا الصدد يقول  الدكتور أحمد حساني:«فإن اللسانيات التقابلية بوصفها فرعاً من اللسانيات التطبيقية لها شرعية الحضور الإلزامي في حقل الترجمة لتقدم إجابات علمية كافية ومعززة،مرجعياً وإجرائياً،لكثير من الأسئلة التي تثيرها إشكالية التداخل بين الألسن،ولتذلل الصعوبات والعوائق التي تعترض الأستاذ أو الطالب أو هما معا في الوسط التعليمي للترجمة بوصفه وسطاً متعدد الألسن والثقافات.
        إن أدنى تأمل في المسار الذي سلكته اللسانيات في جيلها الثاني(اللسانيات التطبيقية،واللسانيات التداولية،واللسانيات النصية،ولسانيات المدونة،ولسانيات الملفوظ...)يهدي إلى أن اللسانيات التقابلية هي فرع من اللسانيات التطبيقية أخذت مسارها العلمي في الولايات المتحدة الأمريكية بخاصة ابتداءً من سنة:1950م،كانت في بداية أمرها مقارنة دقيقة بين لغتين على المستوى الصوتي والتركيبي والدلالي من أجل إبراز أوجه الاختلاف والتمايز،ومن ثمة وضع طرائق تعليمية لتذليل الصعوبات التي تعترض المتعلم للغة أجنبية تختلف عن لغته الأم ».
        في كتاب:«اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليم وتعلم اللغات» يقدم الدكتور حسن مالك دراسة عميقة عن اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليم وتعلم اللغات،فهو يرمي من خلال كتابه هذا إلى إطلاع القارئ العربي على الوضع الإبستيمولوجي لهذا التخصص العلمي الجديد على مستوى الخريطة المعرفية العربية المعاصرة،ويسعى إلى تقديم تعريفات علمية عن حدوده ومجالاته وعلاقته بالفروع العلمية المجاورة له،رغبة منه في سد الفراغ العلمي الكبير الذي تعاني منه المكتبة العربية في مجالات البحث الخاصة باللسانيات التطبيقية،حيث يقول في مقدمة الكتاب«لا ندعي أن هذا الكتاب-الذي نروم فيه ربط قضايا تعليم وتعلم اللغات بأهم فرضيات ونظريات اللسانيات التطبيقية-يغطي جميع المجالات المرتبطة بعلم اللسانيات التطبيقية بكل فروعه ونظرياته المتعددة،فهذا من الصعوبة بمكان بالنسبة لأي مؤلف مهما بلغ حجمه أو الجهد المبذول في تأليفه.بل إن هذا المؤلف لا يعدو أن يكون محاولة متواضعة لعرض وجهات نظر مختلفة-وفق منهج نظري تحليلي-حول قضايا تعليم وتعلم اللغات سواء تلك المرتبطة بنظريات سيكولوجية ولسانية أسهمت بشكل كبير في النقاش النظري والفكري الذي عرفه حقل تعليم وتعلم اللغات،أو تلك المتعلقة بفرضيات ونظريات لسانية تطبيقية أسهمت هي الأخرى في تطوير الحقل العلمي من خلال تقديم حلول علمية لمختلف الإشكالات التطبيقية المرتبطة به.
   إن هذا الكتاب يهدف بصفة عامة إلى تقديم تصور معرفي منطقي وواضح لبعض جوانب اللسانيات التطبيقية،وهو تصور قد يمكن القارئ العربي من استجلاء بعض الحقائق والمعطيات العلمية الخاصة بهذا التخصص العلمي الحديث»)1(.
  التطورات النظرية في مـجال تعليم وتعلم اللغات
       يتضح من توزيع مادة الكتاب،وطبيعة المعلومات والقضايا التي يناقشها ويعرضها أنه يقدم للقارئ بحثاً وافياً،ودراسة متكاملة لإشكاليات اللسانيات التطبيقية وتعليمية اللغات.
      اهتم المؤلف في الفصل الأول من الكتاب ب«التطورات النظرية في مجال تعليم وتعلم اللغات»،فقدم متابعة مستفيضة انطلاقاً من النظريات السلوكية التي ظهرت مع بداية القرن العشرين على يد العالم الروسي(بافلوف)،والتي تبلورت فيما بعد وطبقت في مجالات التعلم الإنساني في المدرسة والمجتمع،ومن مبادئها الأساسية:اعتبارها الإنسان شبيهاً بالآلة المعقدة،واقتصارها على دراسة السلوك الخارجي للإنسان،ورفضها منهج التأمل الباطني(الاستبطان).
         يُلاحظ على الفصل الأول من الكتاب تركيزه على النظريات اللسانية وتعليمية اللغات وتعلمها،فقد تطرق المؤلف في هذا القسم إلى الأسس المنهجية التي ترتبط بثلاث نظريات رئيسة هي:الاتجاه البنيوي،والنظرية التوليدية التحويلية،ونظرية النحو الوظيفي.
            فالاتجاه البنيوي يتجلى في تفسيرات«دوسوسير(1857-1913م)»صاحب كتاب«دروس في اللسانيات العامة»الذي صدر سنة:1916م،وأحدث ثورة منهجية حقيقية من خلال وضعه لأسس دقيقة ترتبط بموضوع اللسانيات ومنهجها ،وهذا ما يختلف عن المراحل السابقة التي كانت تهتم بالنحو التقليدي المعياري،وبفقه اللغة،فجهود«دوسوسير»كُللت بالنجاح وكان لها الفضل في دخول الدراسات اللغوية مرحلة الضبط العلمي،ويعود الفضل في ظهور اللسانيات الحديثة إلى نظريته البنيوية التي طُبقت في معالجة الكثير من المنجزات الفكرية«ففي سياق تحديده لموضوع اللسانيات وظف(دوسوسير)مصطلح(نسق)عوض مصطلح(بنية)كما اهتم باللسانيات الداخلية التي تدرس نسق اللغة وقواعدها عوض اللسانيات الخارجية التي تدرس تطور اللغات واللهجات وتوزيعها الجغرافي وعلاقتها بالسياسة والمجتمع والثقافة.
      وقد ميز(دوسوسير)بين بعدين أساسيين في دراسة اللغة هما: (اللغة)و(الكلام)أي بين(نسق اللغة) الذي هو سابق في وجوده عن استخدام الكلمات والممارسة الفعلية التي هي تلفظ فردي،فاللغة طبقاً لثنائية(اللغة)و(الكلام)هي نظام من الرموز المختلفة التي تشير إلى أفكار مختلفة،وهي مجموع المصطلحات التي يتواضع عليها أفراد المجتمع لإتاحة الفرصة أمامهم لممارسة ملكاتهم،أما الكلام فهو التحقق الفردي لهذا النسق في الحالات الفعلية من اللغة»)2(.
        لقد ترتب عن تمييز(دوسوسير)بين اللسانيات الداخلية واللسانيات الخارجية نجاحه في التفريق بين الدراسة التزامنية و الدراسة التعاقبية(التاريخية)،وهذا ما مكنه من تقديم منهج واضح في دراسة اللغة.
        وقد وجهت النظرية التوليدية التحويلية انتقادات للمدرسة البنيوية ومنهجها الشكلي في التحليل اللغوي،وبنى مؤسسها(نعام تشومسكي) أسسها على مجموعة من المفاهيم والتصورات النظرية من أبرزها: اعتبار اللسانيات علماً معرفياً يندرج في سياق الدراسة النفسية والبيولوجية،إضافة إلى الاعتماد على الوسائل التقنية والرمزية بصفتها دعامة أساسية لتأسيس اللسانيات تأسيساً رياضياً يقطع الصلة مع اللسانيات التقليدية،مع الاهتمام بدراسة اللغة في علاقتها بالعقل،أي أن اللغة تعكس القدرات العقلية للإنسان،كما أكد على أن اللغة ظاهرة فطرية أكثر مما هي مكتسبة،حيث إنها نظام معقد يتشكل من مجموعة من الرموز والمعاني التي تنتج من قبل الفرد بطريقة فطرية،وبمعزل عن أية مراقبة،فاكتساب اللغة عملية فطرية تتصل بمبادئ النحو الكلي المشترك بين جميع البشر الذي يعتبر قاعدة جميع اللغات البشرية،والبشر هم وحدهم الذين يمتلكون هذا النحو،فهم وحدهم من يتمكن من تعلم اللغات.
         أما نظرية النحو الوظيفي التي أرسى دعائمها اللساني الهولندي(سيمون ديك)فهي تسعى إلى دراسة الخصائص الصوتية للغة الطبيعية بربطها بالتواصل باعتباره وظيفة مركزية،وقد حدد النحو الوظيفي هدف اللسانيات في وصف القدرة التواصلية لمستعملي اللغة الطبيعية،ومن السمات الأساسية التي يتسم بها نموذج النحو الوظيفي أنه«يسلم بصعوبة البحث في خصائص اللغة الطبيعية بمعزل عن وظيفة التواصل،وينظر إلى القدرة اللغوية باعتبارها قدرة تواصلية تشتمل على القواعد التركيبية والقواعد الدلالية والقواعد الصوتية والقواعد التداولية،ويعتبر الكليات اللغوية وكأنها مجموعة من المبادئ التي تربط الخصائص الصورية للغة الطبيعية بوظيفة التواصل،وبذلك يعتبرها كليات صورية وظيفية،ويحتل المستوى التداولي مركز الصدارة في هذا النموذج،فهو يسمح إلى جانب المستوى الدلالي بتمثيل الخصائص الممثل لها في المستوى التركيبي-المعرفي»)3(.  
      والهدف الرئيس الذي يسعى إليه النحو الوظيفي هو تحقيق ثلاثة أصناف من الكفايات حددت في:الكفاية النفسية،والكفاية التداولية،والكفاية النمطية.
تعليم اللغات وتعلمها في ضوء اللسانيات التطبيقية
         حرص المؤلف في الفصل الثاني من الكتاب على معالجة الكثير من المسائل الدقيقة التي ترتبط ب«تعليم اللغات وتعلمها في ضوء اللسانيات التطبيقية»،وقدم عرضاً متميزاً عن العلاقة بين اللسانيات التطبيقية واللسانيات النظرية التي يذهب عدد كبير من الدارسين إلى وصفها بأنها تجسد اللسانيات النظرية وتطبقها عملياً،فاللسانيات التطبيقية تعول على اللسانيات النظرية في حل المشاكل العلمية التي ترتبط باللغة،وهي علم قائم بذاته،وقد نجح هذا العلم في إنتاج نظريات وفرضيات تصلح لمعالجة الإشكالات التطبيقية في مجال تعليم اللغات وتعلمها،فهو ميدان علمي وتعليمي في آن واحد كما يصفه مؤلف الكتاب،وقد حدد المؤلف بدقة مجموعة من المبادئ والخصائص التي تتميز بها اللسانيات التطبيقية،منها:البرجماتية،فهي تسعى إلى تلبية الحاجيات المتزايدة التي تتعلق بتعليم اللغات،ولاسيما منها لغات الاختصاص أو ما يطلق عليها اللغات الوظيفية المختصة،إضافة إلى أنها انتقائية،وتتصف بالفعالية في وضع المناهج المتكاملة،واختبار الطرائق الأكثر فعالية وملاءمة في التدريس.
          و مما يسجل لمؤلف الكتاب أنه تحدث باستفاضة وبمنهجية سليمة عن اللسانيات العربية ومجالات تعليم اللغة العربية وتعلمها،فقد استطاع الدكتور حسن مالك أن يتجاوز المنحى الضيق،وقدم معالجة شاملة للموضوع وفقاً لنظرة موسعة،وأشار في البدء إلى النشاط الذي عرفته الأبحاث اللسانية العربية بشكل مكثف،والتي أسهمت في إثراء المكتبة العربية بأبحاث ودراسات متنوعة ومتميزة ،لعل أبرزها أبحاث الدكتور عبد القادر الفاسي الفهري،الذي يرى في تشخيصه لوضعية اللغة العربية أن ما يلفت النظر هو أن الأدوات الأساسية لتعليمها وتيسير استعمالها والتفقه فيها لم تحظ بالتجديد الذي حظيت به مثيلاتها من اللغات الأخرى،بل ما زال القاموس هو قاموس القرن الثاني الهجري(أو الرابع في أحسن الأحوال)تصوراً وتأليفاً ومادة،ومازالت قواعد اللغة هي قواعد نحاة القرن الثاني،وفي نظره أن هم اللساني العربي ليس فقط أن يعيد النظر في تصور طبيعة اللغة العربية وخصائصها والمناهج الكفيلة بمعالجتها،بل هو مطالب   برسم الأدوات اللائقة بتنمية طاقة المستعمل،علاوة على أنه مطالب بالبحث في وسائل تطويع اللغة لجعلها لغة وظيفية.
       وقد أولى الدكتور حسن مالك أهمية خاصة للفرضيات التي تقدمها اللسانيات التطبيقية في مجال تعليمية اللغات،وقام بتحليلها بعمق،وتحدث عن أسسها،وخصائصها،ومن أهم هذه الفرضيات فرضية التحليل التقابلي،التي تفيد في تقويم المحتوى اللغوي والثقافي في الكتاب التعليمي،وتساعد في التشخيص الدقيق للصعوبات التي تواجه المتعلم.
الهوامش:
(1)د.حسن مالك:اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليم وتعلم اللغات،منشورات مقاربات،فاس،المغرب الأقصى،الطبعة الأولى،2013م،ص:3-4.
(2) د.حسن مالك:اللسانيات التطبيقية وقضايا تعليم وتعلم اللغات،ص:27. 
(3) د.حسن مالك:المرجع نفسه،ص:46-47.  



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق