الصفحات

2018/06/08

لقيمات قصة بقلم: د. نجوى غنيم



لقيمات
 د. نجوى غنيم 
                               (فلسطين)
اتجه حفيده  الصغير نحو الحنفية وبدأ يغسل وجهه، أحنى رأسه وترك الماء ينصب فوقه بقوة كأنّما يحاول أن يطفئ نارًا تندلع فيها، تمضمض أكثر من مرة ليخفف من عطشه.
-ألا زلت صائمًا؟
-نعم يا جدي، لقد كبرت لن أصوم "درجات المئذنة"، سأكمل صيام النهار كله.
ابتسم الجد وتشبث بالذاكرة يحاول الامساك بلحظة قديمة تسكن ذاكرته مستحضرًا لحظات من الماضي البعيد متسربة من بين شقوق الزمن...
                                                     ********
-أخرج لسانك كله.
يخرج لسانه فيرى عبد الحميد أنّه يجنح نحو البياض ...
-نعم، صحيحأنت صائم.
يركض صديقه ويهرول وراءه مسرعًا، وما هي إلاّ دقائق حتى يتوارى في أحد الممرات..
استدارفجأة وأنصت إلى نبض روحه الهائمة في تلك الأزقة النابضة بالأصالة، ارتاد متاهات متشابهة المسالك، سار في دروب عتيقة صامدة أمام الزمن في السوق القديم، احتوته طرقها الملتويّة الضيقة، وهبّت ريح أسطوريّة مليئة بروائح البخور متخمة بالعطور والألوان، واستوقفه محل صغير بالقرب من المدرسة...
كانت الكرات الهشة السابحة في زيت غزير تشده، يخرجها العم أبو كايد بحركة سريعة تبهر الزبائن ثم يغرفها في إناء مملوء بالقطر، لكم أدهشه كيف يتحول العجين إلى كرات لامعة ذات شكل دائريّ، كانت كرات الزلابية بالنسبة له عملاً فنيًّا إبداعيًّا، ينظر إلى يدي العم أبي كايد الماهرتين الخبيرتين اللتين تعودتا على تقطيع العجين بسرعة بالملعقة منتجة كرات متشابهة من الزلابية كأنها صنع آلة، راقبه بدقة كيف يعدّ العجينة وكيف يسقطها في الزيت المغلي ...
حلقه جاف، شفتاه يابستان كأنهما استحالتا إلى قطعتين من الخشب، رمضان حار هذه السنة، والرطوبة ثقيلة تكتم الأنفاس والريح راكدة إلاّ من هبات خفيفة كأنّما تحركها مروحة في يد مسترخية متكاسلة، منذ أيام وهويصوم بطريقة درجات الجامع، أي الصيام التدريجيّ فصام حتى العاشرة صباحًا ثم حتى الثانية عشرة ظهرًا، واليوم قرر أن يصوم النهار بأكمله رغم ان هذه اللقيمات التي يعدها أبو كايد تغريه بدلالها، لكنّه سيصبر ويتجلد..
-         تعال يا شاطر
تقدم منه وقال: نعم يا عمي.
ومن خلف ابتسامة رائقة قال: أتريد لقيمات؟
هزّ برأسه وقال: ولكنّني صائم.
-حسنًا، يمكنك تناولها بعد الإفطار.
ناولهبضع لقيمات ذهبيّة، فتفجرت في نفسه ينابيع البهجة كمن تلقى هدية لا تقدر بثمن، غمرته سعادة لامست قلبه ووجدانه، عاد إلى بيته عبر الطرقات العتيقة التي تشكل شرايين المدينة وعوالمها السريّة..
تعالى صوت المؤذن: "الله وأكبر...الله وأكبر"..
وصلت الذاكرة إلى منتهاها، تجمدت اللحظة التي ابتلعها الزمن منذ سنوات، خامره شعور عارم بالفرح وداعبه الهواء وذكريات طفولة عالقة بجدار الروح.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق